عطيل في المهجع رقم 4

2020.02.14 | 23:01 دمشق

chgru3y5yjxsltjkf7bows1m50xa1x63fi9q6psg.jpeg
+A
حجم الخط
-A

بعدها كرّت المسبحة. قدّمنا عددا كبيرا من المشاهد المسرحية الضاحكة ومن المسرحيات، من بينها "الفيل يا ملك الزمان" لسعد الله ونوس، ويوليوس قيصر لشكسبير، وكوميديا عطيل، وهو نصّ مسرحي أعددْتُه اقتباسا عن شكسبير، حوّلت فيه – بوقاحة – تراجيديا شكسبير العظيمة إلى ملهاة.

وفي سجن صيدنايا أعددنا عملا مسرحيا عن قصة اللجنة لصنع الله إبراهيم أعدّه وأخرجه ممثّل ومخرج حقيقي هذه المرّة: بدر زكريا، أحد أهمّ من أثّر بي في السنوات الأخيرة من السجن. حين اعتقل بدر كان قد تخرّج مهندسا زراعيا وتزوج من حبيبة عمره، وفي أوقات فراغه كان يعمل مخرجا وممثلا مسرحيا في مدينته الصغيرة جبلة، بريف اللاذقية.  كان بدر مصدرا أبديا للبهجة، بحضوره البهي ولماحته ونكتته الحاضرة.  كان يسعدنا جميعا ويضحكنا جميعا، ولكنه في أحايين كثيرة كان، حين يأوي إلى عازله ليلا، يبكي، بصمت محاذرا أن يزعج أيا منا.

في صيدنايا كان وضعُنا أفضل بما لا يقاس، في أيدينا ملابس وأقمشة للأزياء وألوان للمكياج وعلب كرتون للديكور وقد أخذنا مهجعا كاملا للبروفات والعروض، ثمّ تفتقت عبقرية بدر فقصقص علبة كرتون وصنع منها تذاكر للدخول. وعلّق رفيقنا

العقبة كانت الأدوار النسائية، والحلّ كان إما في تحوير النص بحيث تقدم هذه الأدوار بصفة الغائب من خلال الحديث عنها، أو تحويل بعض الأدوار الهامشية إلى أدوار ذكورية.

الجميل محمد إبراهيم قائلا: "يا شباب، أنا أحسست وأنا أمسك التذكرة أنني واقف على باب المسرح، منتظرا صديقتي لمشاهدة العرض."

العقبة كانت الأدوار النسائية، والحلّ كان إما في تحوير النص بحيث تقدم هذه الأدوار بصفة الغائب من خلال الحديث عنها، أو تحويل بعض الأدوار الهامشية إلى أدوار ذكورية، أو أخيرا بتطوع بعض الشباب بتأدية هذه الأدوار إن لم يكن بد من إظهارها على المسرح.

سيتكشّف المسرح عن مواهب فنية حقيقية في التمثيل. من بين الممثّلين أذهلني ثلاثة بعينهم: أيمن قاروط وطلال مارتيونس ومنصور المنصور.

سأتذكر إلى الأبد أيمن وهو يلعب دور عبد المطلّب في "الممثلون يتراشقون الحجارة"، ويلقي الحوار بصوت عميق مفخّم يلقي في روع المشاهدين عظمة وجلالا حقيقيين. أما طلال، الذي كان طالب طبّ في السنة الخامسة حين اعتقل، فتألّق بأدوار كثيرة، ولكنه سيسكن في خيالي وهو يؤدّي دور ديدمونة في كوميديا عطيل، حين هوى تحت أقدام عطيل، يطلب منه الرحمة، قالبا المأساة إلى ملهاة لطيفة لامست شغاف قلوبنا جميعا. كان من الموهبة والذكاء ما جعلنا نقذف قلوبنا خارج صدورنا من الضحك. حين سيخرج من السجن سيكمل دراسته ويغدو طبيبا مرموقا، ولكنه سيبتعد عنا جميعا؛ أبحث عنه اليوم فلا أجده سوى اسم على فيسبوك. 

منصور أيضا أثبت حضورا على المسرح في أكثر من دور. ولكن لمنصور موهبة أخرى، إنه قادر على إطفاء أي نار تشتعل وتحويل أي عدو إلى صديق، بكمّ الهدوء والصدق والنبل الذي يحمله. لم يكن يحبّ الكلام كثيرا ولكنه يصغي بشكل جيد جدا. ومثلنا جميعا، أطلق عليه عماد كنية: "أبو خلف". وليس من دون سبب.

أمضى منصور سنة لم ير فيها أهله ولم يسمع منهم شيئا. وفي يوم كان منصور نائما يلاعب الملاكة الصغار، حين فتح باب المهجع وأطل وجه سجّان أليف، ووقف مبتسما، وكأن في جعبته خبرا ظريفا.

"منصور منصور." نادى!

"حاضر"، قال منصور، وقد أفاق من النوم لتوه، متوجسا، قلقا.

"زيارة!" أردف السجان ومضى.

نزل الخبر كنجم هوى. انقضضنا جميعا على منصور، نزيل عنه آثار النوم، نلبسه ونسرح له شعره، وندفع به إلى الباب بانتظار عودة السجان ليصحبه إلى زيارة أهله. لم يكن بيننا من يُزار بشكل دوري، فكانت الزيارة حدثا جللا. عاد السجّان وأخذ معه منصور، وبقينا نحن ننتظر. ننتظر ابتسامة وخبرا، وربما كبّة وجميدا، من يدري؟ بعد عشر دقائق عاد السجان ومعه منصور. كان وجهه أبيض شاحبا وعليه جمود وقنوط. هبطنا عليه نسأله.

"ليسوا أهلي"

"نعم؟؟"

"ليسوا أهلي"

ثمّ روى لنا الحكاية. قال: "أدخلني السجان إلى بهو الزيارة. خلف الشبك، كان ثمة امرأة ورجل وشابان وصبية. وقفت أتأملهم وأتساءل: "ما الذي جرى؟ كيف تغيرت أمي إلى هذا الحد، وكيف تضاءلت قامة أبي المديدة؟ وهل صبغ شعره؟ أبي مديد وأشيب وهذا الرجل قصير وأسود الشعر. والأولاد؟ أيهم محمد؟ وأيهم معاذ؟ قال لي المساعد بلطف مصطنع: "لم لا تسلم على أهلك؟" أخيرا تجرأت: ليسوا أهلي." صرخ: "شو.؟؟!!" دخل العقيد وسألني عن اسمي الكامل. "منصور أحمد منصور." العائلة التي أمامي لمنصور آخر: منصور خلف منصور." ولا أذكر الآن إن عاد منصور للنوم أملا. ولكنه بدا ثملا بضعة أيام. أما عماد، فأطلق

جميعنا كره السجن، ولكن منصور كان أكثرنا كرها له. كان يكنّ للهواء النقي احتراما خاصّا.

عليه منذ ذلك اليوم كنية "أبو خلف". أما نحن فبتنا بلا كبّة ولا جميد. سيكتشّف منصور لاحقا عن قاصٍّ مبدع، وحين اضطرته الظروف إلى السفر إلى السويد، وجد لنفسه مكانة تليق بها، وهو الآن كاتب مرموق، تحتفي به المراكز الثقافية وتترجم كتبه.

جميعنا كره السجن، ولكن منصور كان أكثرنا كرها له. كان يكنّ للهواء النقي احتراما خاصّا، ويحن ليقطع التيار الكهربائي ويكفّ الشفّاط عن سحب الهواء الفاسد من المهجع، كان يتملّكه اكتئاب شديد، ويبقي بنفسه عند باب المهجع، واضعا أنفه عند أسف الباب يتنشق الهواء الذي يتسلل ببطء من الخارج، ولم يكن على أي حال أفضل كثيرا من هواء الداخل. حين وصلتنا في إحدى الزيارات في صيدنايا أخبار شبه مؤكّدة عن إطلاق سراحنا، كان هو وأبو عزيز أكثر المتفائلين، مرّت عدّة أيام ولم يُفتح باب الجناح لإطلاق سراحنا: الإثنين، الثلاثاء، الأربعاء، الخميس. شعر منصور بثقل هائل في قلبه. يوم الجمعة يوم عطلة لن يخلى سبيلنا فيه. يوم السبت، أولَّ أيام الأسبوع، نهض مبكّرا، وارتدى بنطالا وقميصا وحذاء، وخرج إلى الممرّ يتمشّى كأنه ينتظر زيارته، ولكنه كان ينتظر إخلاء السبيل، ثمّ لحق به أبو عزيز وآخرون. صار الأمر احتفاليا، وضغطت فكرة الحرية علينا جميعا إلى حدّ القتل. وصرنا كلّما اقترب سجان من باب الجناح، نتطلع إليه بترقّب ولهفة ووَجل. مرّت الساعات بطيئة، وجاء المساء، وأغلق السجانون أبواب المهاجع علينا من جديد، وأرخى العالم الخارجي بثقله كلّه على منصور، فانكفأ إلى عازله بوحشة مديدة ساحقة، وحاول أن يحلم بالشوارع والأرصفة والفتيات الفاتنات وأمّه وتلك الفتاة الصغيرة اللطيفة التي أحبها في كليّة الهندسة بجامعة اللاذقية، وركضا سوية على شاطئ اللاذقية، وغنّت له بصوت أليف وجميل أغاني فيروز، قبل أن تتركه فجأة، وتحبّ أقرب أصدقائه، الذي لم يخجل من مصاحبتها، وحين كانا يختلفان، كانت تأتي إليه هو لتبكي بين ذراعيه. حاول أن يحلم بذلك كلّه ولكن لم يستطع؛ حتّى الحلم تأبّى عليه في تلك الليلة. أمّا أبو عزيز فراح يروي قصصه ونكاته ويفرّغ الشحنة التي كادت تمسّ به عن طريق الحكاية. وقريبا جدا منه في المكان، ولكن بعيدا جدا في الزمان، كان حسن حسن، الفنان الجميل الصامت دوما، القادر على يتبرّع بحصّته من الفاكهة (ربع تفاحة أو ثلث برتقالة)، وحصّته من الشوكولاتة وبيوم من عمره، ربما، لمن يطلبه منا. كان حسن ينهي لوحة بدأها قبل أيّام، يضيّق عينيه ليرى اللوحة بشكل أفضل، ثمّ يضعها جانبا ويسرح مع ابنته حنين التي ولدت وهو في المعتقل. وحيت يرضى عن اللوحة أخيرا، يعود إلى عالمنا فيصغي إلى نكاتنا وحكاياتنا، وتبرق علينا الجميلتان بألق ساحر.