عدالة الحكايات عن أرض الغائبين

2021.02.27 | 00:11 دمشق

mhkmt_kwblnz.jpg
+A
حجم الخط
-A

بالأمس تكللت جهود ناشطين وحقوقيين سوريين بالنجاح، بخطوةٍ ربما تكون الأولى في إدانة مجرمٍ من المجرمين الذين شاركوا في المقتلة السورية.

في الرابع والعشرين من شهر شباط 2020 كانت الجلسة الستون، جلسة النطق بالحكم على رجل الأمن السوري إياد الغريب والذي كان يتولى مهمة التجسس على المساجد والخطباء ويقدم عنهم التقارير التي أفضت إلى اعتقال الكثيرين منهم وتعرضهم للتعذيب والقتل.

لكنَّ الجريمة الأساسية التي تم الحكم عليه بموجبها، هي واقعة اعتراض المتظاهرين السلميين في مدينة دوما والمشاركة بإطلاق النار عليهم، الأمر الذي أدى لقتل العديدين منهم. وذلك في الشهر التاسع أو العاشر من العام 2011، أمام الجامع الكبير في مدينة دوما.

لم تكن هذه القضية وحدها كافيةً أو مبرراً لإدانته، إنما احتاج المدعي العام الألماني إلى تعزيز شهادته، بعشرات الروايات التي أكدها شهودٌ وموثقون وحقوقيون، عن طبيعة التعذيب والتصفيات التي كانت تجري يومها في فروع الأمن في دمشق، ومنهم أو في مقدمتهم فرع الخطيب والذي يرمز إليه بالفرع 251.

استمرت مرافعة المدعي العام الألماني الأخيرة عدَّة ساعات، قاطعتها بضع استراحات. تحدث خلالها عن الربيع العربي وصولاً إلى سوريا التي سماها "أرض الغائبين" كما نقلت الصحافية الفرنسية جارانس لو كين.

لم يكن "إياد الغريب" ضابطاً أو صاحب رتبةٍ عليا في جهاز الأمن ذاك، إنما هو أحد القتلة الذين شاركوا في مئات عمليات القتل والتعذيب، إلا أن محاكمته وإدانته والحكم عليه سيكونان بلا أدنى شكٍّ، عاملاً مهماً في بدء سلسلة قد لا تنتهي قريباً، من الشهادات التي سيسعى أصحابها لإثباتها وتوثيقها، والتي ستشير بأصابع الاتهام لمئات المجرمين الذين كانوا أدوات النظام الأسدي في قمع وقتل الشعب السوري.

هذه الشهادات ستكون كالسيف المشهر، والمسلط على حاضر ومستقبل أولئك القتلة، وهذا التهديد المستمر والذي نتمنى أن تتسع رقعته، فتشمل جميع دول الاتحاد الأوربي، سيؤكد في جانبه الأهم أنه مهما تدنت الرتبة الوظيفية للجاني، فإنَّ العدالة ستطارده وستناله يوماً ما، فالعبرة بطبيعة الجريمة المثبتة وليست برتبة الجاني.

ولا ينبغي النظر إلى هذه القضية اليوم على أنها إدانة وتجريم لعنصرٍ صغيرٍ في سلسلةٍ هائلةٍ تمتد لعشرات آلاف المجرمين والمشاركين، فالسلسلة الطويلة دائماً تبدأ بحلقات قليلة، والسيل يبدأ بقطرات تهمي ثم لا تلبث أن تتكاثر وتتسارع وتيرتها، إلى أن تحدث الطوفان.

هذه المسيرة الوعرة والطويلة، تحتاجنا جميعاً لبناء جدارٍ صلبٍ من الحكايات الممتزجة بصراخ ضحايانا ورائحة دمائهم وعتمة زنازينهم، نحتاجها لثقب جدار الصمت وهدم هياكل الخوف التي طالما قيدت أرواح السوريين قبل أجسادهم.

وليسمع العالم ولسنواتٍ طويلةٍ مئات آلاف قصص التعذيب والتغييب، والقتل الممنهج والعشوائي، قصص آلاف الأطفال الذين أبصروا النور وهم يتامى، قصص مئات آلاف الأمهات اللائي كفكفن دموعهن خوفاً من افتضاح الحزن في وجوههن على فلذات أكبادهن.

بالتفاتةٍ سريعةٍ لمحاكمة الرئيس العراقي الأسبق "صدام حسين" أحد أشهر المجرمين الذين حكموا العراق وأذاقوا الشعب العراقي ويلات القتل والتعذيب والرعب المهين، وبالرغم من ضلوع صدام حسين بمئات وربما بآلاف الجرائم التي ارتكبت بحق رفاقه البعثيين أولاً، وبحق معارضين وعوائلهم الكبيرة، إلا أن القضية التي تمت إدانته فيها هي قضية الدجيل، والتي يمكن أن تكون واحدةً من جرائمه الصغيرة، قياساً لما فعله في شعب العراق، إلّا أنَّ الآليات القضائية لها منهجيتها الخاصة في إثبات الوقائع وسبل الحكم عليها، الأمر الذي يحدو بنا إلى عدم الاستخفاف بأية جريمة أو قصة اعتقال أو تغييب تعسفي، أو غيرها من أدوات القمع، التي طالما كانت وسيلة نظام الأسد في حكم الشعب السوري.

في عصر الميديا وسيادة شبكات التواصل ووفرة مساحات التخزين السحابية، لم يعد التوثيق وحفظ الحكايات أمراً صعباً ولا محصوراً بمتخصصين قانونيين، فكل حكاية قد تروى على لسان أم أو أخت ستكون مستقبلاً مادة أولية للتحقق والتثبت منها عبر متخصصين، ليصار إلى استخدامها في معركة العدالة الطويلة، لكن الأهم من هذا أنها ستنتج مع آلاف الحكايات، وثيقةً تاريخيةً عن مدى إجرام هذا النظام، ومادةً أوليةً لعشرات الكتب والروايات والأعمال المصورة، التي ستعيد الاعتبار لآلاف الضحايا وذويهم، وستكون صوت العدالة المستمر، الذي سيؤرق ليل أولئك الجناة، ويجعل حياتهم رهينة الخوف من وصول يد العدالة إليهم.