icon
التغطية الحية

عزلة الأديب والمفكّر في عصر إدمان العلاقات الافتراضية

2022.05.21 | 21:21 دمشق

fylswf_mtaml.jpg
لوحة الفيلسوف المتأمل (رامبرانت)
+A
حجم الخط
-A

كثيراً ما نقرأ على صفحات الأدباء عبارات مفادها أنّهم سيعتزلون وسائل التواصل، وغالباً ما يحتفلون بولادة عمل أدبي عند عودتهم. فما هي الأسباب التي تجعلهم يعتزلون هذه المجتمعات الافتراضية بعد أن أصبحت فضاء ينشرون فيه إبداعاتهم. وهل سبب عزلتهم هو تفرغهم لعمل جديد أم أنهم يعيدون شحن ذواتهم للإبحار مجدداً في عالم الإبداع؟

هل العزلة خلل نفسي أم معيار للصحة النفسية؟

الرأي السائد في علم النفس أنّ الشخص الذي يفضل العزلة يتمتّع بقدرات إدراكية منخفضة، وغالباً ما تكون لديهم تشوهات معرفية وانحراف سلوكي، وبعض الأطباء النّفسيّن يصنّفون محبو العزلة بأنهم يعانون من اضطراب الشّخصية الفصاميّة، فمقياس الصّحة النّفسية حتى القرن الماضي كان يعتمد على قدرة الفرد على إقامة علاقات آمنة مع محيطه، لكن المحلّل النّفسي دونالد وينيكات وضع قدرة الفرد على اعتزال البشر من ضمن عوامل قياس الصّحة النّفسية، يقول "ربما يصح القول إنه قد كُتب في أدبيات التحليل النفسي عن الرّغبة في أن تكون لوحدك، أكثر مما كُتب عن القدرة على أن تكون وحدك. يبدو لي أن مناقشة الجوانب الإيجابية للقدرة على أن تكون وحدك قد تأخرت كثيرا"[1]

صعوبة العزلة في عصر السوشال ميديا

في العصر الحديث أصبحت العزلة ترف لا يمتلكه إلا القلة، فبدأت التكنولوجيا تحاصر الإنسان ليصبح أسيراً لها، فهو لا يملك حرية العزلة حتى لو كان في بيته، فأجهزة التلفاز والراديو والشاشات الذكية حاضرة في كل مكان، ومن هنا نجد أن إدمان السوشال ميديا أصبح شائعا جداً، ولا بد من التأكيد أن لهذه الوسائل فوائد كثيرة لكنها بالمقابل عندما تتحول إلى إدمان فإنها تخفض معدلات الّتفكير السليم، فقراءة مئات الأفكار يومياً، قد تؤدي لتكوين فكر مشترك عشوائي "إن أحسنّا الظن" وقد يكون موجهاً.

لذلك من الطبيعي أن يكفّر أرباب الفكر ومحبو الإنتاج الأدبي بهذه الوسائل إذا أدركوا تأثيرها السلبي على إنتاجهم الأدبي، فيعتزلونها مؤقتاً ثم يعودون إليها دون الغرق بعوالمها ودون إدمانها ليكون وجودهم بها علامة فارقة وليس تكراراً لمقولات الآخرين.

"الوحدة، ألم أن تكون وحيداً، بينما العزلة شرف أن تكون وحيداً" بول تيليش

للحياة المعاصرة إيقاع سريع، فكمية المدخلات التي تغزو عقولنا كبيرة، كما أن تكرارها قد يمنحها الحصانة فنتشربها دون البحث الدقيق بمصادرها، فنبني على هذه المدخلات قراراتنا وكثيراً ما نخطئ، ولتصحيح هذه الأخطاء لا بد من العزلة بعيداً عن ضجيج القنوات الإخبارية ووسائل التواصل، بهذه العزلة نقترب من ذواتنا لفهمها، ولبلورة مفاهيمنا الخاصّة عن الحياة وعن المواضيع التي تهمنا، لذلك نلاحظ على وسائل التواصل أن أغلبية الأفكار المتداولة هي مكررة ونادرا ما نجد رأياً جديداً نابعاً من ذات كاتبه المتفردة عن سواها.

وعبر التاريخ، معظم الأنبياء والمصلحين الاجتماعيين والفلاسفة الذين كان لهم أثر بين النّاس، كانت لهم خلوة في غار أو صومعة، لكن بالمقابل نجد في العديد من كتب التراث ذكر لرهبان اعتزلوا الناس عزلة تامة في أديرتهم وصوامعهم، وغالباً لا تذكر أسماء هؤلاء لأنهم لم يؤثروا بمجتمعاتهم وكانت عزلتهم لأنفسهم فقط، فالإنسان المثمر يتوسط بين العزلة والاجتماع مع الناس.

"من لا يستمتع بالعزلة لن يهوى الحريّة" شوبنهاور

العلاقة بين العزلة والحريّة علاقة جدلية، فالحريّة "هي امتلاك إمكانيّة العزلة" كما يقول الفيلسوف البرتغالي بيسوا، إن امتلاك حريّة العزلة هو أسمى معاني الحرية، وهذا ما يلفت نظرنا إلى واقع الإنسان المعاصر المكبل بالالتزامات الكثيرة، فيمضي سنوات عمره سريعاً، ليحظى أخيراً بقدرته على امتلاك حرية العزلة في سن التقاعد، فينعم بها ليدرك حقائق وجودية يتمنى لو أدركها في بداية حياته وليس في نهايتها، هذا إذا لم يداهمه الزهايمر أو يصاب بأمراض تعيق عزلته.

يرى عالم الاجتماع الألماني جورج زيمل أن العزلة كالحرية، كلاهما حقائق اجتماعية، فالعزلة لا يمكن أن تتحقق إلا بوجود مجتمع نعتزله، وكذلك الحرية لا يمكن أن تكون حراً إلا ضمن قوانين مجتمع تقاس حريتك وفقاً لها، فلا معنى للعزلة أن لم يوجد ما نعتزله وكذلك لا معنى للحرية أن لم يكن هناك نظام اجتماعي نقيس حريتنا من خلاله.[2]

" العزلة مصفاةٌ لا مرآة " محمود درويش

عبر التاريخ كانت العزلة المؤقتة المصحوبة بالتأمل بداية لمعرفة الذات، وبوابة للارتقاء بالمجتمع، لذلك فأغلب المصلحين والمبدعين لهم خلواتهم مع أنفسهم، طويلة كانت أم قصيرة، وهذا محمود درويش يعتبر العزلة والذات شيء واحد " إذا فقدت العزلة فقدت نفسي"، أما الفيلسوف الألماني نيتشه فيرى أن "العزلة ضرورية لاتساع الذات وامتلائها" فالعزلة تجعلنا أكثر قدرة على إدراك ذواتنا من خلال الابتعاد عن ضجيج العالم، لندرك من نحن وماذا نريد.

"ما نفع القلب مثل عزلة يدخل بها ميدان فكرة" ابن عطاء الله السكندري

 ليس غريباً أن أغلب الأفكار الإبداعية التي أحدثت فارقاً في التطور البشري، تبلورت من خلال التركيز العالي لمبدعين في لحظات عزلتهم، فسقوط تفاحة نيوتن لن يكون له معنى لولا تركيز نيوتن عليها، فاستنتج قانون الجاذبية من خلال حدث عادي يتكرر آلاف المرات قبل نيوتن، فعزلة نيوتن وتأملاته العميقة في الكون كانت سبباً لوصوله للعديد من القوانين، كقوانين الحركة والضوء وحتى حركة الكواكب ضمن النظام الشمسي والنسبية.

كما أعلن بيل غيتس صاحب شركة مايكروسوفت أنه يعزل نفسه في كوخ، لإسبوع كامل ويكرر ذلك مرتين في العام، يقضيها بالقراءة والاطلاع والتأمل والتفكير بمستقبل شركته مبتعداً عن كل وسائل الاتصال بك أشكالها[3]، ما يفعله بيل غيتس هو بالضبط ما قاله توماس إديسون إن "أفضل التفكير يكون في العزلة، وأسوأ ما يكون في الزحام"

هذه هي العزلة التي ولدت من خلالها مقدمة ابن خلدون في مغارة سميت لاحقاً باسمه، وأنجبت عزلة أبو حامد الغزالي كتاب إحياء علوم الدين ، وخلال فترات العزلة كتب محيي الدين بن عربي معظم مؤلفاته.

أسباب للعزلة

للعزلة أسباب مختلفة فقد اعتزل فيكتور هوغو الناس خوفاً من السلطة التي لاحقته في كل مكان وبعزلته أنتج لنا روايته البؤساء التي تؤرخ لفرنسا بعد قيام الثورة.

بينما اعتزل شكسبير بسبب مرض الطاعون الذي قتل بعض أشقائه، وابنه الوحيد هاملت، فأنتج لنا صور شعرية جديدة توثق تقرحات أجساد المصابين وأعمالاً أدبية لا تزال خالدة بوجدان الناس إلى يومنا هذا.

يقول أورهان باموك "حياة العزلة هي الشرطُ الأول لأيّ كاتب يريد أن يُبدِع، فمن دون عزلِ الذات والانكباب على العمل بدأب وباستمرار لا يمكن إنجاز شيءٍ حقيقيّ"، كذلك عاش كافكا حياته منعزلاً لينتج أعماله المصنفة بواقعيّة عجائبية.

وهكذا نجد أن العزلة قد تكون اضطرارية، كما كانت عزلة فيكتور هوغو وشكسبير، وقد تكون اختيارية للكتابة كما هي عزلة باموك وكافكا، وقد تكون روحية كما عند الغزالي وابن عربي.

وخلاصة القول إن شرارة تطور البشرية بدأت من العزلة، فمنها بدأت الرسائل السماوية التي أنارت للبشرية ظلام الوجود ورسمت معالم الأخلاق وارتقت بالوعي البشري، ومنها تطورت العلوم والآداب.

 


[3] كتاب" بيل غيتس.. إمبراطور عصر المعلوماتية" روبرت هِللر