عبد الحكيم أجهر: ومدرسته الفكرية

2020.01.10 | 16:33 دمشق

abd_alhakim_ajhar.jpg
+A
حجم الخط
-A

كان أول كتاب أطلع عليه من كتب الدكتور عبد الحكيم أجهر (سؤال العالم: الشيخان ابن عربي وابن تيمية من فكرة الوحدة إلى فكر الاختلاف) سنة صدوره 2010، وخمّنت للوهلة الأولى أنّ المؤلف من بلاد العجم (إيران، أو الهند، أو أفغانستان)، فقد اقترن اسمه لديّ مباشرة بعبد الحكيم السيالكوتي العالم الهندي من القرن السابع عشر، الذي يعرفه طلاب العلم من خلال حاشيته الشهيرة على شرح العقائد النسفية للتفتازاني، ولكني عرفت فيما بعد أنه سوري الجنسية، دمشقي المولد، كندي الدراسة والاختصاص (1)، فزادت غبطتي به غبطة، لأنّ المرء يُسر ويسعد عندما يكتشف ثروة جديدة في بلده وغنىً إضافياً في وطنه، وتوالت معرفتي بكتبه: (ابن تيمية واستئناف القول الفلسفي في الإسلام) 2004، و(التشكلات المبكرة للفكر الإسلامي) 2005، و(أبو البركات البغدادي: بناء العالم على مسائل الدين ودرس الهوية) 2010، وفي السنتين الأخيرتين: (الله: الآخرية في الحضور، أو ما وراء الأصالة والمعاصرة) 2018، و(الحقيقة وسلطة الاختلاف: التصوف بوصفه إجابة أخرى عن السؤال الإسلامي) 2019.

تملأ هذه الكتب عين الناظر المدقّق بما حوته من استقصاء مساحات نصوص تراثية هائلة تتداخل فيها جميع الاختصاصات العلمية من دون أن يخوض فيها المؤلف خوض الجريء المتهور، وبما اشتملت عليه من استنطاق لهذه النصوص استنطاقاً لا يقوم على ضربها وتعنيفها من أجل أن تدلي بما لم ترتكبه أو تفكر في ارتكابه، ولكنه الاستنطاق الحذر الذكي الذي يقف بنجوة من التكلّف والتلفيق.

ينتمي أجهر، بحسب تقديري، إلى مدرسة علمية أكاديمية يقف في مقدمتها شيخ الأزهر وأستاذ الفلسفة الإسلامية في الجامعة المصرية مصطفى عبد الرازق (حوالي 1885 ــ 1947)، الذي افتتحها في كتابه (تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية) المطبوع سنة 1945، هذا الكتاب الذي "يشتمل على بيانٍ لمنازع الغربيين والإسلاميين ومناهجهم في دراسة الفلسفة الإسلامية وتاريخها، والباحثون من الغربيين كأنما يقصدون إلى استخلاص عناصر أجنبية في هذه الفلسفة، ليردّوها إلى مصدر غير عربي ولا إسلامي، وليكشفوا عن أثرها في توجيه الفكر الإسلامي"، وأما الشيخ عبد الرازق فـ "يتوخى الرجوع إلى النظر العقلي الإسلامي في سذاجته الأولى، وتتبّع مدارجه في ثنايا العصور، وأسرار تطوره، ويلي بيان هذا المنهج تطبيق له وتوضيح بما هو أشبه بالنموذج والمثال"، وقد أضاف إلى هذا (التمهيد) "ضميمة في علم الكلام وتاريخه، ليست مقطوعة الصلة به، إذ هي لا تعدو أن تكون نموذجاً أيضاً من نماذج المنهج الجديد".

والجديد في هذا المنهج هو تلمّس الشيخ عبد الرازق الفلسفة الإسلامية في أصول الفقه، لكي ينأى بها عن التأثيرات اليونانية، فأصول الفقه بضاعة إسلامية خالصة، ولهذا تتبّع (الرأيَ) ــ أي الاجتهاد ــ في الفقه منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم حتى الشافعي، ويعلّق عبد الرحمن بدوي في موسوعته الفلسفية على هذه المحاولة بقوله: "ومن البيّن أنّ الاجتهاد في الفقه لا شأن له بالفلسفة بالمعنى المحدود المفهوم والمتفق عليه بين المشتغلين بالفلسفة، وقصارى أمره أن يكون من أبواب (فلسفة القانون)، أو بحثاً في المنهج المستخدم في استنباط الأحكام الفقهية". وملاحظة بدوي وجيهة، ولذلك فإن المنهج الذي اختطه مصطفى عبد الرازق وكان رائداً فيه، خضع للتطوير والتعديل على يد المقتنعين به، فراحوا يتلمسون مظاهر هذه الأصالة لدى المتكلمين والفلاسفة والمتصوفين الذين عبّروا عنها التعبير الأوضح والأوفى، وكان من السبّاقين إلى ذلك الدكتور علي سامي النشار (1919 ــ 1980) فتناول في بحوثه النماذج المعبّرة عن روح الحضارة الإسلامية التي تجاوزت التأثير اليوناني عموماً، والمنطق الأرسطي خصوصاً في:

1 ــ طرق الاستدلال الفقهي: الفخر الرازي والكيا الهراسي وإمام الحرمين الجويني والزركشي وغيرهم.

2 ــ وطرق الاستدلال الكلامي: ابن حزم وابن تيمية.

3 ــ وطرق الاستدلال الصوفي الإشراقي: السهروردي المقتول.

4 ــ وطرق الاستدلال في العلوم الكيميائية والطبيعية: جابر بن حيان، وابن الهيثم.

وفي هذه السلسلة من الدراسات تأتي كتب الدكتور والمفكر عبد الحكيم أجهر لتتابع نتاج الدكتور علي سامي النشار، ولكن لتتجاوزه أيضاً في طريقة عرضه النضالية السجالية المكتنزة بالنزق والتحدي، معتمدةً الهدوء والتطامن والإيغال الرفيق، ولتتخطاه في تطوير المهمة التي ابتدأها الشيخ عبد الرازق، والتي لم تعد تقتصر على إثبات أصالة الفكر الإسلامي، وإنما تبتغي الدخول إلى عالم الحداثة من بوابة الهوية دخولاً فيه مقدار كبير من الثقة بأنّ الهوية والثقافة العربيتين قمينتان بإغناء الحداثة وإصلاحها في آن واحد، من دون الوقوع في وهدة الدفاع عن الثقافة التقليدية! وهذه مهمة يحاول النهوض بها أبو يعرب المرزوقي وطه عبد الرحمن، ويشاركهما فيها أجهر من دون أن يشاطرهما اللغة المعاظِلة التي يكثر فيها الإغراب واجتراح المصطلحات، وفي هذه المحاولة يؤكد أجهر على ما يسميه بـ (تعدد الحداثات)، متجاوزاً ثنائية (الأصالة والمعاصرة)، وذاهباً إلى ما وراءها، ليقرّر أنّ "القصد الضمني من ثنائية الأصالة والمعاصرة التي هيمنت على الفكر العربي الحديث هو سوق النصوص التراثية إلى لقاء الحداثة الغربية بطريقة قسرية، وكانت الأدوات المنهجية التي استُخدمت تُضمر نية تحويل التراث إلى نص شبيه بنصوص عصر النهضة الأوربية. لم تتم مساءلة النص التراثي عما يريد قوله، على العكس كان هذا النص يُؤخذ إلى أماكن لم يفكر بها أبداً وبعدها يُحاكم على عدم ذهابه إلى تلك الأماكن عند لحظة كتابته".

يتناول أجهر في كتبه المعتزلة والأشاعرة وابن رشد ومسكويه وسواهم من الشخصيات الرئيسية والثانوية، من دون أن يروم استعبادهم ولا استبعادهم، فهم يقدمون لنا الدروس والتدريب العقلي على فن الإجابة عن السؤال الوجودي الإسلامي، فـ "الإجابات التراثية مفيدة كتدريب، ولكنها ليست مفيدة كإجابة ناجزة"، ومن هنا درس بتوسع أبا البركات البغدادي الفيلسوف غير النمطي الذي تفلسف وفق مقتضيات الهموم الفكرية للثقافة العربية الإسلامية، من دون الاعتماد على مرجعية ناجزة، ورام تأسيس إجابات عن أسئلة العقيدة بديلة عن تلك التي صاغها الغزالي ومن قبله ابن سينا.

أما أهم الإجابات التراثية التي يقدّمها أجهر لنا حول الموضوعات التي تمسنا واقعاً ونظراً، فإجابات ابن عربي حول التسامح (2)، وحول معنى الحقيقة، ومعنى الحضور الإلهي في العالم، وإجابات ابن تيمية التي غيّبت عنا بعد أن قدّمه التقليد السلفي معصوراً مهصوراً مختزلاً مبتذلاً، ولئن كان علي سامي النشار مِن أوائل مِن أبرز لنا عالم ابن تيمية الفلسفي النقدي الرحيب، فإن أجهر هو مِن أهم مَن أغنى صورته وجلاها فغدت مشهدية النقد البرهاني الذي مارسه ابن تيمية أكثر وضوحاً واتساعاً، وزاد في إثرائها عندما خرج أجهر عن المألوف وقدّم قراءة جديدة تبرز الصلة الوثيقة بين أفكار ابن عربي وابن تيمية بعد أن ساد الاعتقاد أنهما متناقضان متنافران! وفي أثناء بحثه وتناوله لم يكن أجهر مأخوذاً مفتتناً مجمّلاً مزوّقاً، ولكنه مبصراً وناقداً ومتوازناً، فهو يكشف عن ازدواجية خطاب ابن تيمية، ويحاول تلمس أسباب هذه الازدواجية، ويعرضه لنا في يقينه وتذبذبه، كرأيه في العذاب الأخروي، فتارةً يدافع عن فكرة العذاب الأبدي، وتارةً يقول إنّ النار لا بدّ ستنطفئ يوماً ما ويستقر الجميع في الجنة، وفي مقاربته الفلسفية يرى أجهر أن ابن تيمية يبدو أقرب إلى ابن الطفيل من ابن رشد فالإنسان قادر على الوصول إلى الحقيقة بتأملاته الخاصة دون إعانة أحد، وهذا ما ترجمه ابن تيمية بفكرة العقل الصريح، التي تقتضي عنده، خلافاً لابن رشد، عدم الاستعانة بمنظومة فلسفة ناجزة كمنظومة أرسطو، وهذه الفكرة تجعل العقل متنامياً ومتجدداً وقابلاً لأن يرى دائماً في النص وجهه الآخر، دون أن يكون محكوماً بمنظومة محددة، والخلاصة التي يخلص إليها أجهر: "إذا قرأنا ابن تيمية بإمعان، لوجدناه فيلسوفاً أكثر من الفلاسفة، ومتكلماً أكثر من المتكلمين".

يستأهل عبد الحكيم أجهر سلسلة من المقالات لإجراء مقارنات بينه وبين من يضارعه في موقفه ودعوته من جهة، وللتدقيق أكثر في قضية (الحداثات المتعددة) التي يطرحها، والأسئلة المتنوعة والمشكلات العديدة التي تثيرها، ونحن على موعد معها بعون الله تعالى.

(1) كانت دراسة أجهر الأكاديمية في معهد الدراسات الإسلامية بجامعة مكيغل/ مونتريال، وحصل منها على شهادة الماجستير حول إمام الحرمين الجويني، وشهادة الدكتوراه حول ابن تيمية.

(2) يقول أجهر: "كان ابن عربي يهدف إلى جعل نظرية التسامح مع عقائد الآخرين نظرية مؤسساً لها مفهومياً، وليس مجرد مطالبة أخلاقية".

كلمات مفتاحية