عسكرة إمدادات الطاقة.. اللعبة الخطرة

2022.05.04 | 06:42 دمشق

alghaz_alrwsy.jpg
+A
حجم الخط
-A

منذ بداية الغزو الروسي لأوكرانيا بقيت لعبة الطاقة بين أوروبا وروسيا تحت السيطرة بسبب خطورتها على جميع الأطراف وعلى الاقتصاد العالمي بشكل عام، وبقي النفط والغاز أحد القطاعات القليلة التي لم تستهدفها أوروبا بالعقوبات المباشرة على الرغم من تفكير بعض القادة الأوروبيين في فرض حظر على واردات الطاقة، بالتوازي مع ذلك حافظت روسيا على تدفق إمدادات الغاز إلى أوروبا سواء بشكل مباشر أو عن طريق أوكرانيا.

طالبت روسيا في أواخر آذار (مارس) بأن تدفع الدول "غير الصديقة" ثمن شحناتها القادمة من الغاز بالروبل (بدلاً من اليورو أو الدولار)، أو سوف يتم قطعها ردا على العقوبات الغربية. على الرغم من ذلك بقي الطلب الروسي موضع تكهنات حول القدرة على تنفيذه والآثار المترتبة على ذلك، فأوروبا تستورد 40٪ من غازها من روسيا، والتي بدورها تجني نحو 400 مليون يورو (422 مليون دولار) في اليوم من مبيعات الغاز إلى دول أوروبا.

لكن في 27 أبريل، رفعت روسيا سقف التحدي، توقفت شركة غازبروم، عملاق الطاقة المملوك من قبل الحكومة الروسية عن إرسال الغاز إلى بلغاريا وبولندا بعد أن فاتتهم المواعيد النهائية التي حددتها روسيا للدفع بالروبل. الأمر الذي دفع أسعار الغاز في منطقة اقتصاد اليورو إلى الارتفاع لمستويات قياسية الأمر الذي سيؤدي إلى زيادة الضغوط التضخمية.

التأثير الفوري لتحرك روسيا الأخير والذي وصفه الاتحاد الأوروبي بأنه خرق للعقود الموقعة، محدود النطاق. وتمثل واردات بولندا البالغة 10 مليارات متر مكعب سنويًا، وواردات بلغاريا 3 مليارات متر مكعب، وتشكلان معًا 8٪ فقط من إجمالي واردات الاتحاد الأوروبي. وعلى الرغم من أن بلغاريا وبولندا تعتمدان على روسيا في معظم وارداتهما من الغاز، فإنهما قد تكونان قادرتين على التأقلم من دون الغاز الروسي، حيث من المقرر أن تبدأ بولندا في تلقي الغاز من النرويج في أكتوبر ومن المتوقع أن تبدأ بلغاريا في استيراد الغاز الأذربيجاني عبر اليونان في وقت لاحق من العام الجاري.

كما أن ارتفاع درجات الحرارة ومخزونات الغاز الطبيعي الممتلئة بنسبة 33% حتى نهاية إبريل 2022 قد يمنحان بعض الوقت للأوروبيين للبحث عن بدائل وإعداد استراتيجية لمواجهة ابتزاز بوتين.

في هذه المقالة سوف نناقش التأثيرات المختلفة للعبة الطاقة الخطرة التي بدأها بوتين وتأثيرها على أطراف الصراع وعلى الاقتصاد العالمي بشكل عام.

فائض الحساب الجاري الروسي:

سجل الحساب الجاري الروسي ارتفاعا قياسيا منذ بداية الحرب ونموا قياسيا مقارنة بالسنوات السابقة مدفوعا بارتفاع أسعار الطاقة الناتجة عن مخاوف نقص المعروض، كما أن الروبل الروسي عاد لمستويات ما قبل الحرب مقابل الدولار الأميركي بعد اشتراط موسكو قبض مدفوعات الغاز بالروبل بدل اليورو والدولار الأميركي، كل هذا يجري على الرغم مع كل حزم العقوبات التي فرضها الغرب على الاقتصاد الروسي.

في المقابل انخفض إنتاج النفط والغاز الروسي إلى أدنى مستوياته من 2020 بسبب حالة من الحظر الذاتي تقوم بها بعض الدول والشركات خوفا من استهدافها بالعقوبات الغربية وصعوبات الدفع الناتجة عن إخراج روسيا من نظام سويفت الأمر الذي دفعها لتقديم حسومات كبيرة وصلت إلى 20% على سعر برميل نفط الأورال.

تدرك القيادة الروسية أن استمرار المناورة بسلاح الغاز قد يفقدها أهم مصدر للأموال اللازمة لتمويل حرب مكلفة وطويلة الأمد. حيث أنفق الاتحاد الأوروبي 44 مليار يورو (46 مليار دولار) لشراء النفط والغاز الروسي منذ بداية الحرب.

الاستراتيجية الأوروبية للمواجهة:

استبعدت معظم الدول الأوروبية الدفع مقابل إمدادات الغاز بالروبل لاعتقادها بأن القبول بالطلب الروسي سيبدو وكأنها قد خضعت لابتزاز بوتين وبالتالي إفراغ العديد من حزم العقوبات الغربية من مضمونها، في حين أعلنت ألمانيا والنمسا أنهما مستعدتان لدفع ثمن الغاز الروسي بالروبل.

وفقا لذلك يمكن تقسيم الدول الأوروبية إلى ثلاث مجموعات: الأولى تشمل بلجيكا وبريطانيا وإسبانيا، تستورد القليل من الغاز أو لا تستورد من روسيا مباشرة، وقد رفضوا الطلب الروسي. وتضم المجموعة الثانية المشترين الكبار مثل ألمانيا وإيطاليا والنمسا، والتي ستكافح لاستبدال الواردات الروسية بسرعة وقد وافقوا على الطلب الروسي.  تتضمن المجموعة الثالثة البلدان التي تعتمد جزئياً فقط على روسيا، وقد يكون لديها أيضًا عقودٌ ستنتهي صلاحيتها قريباً لم تبد حتى الآن موقفاً نهائياً من الطلب الروسي.

كما أن التأثير غير المباشر على كل الدول الأوروبية في حال قطع الغاز الروسي عن أحد كبار المشترين يثير القلق.

فمثلا إذا تم قطع الغاز الروسي عن ألمانيا، فإن أسواق الغاز سوف تتعثر. الأسعار الآن أعلى بست مرات مما كانت عليه قبل عام، سوف ترتفع إلى قمم جديدة، مما يجذب المزيد من الغاز الطبيعي المسال من بقية العالم ويتسبب في ارتفاع الأسعار في أماكن أخرى بدوره.

 مخاوف الركود الاقتصادي العالمي:

تشير معظم التقديرات إلى أن قطع الغاز الروسي عن أوروبا سيدخل الاقتصاد العالمي في ركود عميق، كما أن التفكير الأوروبي في فرض حظر على واردات النفط الروسي سيخرج نحو 5 ملايين برميل يوميا من سوق النفط وبالتالي تشير التقديرات إلى ارتفاع الأسعار إلى 185 دولارا للبرميل الواحد مما سيقود إلى إدخال الاقتصاد العالمي في موجة حادة من الركود التضخمي، وخصوصا أنها تتزامن مع عودة الإغلاقات في الصين واختناقات جديدة في سلاسل التوريد وارتفاع في أسعار الغذاء العالمي، الأمر الذي سيعرقل من مهمة البنوك المركزية العالمية في مواجهة التضخم الناتج عن أزمة وباء كورونا وتحويل موجة التضخم التي تضرب الاقتصاد العالمي من موجة تضخم من جهة الطلب الناتج عن ضخ السيولة النقدية في الاقتصاد خلال فترة الوباء إلى موجة تضخمية مركبة من الطلب والعرض المدفوع بارتفاع التكاليف مما يجعل أدوات السياسة النقدية التقليدية عاجزة عن المواجهة ويدخل الاقتصاد العالمي في ركود تضخمي قد يستمر لسنوات.

الخلاصة:

نقل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين المواجهة بين بلاده والغرب إلى مستوى آخر بقراره استخدام الطاقة كسلاح، وربما يكون نجح في تطبيق إستراتيجية فرّق تسد من خلال شق الصف الأوروبي فيما يتعلق بالطلب الروسي تسديد مدفوعات الغاز بالروبل، لكن بالمقابل ستدفع روسيا أيضا أثمانا باهظة في حال الاستمرار بهذه المناورة من خلال فقدان أهم مصادر أموالها والتي تشكل 40% من الناتج المحلي الإجمالي الروسي، خاصة إذا ما وجدت الدول الأوروبية بديلا سريعا للطاقة الروسية، وبالتالي فإن مفهوم عسكرة الطاقة هو لعبة خطرة محصلتها صفر.