icon
التغطية الحية

عصر الـ (Goodreads).. الأدب بين النقد الأكاديمي وقراءات المتصفّحين

2021.12.19 | 10:28 دمشق

nqd_adby.jpg
عليوي الذرعي
+A
حجم الخط
-A

للنقد معنيان رئيسان في لسان العرب؛ الأول يأتي من "النَّقد" و"التَّنْقَاد"، والمقصود به: تَمْيِيزُ الدَّرَاهِمِ وَإِخْرَاجُ الزَّيْفِ مِنْهَا، أي تقييم الجوانب الجيدة والرديئة في النص. أما المعنى الثاني فيأتي من "ناقدْتُ فلاناً إِذا ناقشته في الأَمر"، وبهذا المعنى يصبح النقد حواراً مع النص قائماً على المعرفة.

المعاني "السامية" السابقة، لا تنعكس حقيقةً على حالة النقد الراهنة. فعندما نحاول قراءة النصوص النقدية نجدها صعبة وغير مفهومة وممتلئة بالمصطلحات الغريبة على القارئ العادي، وتغيب المعاني البسيطة المستقاة من المعنى اللغوي، لذلك علينا البحث في الوظيفة المناطة بالنقد في الأصل والتأكّد إن كان ما يزال يؤدي المهمة الموكلة إليه أم لا.

كما لا بد من إلقاء الضوء على بدايات النقد وعيوبه التي برزت مع دخولنا عصر الإنترنت، ومعرفة إن كانت هذه العيوب كفيلة بموت النقد كما يبشر "رونان ماكدونالد"  في كتابه موت الناقد.

النقد عبر التاريخ

هناك من يصنف الكتابة النقدية الحالية أنها كتابة تقنية لا علاقة لها بالإبداع، لكن إذا عدنا إلى نقطة الصفر فسنجد أن الناقد الأول، "أفلاطون"، ينتج نصاً إبداعياً لكنه في الوقت نفسه يحمل طابعاً نقدياً. أي أنه، وبحسب أسلوب الفيلسوف أفلاطون، لم يكن هناك فرق بين نص المبدع ونص الناقد.

يعد كتاب "ملاحظات نحو تعريف الثقافة" الذي كتبه  ت. س. إليوت عام 1948 بداية التأطير الأولي لفكرة النقد الحديث، حيث ظهرت بعده النظريات والمنهاج النقدية، بعد ذلك تخلى النقد عن حكم القيمة ليتحول النقد الأدبي إلى مجرد دراسة أدبية؛ فالناقد الأدبي يطلق أحكاماً قِيميّة بينما دارس الأدب لا يملك القدرة على إطلاق هذه الأحكام شبه المعيارية([1]).

وبتخلي النقد عن أحكام القيمة، تحول إلى أداة شبه علمية أكثر من كونه ممارسة أدبية، وبذلك دخل مأزق الأكاديمية وفخ القطيعة مع الجمهور، وأصبحت الدراسات النقدية حبيسة أدراج المكاتب ولا يتم تداولها إلا في مدرجات الجامعات المتخصصة.

بعد ذلك ظهر نقاد الصحف الذين يلتزمون بأَساسِيَّات النقد ويبسطونها للقارئ غير المتخصص من خلال مراجعات الكتب، ثم جاء ما يعرف بـ "نقاد المدونات" الذين مارسوا النقد كانطباعات شخصية دون الاكتراث للنقد كتخصص أكاديمي له أصولهُ ومناهجه. وما زاد الطين بلّة هو قدوم السوشال ميديا ليصبح النقد ممارسة يومية من خلال تغريدة لا يتجاوز عدد حروفها الـ280 حرفاً على منصة تويتر.

وفي نهاية المطاف، تُوّجت مسيرة النقد بأن أصبحت له شبكة اجتماعية متخصصة على الشبكة العنكبوتية، ألا وهي الــ Goodreads.

مشكلات النقد المعاصر

الوظيفة الأساسية للنقد هي وظيفة تكاملية مع الأدب، لكن في العصر الراهن نجد أن الأديب والناقد في حالة صراع دائم، فمن جهة يدَّعي الكُتّاب أن الدراسات النقدية تكتب بلغة فوقية، غير مفهومة، ليرد بعض النُقّاد بالقول إن هؤلاء الكُتّاب لا يقرؤون إلا بالصنف الأدبي الذي يكتبون فيه، وهذا عيب معرفي عليهم تداركهُ أولاً قبل كيل الاتهامات للنُقّاد.

 إلا أن الناقد المصري أحمد درويش له رأي آخر، فهو يعتقد أن النقد الحديث يعاني من العديد من العيوب التي أدت إلى قطيعته مع الجمهور، من هذه العيوب عدم تخصص المشتغلين بالنقد، وكذلك انْطِلاق بعض النقاد في دراساتهم من المنهج النقدي إلى النص المدروس. فالناقد يحاول أن يطبق منهجه النقدي مقتصراً على النص، وليس العكس، إضافة إلى ما سمّاها درويش مشكلة "الطنطنة النقدية" التي يعني بها عدم إحكام الربط بين النص والتلقي، أي إبداع الأديب وإبداع الناقد([2])

"موت الناقد"

يقول رونان ماكدونالد  في كتابه "موت الناقد" أن الناقد "لا يستحق حفل تأبين أو رقص حول القبر؛ لأنه شخص غير قادر على الخلق الفني، هو قادر فقط على تدمير سمعة أحد المبدعين بجرة قلم.. هو شخص سلطوي ينتمي إلى حقبة زمنية غير ديمقراطية".

لكن ماكدونالد يعود ليقترح مهمة جديدة للناقد بدلاً عن موته نهائياً، مهمة لا يصبح له فيها سلطة مطلقة، فيقول: "لربما لا يكون الناقد قد مات، بل جرت ببساطة تنحيته جانباً، أو أنه يأخذ سنة من النوم، وتتمثل الخطوة الأولى الضرورية لإيقاظه، في استعادة فكرة الجدارة الفنية وزرعها في قلب الناقد الأكاديمي".

ويؤكد أيضاً أن تاريخ النقاد "غير مشرّف"، فهم يهاجمون كل جديد خصوصاً الأعمال الأدبية التي تعتمد التجريب والكتابة الحديثة، لكن عندما تعرض هذه الأعمال نجدها تحظى بجماهيرية عالية خصوصاً في المسرح.

موت الناقد..موت طبيعي أم قتل عمد؟

جاءت أطروحة موت الناقد ضمن سياق طويل من دعوات الموت، موت المسرح، موت الشعر، وموت الرواية، وموت المؤلف.. إلخ، لكن أي من هذه الإماتات لم يحدث، ويبدو أن تلك الدعوات هي مجرد لحظات من الإرباك أمام تحولات كبيرة يقف الإنسان عاجزاً عن ملائمة القديم مع المستجد وبذلك يكون إعلان الوفاة الطريق الأسهل من محاولات فهم الخلل ومعالجته.

الناقد في الغرب لا يزال حَيّاً حيث لا تزال الدوريات النقدية تُنشر، ولا تزال الجامعات تُخرج الباحثين المتمكنين من مناهج النقد، أما في عالمنا العربي فنجد أن النقد يتجاوز النصوص الأدبية إلى الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية المزرية؛ لذلك نلاحظ أن المؤسسة الثقافية العربية الرسمية تُهمل النقد مقارنة باهتمامها الكبير بالأدب. ولعل الجوائز المليونية للشعر وللرواية دليل على هذا الاحتفال وغيابها عن النقد مؤشر على الإهمال، إذاً فهو ليس موتاً للنقد بل محاولات لقتل النزعة العقلية في الفكر العربي الحديث.

مشكلات القراءة.. "متصفح وليس بقارئ"

نظراً للكم الكبير من الروايات التي تنتج سنوياً، بدأ بعضهم يعتمد طريقة في انتقاء الروايات التي يود قراءتها -وأنا من بينهم- إذ غالباً ما نختار الروايات التي تحصل على جوائز في المسابقات الكبيرة؛ على افتراض أن لجان التحكيم تتكون من كبار النُقّاد، أو على الأقل من كُتّاب يمتلكون ذائقة أدبية. لكن بعد اختيار الرواية، نعود إلى تقييم القراء العاديين على Goodreads، لنجد مثلاً أحد القرّاء يمنح أعمال نجيب محفوظ نجمتين كتقييم، في حين يمنح الرواية الوحيدة لأحد أصدقاء ذلك القارئ خمس نجوم!

على ضوء هذه الفوضى، وبعد الدعوة إلى موت المؤلف والناقد، أصبحت اللحظة مواتية للدعوة إلى موت القارئ أيضاً. وبالفعل، فالقراءة باتت اليوم في عصر شبكات التواصل الاجتماعي مجرد تصفّح، وتقليب الصفحات الافتراضية يتم بسرعة بحيث تتكون عند المتلقي فكرة موسّعة عن (الترند) الصاعد. ثم لم يعد المتلقي يكتفي بالتصفح فقط، بل تعداه إلى فعل الكتابة مع تذييل منشوره بـ "هاشتاك" صاعد ليساهم بصعود ذلك الترند أكثر فأكثر.

الحاجة للناقد الصيرفي

في كتابه "النص والتلقّي.. حوار مع نقد الحداثة"؛ يميّز الناقد أحمد درويش نوعين من النقاد، الناقد "الصيرفي" والناقد "القابلة"، فالناقد الصيرفي يعود بالنقد إلى وظيفته الأساسية التي تشبه الصيرفي في قدرته على التمييز بين النقود الحقيقية والمزيفة. أما وظيفة "القابلة"، التي تشرف على ولادة الأطفال، فعليها أن تتقبل ما يولد على يديها كما هو، وغاية ما يمكن أن تفعله هو أن تشارك في اقتراح تسميته. أي أن الناقد "القابلة" ينحصر دوره في استقبال النص وتفسيره كما أراد كاتبه.

في حالة أدبنا العربي، على سبيل المثال، الناقد الصيرفي هو من انتقى شعراء المعلقات من بين آلاف الشعراء ليجعل أشعارهم تعلّق على باب الكعبة في ذلك التاريخ، وهو من ساهم في تقدير قصائدهم وحفظها لتظل متداولة إلى عصرنا الراهن، في حين لم يكن هنالك أي ذكر للناقد "القابلة".