"عضو مجهول الهوية".. الغموض الرقمي وأثره على المرأة والمجتمع

2024.11.28 | 06:40 دمشق

آخر تحديث: 28.11.2024 | 06:40 دمشق

855557
+A
حجم الخط
-A

"اسأل مجرّب ولا تسأل حكيم".. هكذا عبّرت إحدى السيدات عن رأيها في المجموعات النسائية المغلقة على منصة فيس بوك، التي تُعنى بطرح المشكلات العائلية والشخصية.
تقول السيدة في منشور لها تحت اسم "عضو مجهول الهوية" إنها استفادت كثيراً من هذه المجموعات، وخاصةً تلك التي تُشرف عليها متخصّصات في الاستشارات الأسرية والمرشدات النفسية والباحثات الاجتماعيات.
تضيف السيدة: "عندما عرضت مشكلتي مع زوجي وجدت في التعليقات دعماً وحلولاً من سيدات مررنَ بتجارب مشابهة، حتى أنني بدأت أغير بعض عاداتي التي لم أكن أدرك أنها مرتبطة بمشكلات تراكمت على مدى السنين"، مؤكدةً أن مثل هذه المجموعات وفّرت عليها تكاليف الاستشارات الخاصة التي قد تكون باهظة بعض الشيء.

تُعتبر وسائل التواصل الاجتماعي اليوم منصات مفتوحة للتعبير عن الرأي ومشاركة الأفكار والتجارب الشخصية.
في السنوات الأخيرة، شهدنا ظاهرةً لافتةً إذ أصبحت النساء يلجأن إلى هذه المنصات للتحدث عن مشكلاتهن الخاصة، سواءً تلك التي تتعلق بالأسرة أو العلاقات أو العمل أو الحياة اليومية. كما تستخدمها كثير منهنّ كمنافذ آمنة تحت اسم "عضو مجهول الهوية" لمشاركة تجاربهنّ ومناقشة التحديات التي يواجهنها. وتتنوع أسباب هذا التوجه بين البحث عن الدعم النفسي وتلقي النصائح من تجارب الآخرين، والرغبة في تفريغ المشاعر السلبية ضمن بيئة متفهّمة، وفق تعبيرهن.

تُعدّ هذه الظاهرة تعبيراً عن تغيّرات اجتماعية وثقافية كبرى، وتفتح الباب أمام تساؤلات حول مدى خصوصية هذه المشاركات وتأثيرها على الهوية الذاتية للأفراد والمجتمع ككل.
تقول الأستاذة "هناء مجاهد"، المستشارة الأسرية لموقع تلفزيون سوريا، إن غياب الحوار الأسري هو السبب الرئيسي الذي يدفع العديد من النساء إلى اللجوء لتلك المنصات من أجل حل مشكلاتهن. ففي الماضي، كانت المرأة تجد في أمها أو أختها الكبرى ملجأً لمناقشة القضايا العائلية والبحث عن حلول، أما اليوم، ومع تراجع ثقافة الحوار داخل الأسرة، تشعر كثير من النساء بعدم وجود من يستمع إليهن أو يتفهم مشكلاتهن.
هذا الفراغ العاطفي والمعنوي دفع العديد منهن إلى البحث عن بدائل للتعبير عن مشاعرهن، وكان من أبرزها منصات التواصل الاجتماعي.

عضو مجهول الهوية
معظم النساء اللواتي تفاعلن مع استطلاع رأي أجراه موقع تلفزيون سوريا أكّدن أن النشر بأسماء "مجهولة الهوية" يتيح لهن مساحةً أكبر للتعبير عن آرائهن بحرية ومن دون قيود. وأن استخدام اسم مستعار أو خاصية "عضو مجهول الهوية" لا يقتصر فقط على نشر الأفكار والآراء الشخصية، بل يشمل أيضاً التعليق على منشورات الأخريات من دون خوف من التعرض للانتقاد أو الهجوم الشخصي.
وترى المشاركات في الاستطلاع أن هذه الميزة تعزّز الإحساس بالأمان الرقمي، خاصةً في المجتمعات التي تتّسم بحساسية تجاه التعبير عن الرأي. كما أنها تشجع على الانخراط في النقاشات العامة من دون قيود اجتماعية أو ثقافية، مما يسهم في بناء منصة تفاعلية أكثر تنوعاً وشمولاً.
ومن اللافت أن خاصية النشر تحت اسم "مجهول الهوية" أصبحت أداة فعالة لتبادل التجارب والتعبير عن القضايا الحسّاسة التي قد تجد بعض النساء حرجاً في مناقشتها بشكل علني.
ومن خلال هذه الخاصية، يجدن فرصة للتواصل والمشاركة بعيداً عن الأحكام المسبقة أو التدخلات غير المرغوبة، مما يثري الحوار ويعزز قيم الحرية والاحترام المتبادل.

المستشارة الأسرية "هناء مجاهد" أكّدت أن سلوك مشاركة المرأة للمشكلات الأسرية، سواءً بمجموعات منصة فيس بوك المغلقة أو المفتوحة، يحمل في طياته مخاطر جسيمة ويؤثر على تماسك الأسرة، مثل انتهاك قدسية الحياة الأسرية التي تُعد أحد أهمّ أركان المجتمع الأساسية، والتي يجب أن تُصان بقدسية. مشدّدة على أن هناك قصصاً لا يجوز بأي حال أن تصبح مادة للنقاش العام، سواء علناً أو تحت اسم "عضو مجهول الهوية".
وبيّنت "مجاهد" أن من أخطر التداعيات الناتجة عن نشر المشكلات الأسرية هو ميل بعضهم إلى تقليد هذه المشكلات أو تبنّيها كواقع خاص بهم. كما تؤثر المسلسلات والأفلام على تشكيل القيم المجتمعية، محذّرةً من إسهام وسائل التواصل الاجتماعي في نقل أنماط خاطئة قد تؤدي إلى تدهور العلاقات العائلية والعاطفية.

الجلسات الاستشارية الأُسرية
وحول مدى الاستفادة من التجارب الشخصية التي يتم تبادلها في مجموعات منصة فيس بوك، ذكرت "مجاهد" أنه في بعض الأحيان قد تكون مفيدة لكنها لا تُغني عن الاستشارة الأسرية المتخصّصة، فكل شخص له ظروفه الخاصة وأُسسه التي يدير بها حياته وأسرته، ومن غير المنطقي إسقاط تجارب الآخرين على حياتنا بشكل مباشر.
تضيف "مجاهد" أن التجارب الإيجابية التي تتّسم بالصحة والاتزان يمكن أن تشكّل مصدر إلهام. ومعظم ما يتم تداوله على منصات التواصل من حلول وأفكار قد يصل إلى ما نسبته 10% صحيحاً و90% خاطئاً.
تتراوح أسعار جلسة الاستشارات الأسرية ما بين 20 و30 دولاراً للجلسة، والتي عادةً ما تستغرق ساعة واحدة، وهو ما يجعلها متاحة لشريحة واسعة من الأسر الباحثة عن حلول لمشكلاتها. ومع ذلك، يرتفع هذا السعر بشكل ملحوظ عند التعامل مع أخصائيين مشهورين يتمتعون بخبرة وشهرة كبيرة في هذا المجال، إذ تصل كلفة الجلسة الواحدة إلى ما يقارب 100 دولار. وعلى الرغم من الكلفة المرتفعة لبعض الجلسات، إلا أن العديد من الأسر تعتبرها استثماراً ضرورياً لتحسين العلاقات الأسرية وحلّ الأزمات بطرق علمية ومهنية.
تقول السيدة "مجاهد" إن الحاجة للعودة إلى القيم والتربية السليمة والحدّ من هذه الظاهرة يتطلب العودة إلى الجذور الأساسية للتربية السليمة التي تنشأ من الأفراد على الاحترام المتبادل وقدسية الحياة الأسرية. ومن الضروري توعية المرأة والرجل بأهمية اختيار الشريك المناسب وبناء أسر مستقرة قائمة على أسس متينة.

وفي السياق، تؤكد السيدة "مجاهد" على أهمية دور الإعلام في حياة الأسرة، مشدّدة على ضرورة التحلّي بالمسؤولية في تقديم محتوى هادف يسهم في ترسيخ القيم الإيجابية وتعزيز الترابط الأسري.
وتشير إلى أن المرأة على وجه الخصوص يجب أن تتوخى الحذر في التعامل مع مواقع التواصل الاجتماعي، والامتناع عن مشاركة تفاصيل حياتها الشخصية بشكل علني، حفاظاً على خصوصيتها وحماية أسرتها من التداعيات السلبية المحتملة. لأن الحياة الأسرية هي أمانة يجب الحفاظ عليها، ونشر الخلافات والمشكلات العائلية علناً لا يؤدي إلا إلى الإضرار بالأسر المعنية ويمتد أثره السلبي إلى المجتمع بأسره، مما يهدد نسيجه واستقراره.

الوجه المظلم لمجموعات التواصل الاجتماعي.. خصوصيات على المحك
أصبحت مجموعات التواصل الاجتماعي في الآونة الأخيرة مساحات لتبادل الخصوصيات بطريقة تفتقر إلى المسؤولية، إذ يتم نشر تفاصيل حياتية حسّاسة بدافع السعي وراء التفاعل أو تحقيق المشاهدات.
هذا الانفتاح غير الصحي لا يهدف إلى إيجاد حلول حقيقية بقدر ما يسعى إلى كسب الانتباه أو إشباع رغبة المتابعين في التلصّص على حياة الآخرين.
كما أن بعض المنصات وجدت في هذه الظاهرة فرصة مثالية لإثارة الصدامات بين الأطراف أو تضخيم القضايا لتحقيق الربح المادي، من دون أدنى اعتبار للتأثير السلبي على الأفراد أو الأسر.
وفي حين أن هذه المنصات كان يمكن أن تكون فضاءً مفيدًا للتواصل والدعم، إلا أن الانفتاح غير المدروس جعلها بيئة خصبة للاستغلال الإعلامي والمادي.

ولذا يبقى السؤال المطروح: إلى أي مدى يمكن أن نستمر في هذا الانفتاح من دون أن نؤثر سلبًا على نسيجنا الاجتماعي؟ وهل حان الوقت لوضع معايير أخلاقية جديدة لتحديد حدود المشاركة في هذه الفضاءات الرقمية؟
سواءً كان المشارك معلوم الهوية أو متخفّياً تحت اسم "عضو مجهول الهوية".