عسكرة النزاع على الثروات شرق حوض البحر المتوسط

2019.07.29 | 23:07 دمشق

+A
حجم الخط
-A

عندما تمّ اكتشاف كمّيات هائلة من الغاز في شرق حوض البحر الأبيض المتوسط وفي محيط قبرص اليونانية، حاولت تركيا تقديم فكرة بنّاءة تقوم على استغلال هذه الثروات المكتشفة للدفع باتجاه حل أزمة تقسيم الجزيرة وبشكل يؤدي إلى التوزيع العادل لثرواتها بين سكّانها في الشطرين، لكن قبرص اليونانية رفضت هذا الطرح وأصرّت على اتخاذ خطوات أحاديّة لبناء أمر واقع جديد، خطوات من شأنها أن تضع حدّاً لكل محاولات حل أزمة الجزيرة دبلوماسيا. لم يقتصر الأمر تعقيد الحلول الدبلوماسية الممكنة بل امتد أيضاً ليطول حقوق سكان الشطر الشمالي من الجزيرة وحقوق تركيا في جرفها القاري.

ما كان لمثل هذا الأمر أن يحدث لو لم يكن هناك دعم غربي للشطر الجنوبي من الجزيرة، ففي نهاية المطاف قبرص اليونانية ليست قوّة عظمى لتعمل على تغيير المعطيات الإقليمية وليس لديها قوّة عسكرية لفرض الأمر الواقع. لطالما أدّى الدعم اليوناني للجزيرة ومن خلفه دعم الاتحاد الأوروبي إلى تخريب جهود المصالحة وقطع الطريق على الحلول الدبلوماسية لكن هذه المرّة تعتبر الأسوء على اعتبار أنّها ذهبت بعيداً في التحدي لدرجة أنّها مستعدة للمغامرة باستفزاز تركيا عسكرياً.

لا يقتصر الأمر على الدعم السياسي، إذ إنّ الشطر الجنوبي من الجزيرة قام بتلزيم أعمال التنقيب عن النفط والغاز لأكبر عدد ممكن من الشركات الأجنبية التابعة لقوى إقليمية ودولية، ولدول هذه الشركات قوات بحرية موجودة في المتوسط، وهو ما يجعل إمكانية الاحتكاك أو الخطأ في الحسابات واردة بل وعالية مستقبلاً. علاوةً على ذلك، تنخرط قبرص اليونانيّة في منتدى غاز شرق البحر المتوسط، وهو عبارة عن تجمّع تقوده إسرائيل عملياً ويضم مصر واليونان والأردن وفلسطين وإيطاليا، ومن ضمن أهدافه عزل تركيا سياسيا واقتصاديا فيما يتعلق بثروات شرق المتوسط ومحاولة ردعها أيضاً من خلال الدور الأوروبي والأميركي المنتظر في دعم هذا التجمّع.

خلال الأسبوع الماضي، عبّرت فرنسا عن نيّتها الانضمام إلى التجمّع، وكذلك فعلت الولايات المتّحدة وكلاهما يمتلك شركات نفط (توتال الفرنسية، نوبل وأكسون موبيل الأميركية) قامت قبرص اليونانية بالترخيص لها لمسح واستخراج الغاز، وهذا يعني أنّها ربطتها بها بشبكة من المصالح، وهذه الدول (أي فرنسا وأميركا) لديها كذلك ما يكفي من قوة عسكرية في المتوسط للدفاع عن مصالح شركاتها. علاوة عن ذلك، حصل مؤخراً تطوران هامّان في هذا المجال. الأوّل هو اتفاق فرنسا مع قبرص اليونانية على تطوير القاعدة العسكرية البحرية في الجزيرة لتصبح قادرة على استضافة سفن ضخمة بما في ذلك حاملات طائرات، وهو مؤشر خطير على الاستعداد لاستخدام القوة العسكرية مستقبلاً بالنظر إلى شكل التنافس الآخذ في الازدياد بالمنطقة.

أمّا التطوّر الثاني فهو تمرير قانون شراكة الأمن والطاقة شرق البحر المتوسط لعام ٢٠١٩ في الكونغرس الأميركي الشهر الماضي. ويمكن إيجاز القانون بست نقاط أساسية هي: رفح الحظر عن بيع الأسلحة إلى جمهورية قبرص اليونانية، يجيز إنشاء مركز أميركي للطاقة شرق التوسط لتسهيل التعاون في مجال الطاقة بين كل من أميركا وإسرائيل واليونان وقبرص، يسمح بمساعدة مالة عسكرية لليونان بقيمة ٣ ملايين دولار، يجيز بمساعدة في مجال التعليم والتدريب العسكري الدولي لليونان وقبرص ٢٠٢٠ – ٢٠٢٢، يمنع نقل مقاتلات اف-٣٥ إلى تركيا طالما أنّها مستمرة في صفقة (اس-٤٠٠) الروسي، ويطالب الإدارة الأميركية بتقديم استراتيجية لتعزيز التعاون الأمني والتعاون في مجال الطاقة مع دول حوض شرق البحر المتوسط بالإضافة إلى متابعة الأنشطة الخبيثة التي تقوم بها روسيا ودول أخرى في المنطقة.

تركيا تمتلك أكبر قوّة بحرية في شرق المتوسط، ولديها ثاني أكبر جيش في حلف الناتو بعد الولايات المتّحدة الأميركية

من الواضح من صيغة القانون ومضمونه أنّه موجّه بالدرجة الأولى ضد تركيا، وأنّه يرفع من مخاطر الإشتباك العسكري في المنطقة. تركيا تمتلك أكبر قوّة بحرية في شرق المتوسط، ولديها ثاني أكبر جيش في حلف الناتو بعد الولايات المتّحدة الأميركية، وعندما يتعلّق الأمر بقبرص أو بحقوق القبارصة الأتراك، فمن الصعب على الأتراك التراجع بغض النظر عن التبعات المحتملة أو التهديدات الممكنة. الأتراك لديهم خلافات ورؤى ووجهات نظر متضاربة إزاء كيف يجب أن تكون السياسة الخارجية لبلادهم، لكنّهم رغم خلافاتهم متّفقون على مسألة واحدة وهي ضرورة حماية حقوق تركيا في جرفها القاري وحماية حقوق القبارصة الأتراك مهما كلّف الامر.

عندما يتعلق الأمر بقبرص علينا أن نتذكّر أنّ أنقرة تحدّت الجميع في السبعينيات من القرن الماضي (١٩٧٤) بما في ذلك حلفاؤها، وتحمّلت حظراً شاملاً على التسلّح فرضته عليها الولايات المتّحدة الأميركية عام ١٩٧٥، ورفضت خطوات الأمر الواقع التي حاولت اليونان فرضها في الجزيرة من خلال دعم انقلاب مسلّح لاتباعها اليونانيين القبارصة. اليوم يعيد الأتراك التذكير بأنّ شيئاً لن يمنعهم من اتخاذ الخطوات المناسبة إذا تكررت حالة فرض الأمر الواقع مجدداً. الاتحاد الأوروبي يقوم الآن بصب الزيت على النار من خلال دعم تحرك قبرص اليونانية واليونان، وفرض عقوبات على تركيا لإرسالها سفن التنقيب على النفط في محيط قبرص التركية ردّاً على الإجراءات الأحادية لقبرص اليونانية.

وفي خطوة تؤكّد على وحدة الأتراك في هذا المجال، قامت الأحزاب الأربعة الممثلة في البرلمان التركي الشهر الحالي باستنكار الإجراءات الأوروبية وعبّرت عن دعمها لجهود الدولة في أعمال التنقيب عن الغاز في منطقة شرق المتوسط، مؤكّدة عدم قبول تركيا وقبرص التركية بالخضوع للضغوط حول أعمال التنقيب شرقي المتوسط، لأنهما يتمتعان بالقدرة على حماية حقوقهما المشروعة وفقا للقانون الدولي. وقد أوجز الرئيس التركي صورة المشهد في يناير الماضي خلال كلمة له في الأكاديمية العسكرية بأنقرة عندما قال "إذا لم يكن لديك قوّة عسكرية وسياسية واقتصادية، يجب عليك أن تعلم أنّ أحداً لن يأخذك على محمل الجد".