عبد الرحمن بدوي: الفيلسوف الشامل (2)

2019.05.23 | 20:57 دمشق

+A
حجم الخط
-A

يكتب بدوي سيرة حياته وهو جالس في المكتبة الوطنية في باريس، ولا يدع شاردة أو واردة إلا ويذكرها. إن نمط سيرته توثيقي من الدرجة الأولى، فحتى عندما يزور كنيسة نوتردام فهو يصفها لنا وصفاً شاملاً، ولعل في هذا فائدة إضافية بعد أن دمر الحريق شطرها. وعندما يذكر أي تفاصيل تخص المناصب التي تولاها لا يتردد في ذكر الأسماء بصراحة مع هجوم قوي، وتفسيري لذلك أنه نشر السيرة عام 2000 بعد أن غادر كل هؤلاء الأشخاص مناصبهم وغادر معظمهم الحياة. ويحلو له أن يصف الجامعة بعبارة طه حسين "إنهم لا يعملون، ويؤذيهم أن يعمل الناس"، وبالطبع بدوي هو الناس هنا!

كلهم فاشلون وكنت المجتهد الوحيد

يعود بدوي إلى مصر بعد رحلته إلى أوروبا ويتخرج من الجامعة، ويقص علينا صراعاته في الجامعة. يشتكي أحمد أمين ويسبه ويتهمه بالحقد عليه وتعطيل رسالته للدكتوراة، ثم يأخذ هدنة ويسافر إلى بيروت للتدريس فيها. ولا تتوقف اعتراضاته على الحياة العلمية في بيروت، فثمة مؤامرة تدور حوله أينما ذهب: في بيروت يغضب منه المسيحيين الموارنة، ثم عندما يحكي تضييقهم عليه يقول للقارىء إن التضييق لم يكن من المسيحيين فقط بل من الشيوخ السنة أيضاً. إنها سيرة ذاتية تدور حول ضحية يغار منه الناس، وشخصية لا تتوقف عن التحصيل العلمي والتأليف.

لا يتعب عبد الرحمن بدوي الباحث الذي يبحث عن حياته ومواقفه، ففي سيرته الذاتية تفصيل بأرائه ليس في المجتمع المصري فقط بل حتى في لبنان. ثم يزور سوريا عشية انقلاب حسني الزعيم فيصف الحال فيها ولا تعجبه الأوضاع، وينتقل إلى منصب مستشار ثقافي لمصر في سويسرا، فيسرد علينا إنجازاته هناك، وما يبذله من جهد في منصبه الجديد. ويتحدث عن تقاعس بقية الدبلوماسيين عن أداء مهامهم. لا شفاعة عنده لمنصب مهم، فحتى وزير الخارجية محمود فوزي جاهل ومعتوه على حد وصفه. قلت لنفسي وأنا أقرأ لعل الواقع سيء لهذه الدرجة، ولعل الموظفين ضعفاء والوزراء سيئون والأساتذة الجامعيين لا يفقهون شيئاً، ثم عدت وقلت: فهل هناك من يمدحه بدوي ليتبين لنا الخيط الأبيض من الأسود؟ أم أننا نقرأ فقط خيوطاً سوداء لكل الأماكن التي زارها وعاش فيها؟ ويصرح بدوي أنه في هذا المحيط الوبيل من اضطهاده أو ظلمه قرر أن تكون قاعدة السلوك في حياته قوله "امتلِىءْ ثقة بنفسك وازدراءً للحاقدين"، وقاعدة مثل

نمط سيرة بدوي فريد في أنه لا يكتفي بذكر حالة في المجتمع الذي يعيش فيه، بل يسرد لك الوضع السياسي والاجتماعي وحالة الناس كأنه يكتب بحثا اجتماعيا

هذه تجعل أي نقد له نقداً صادراً عن حقد! لكنك تبتسم عندما يقول عن الدبلوماسيين إنهم كانوا يتابعون الجرائد ليعرفوا حركة الترقيات. وفي يوم طلب فتحي رضوان من أحد السفراء الجريدة، فقال السفير: ليس فيها شيء مهم! فقرأها فتحي رضوان ووجد خبر استقالة حسين سالم عضو مجلس قيادة الثورة. ويعلق بدوي" أي خبر مهم هو الترقيات فقط. وهذا الخبر، الذي كان بداية تفكك مجلس قيادة الثورة، هامشي في ذهن السفير.

الأسعار غالية، وسياسي حتى النخاع

نمط سيرة بدوي فريد في أنه لا يكتفي بذكر حالة في المجتمع الذي يعيش فيه، بل يسرد لك الوضع السياسي والاجتماعي وحالة الناس كأنه يكتب بحثا اجتماعيا، وينتقل من الخاص إلى العام. وثمة معلومة ستبتسم كلما وجدته يكررها في أكثر من موضع، ألا وهي الأسعار، يشغل بال فيلسوفنا تبدل الأسعار وغلاء المعيشة في العالم، يقارن بين أجرة الغرفة في باريس في عام كذا وكيف أصبحت أضعافاً مضاعفة في عام كذا، ويحكي عن أسعار الطعام وجودته وتوفره، ملاحظات طريفة تجعلك تشعر أن هذا الفيلسوف مثلنا جميعاً تشغله هموم المال والرزق.

وخلافاً لكثير ممن اشتغل بالفلسفة والعلوم الإنسانية، كان بدوي يعشق السياسية ويحب المشاركة فيها، يخرج من حزب مصر الفتاة، فيعيد مع ثلة من أصحابه إحياء الحزب الوطني الجديد الذي يفشل، فيعدد لنا أسباب فشله. ونراه يعتقل بعد اغتيال أحمد ماهر، ثم يرتبط اسمه في قوائم الأمن بمصر الفتاة. وفي الفترة الناصرية لا نجد تلك الشجاعة، وإن كان يظهرها في الكتاب. لقد عرف سوء الأوضاع، لكنه لم يواجه في حينها، بل يأخذ موقفا عنتريا في مذكراته فقط. لم يتواضع ليقص علينا سكوته أو مجاراته، بل يحاول إقناعنا بمعارضته للنظام (الذي عمل فيه دبلوماسيا)، ويريد أن يثبت أنه كان شيئا مختلفا. ترسل الحكومة المصرية رسالة إلى السفارات في الخارج تطلب رأيها في الوحدة، فيسأله السفير فيملي بدوي على السفير خطابا فيه أسباب رفض الوحدة مع سوريا. ليس المثقف مطالباً بأن يكون معارضاً، لكنه لا يجوز أن يجور على التاريخ فيعتبر نفسه معارضاً وناقماً وهو في الواقع دبلوماسي لسفارة بلده، لا يحتسب الإنكار القلبي في تاريخ السياسة.

شخصيات عرفتهم

من يقرأ سيرة بدوي يرَ شهادات عن شخصيات كثيرة عاصرها: يخصص فصلاً عن علاقته بالقائد الحربي عزيز المصري. بالطبع الفصل نقدي لتجربة عزيز المصري منذ معارضته العثمانيين إلى سجنه وخروجه من السجن. ويذكر لنا مواقف تقلل من قيمة عبد الرحمن عزام، أستاذاً في الجامعة وأميناً لجامعة الدول العربية. وعندما يرى لويس ماسينيون وهو في بيروت يقوم في وقت الفجر لحضور القداس في الكنيسة لمدة عشرة أيام عندما كان يسكن معه في نفس الفندق، يتعجب بدوي من سلوك هذا الكاتب العظيم وكيف يحرص هذا العقل المليء بالعلم على أداء الطقوس الشكلية وهو في أصعب الظروف، ثم يقول ولله في خلقه شئون ونقولها نحن عن بدوي أيضاً الذي لا ينسى أن يعرفنا أن لويس ماسينيون قد غادر الغرفة دون أن يدفع الأجر لصاحبة البنسيون، وحصلته  صاحبة البنسيون من السفارة الفرنسية في بيروت.

ويصف لنا بدوي يونس بحري ذلك الشخص الذي عاش في برلين وباريس، وكان يحسن الكلام والقراءة ارتجالاً بالإنجليزية

تجاوزت كتب بدوي المائة والعشرين، ترى فيها تاريخه الفكري. كان أول انتاج لبدوي كتابه عن "نيتشة" الذي ظهر في أكتوبر 1939، كتبه بغية تقديم الفكر الأوروبي للقارىء العربي، وسيقدم كتبا أخرى لنفس الهدف

والفرنسية والألمانية والتركية، فضلاً عن طلاقته المميزة في العربية الفصحى. كان بحري المذيع الأول في إذاعة برلين العربية، وكانت منصة للدعاية الألمانية ضد الحلفاء، وكانت تعليقات يونس بحري لاذعة مستمدة من الجناس اللفظي والآيات القرآنية. كان يونس بحري يتعمد الخطأ في ذكر أسماء الوزراء الانجليز، ويقول عقب ذلك: عفوا، لكن البقر تشابه علينا. ويصف بدوي توفيق الحكيم عندما يلتقيه في باريس في مواقف تقلل من قيمته، وينعته بالكاتب الصبياني ويصفه بأنه جاهل تام بباريس.

بدوي الكاتب ذو الشخصية القلقة

تجاوزت كتب بدوي المائة والعشرين، ترى فيها تاريخه الفكري. كان أول انتاج لبدوي كتابه عن "نيتشة" الذي ظهر في أكتوبر 1939، كتبه بغية تقديم الفكر الأوروبي للقارىء العربي، وسيقدم كتبا أخرى لنفس الهدف. ويلفت بدوي نظرنا بملاحظة طريفة، أن من الفئات التي أقبلت بشدة على قراءة كتابه فئة ضباط الجيش الذين كانوا ذوي تطلعات سياسية، ومنهم جمال عبد الناصر وأنور السادات كما صرحا بذلك. ولكن أشد هؤلاء الضباط حماسة للكتاب كان الضابط البطل أحمد عبد العزيز الذي استشهد في فلسطين سنة 1948، فقد أخبر بدوي أنه أوصى بأن يكتب على قبره عبارة قالها نيتشه ووردت في الكتاب "لكي تجني من الوجود أسمى ما فيه، عش في خطر!"، وعندما قابل أحمد عبد العزيز بدوي ردد أمامه بحماسة جملاً كثيرة من الكتاب.

فضيلة عبد الرحمن بدوي هي الجلد في البحث والكتابة والترجمة. نرى على رفوف المكتبة العربية ترجمته لدونكيشوت لسرفانتس وترجمة فاوست جوته، وكثيراً من الدراسات والمؤلفات، ونراه في كتابه الكبير (موسوعة الفلسفة) يضع اسمه واسم أستاذه الشيخ مصطفى عبد الرازق بين الفلاسفة الذين ترجم لهم. ويشير الدكتور حسن حنفي في بحثه عن بدوي أنه لا يحيل إلى  أحد من أقرانه في مؤلفاته عن الفلسفة وتاريخها، وكأنه أول من كتب في الميدان، ولا يحيل أو يشير بدوي إلى الترجمات العربية للنصوص الفلسفية، ويعتمد فقط على المراجع والمصادر الأجنبية. ونرى فيلسوفنا الشامل يشيد بمدرسة الآداب العليا في بيروت على التعاون الثقافي الحر بين بلدان "البحر المتوسط"، دون تسميته العالم العربي.

أي محاولة لاختصار أحداث حياة عبد الرحمن بدوي من خلال سيرته الذاتية تواجه بالصعوبة نظراً لطول حياة هذا الكاتب وكثرة مؤلفاته وكثرة التفاصيل التي تعرض لها في سيرته، عزاؤنا أننا أشرنا إلى بعض الأحداث التي تظهر كوامن شخصيته، وغرابة أطواره، وسلاطة لسانه.

كلمات مفتاحية