عبثية استمرار الحرب واستحالة الاستسلام

2019.08.25 | 00:08 دمشق

+A
حجم الخط
-A

هذا هو المأزق. استمرار الحرب بغياب أي أفق لتغيير مسارها الساحق لصالح النظام والإيرانيين والروس، ليس له مردود سوى مزيد من الضحايا والدمار. 

إلقاء السلاح أيضاً ليس له مردود النجاة أو الخلاص، بل تسليم بمصير التنكيل والتهجير والإعدامات وانطفاء جذوة التمرد.

المأزق أن النظام الأسدي وحلفاءه لا يقترحون لإنهاء الحرب أي حل سياسي ولا أي حد أدنى من شروط التفاوض. أما صيغة "الاستسلام من دون شروط"، فهي تعني وفقهم تهجير المدنيين وإعادة هندسة ديموغرافية تطهيرية للبلدات والمدن والقرى، ومعاقبة السكان إلى أمد طويل بما يشبه "الإبادة الباردة"، وإلقاء أكبر قدر منهم خارج سوريا. بمعنى آخر، الاستسلام لا ينهي الحرب على الشعب السوري بل يغير من صورتها. تصبح حرباً بلا ضجيج، وبكلفة أقل.

وقف القتال وإلقاء السلاح ربما ينقذ عشرات الآلاف من الأرواح. لكن المأزق الرهيب، أن نظام الأسد هو مجرد حرب دائمة على سوريا. بمعنى أن كل سوريا – ومن دون طيران ودبابات – تخضع لحرب يومية يشنها الجيش والميليشيات الموالية وأجهزة المخابرات، ومن ورائهم رجال أعمال من الحاشية والمحظيين وعصابات مافياوية بالغة العنف والوحشية، ضد معظم الشعب السوري، إذلالاً وتشبيحاً واستيلاء ونهباً وتسلطاً وترهيباً بالاعتقال والقتل ومصادرة الأملاك والأموال والاعتداء على الحرمات وانتهاك أبسط القوانين. وهذا ليس حالاً مؤقتة، بل إن النظام "يعد" السوريين جميعاً أن هذا هو مستقبلهم المتاح، وليس ما يقدمه لهم سوى ذلك: القهر والموت، الذل والعبودية.

يؤمن بشار الأسد ومؤيدوه أن ما حدث ابتداء من آذار 2011، يوجب تكريس الحكم والسلطة والنظام وكل جهاز الأمن والجيش كآلة عقاب مستدامة لعقود عديدة مقبلة. 

بهذا المعنى، يقترح الأسد لإنهاء جحيم الحرب ما قد نسميه "جحيماً سلمياً"، إبادة هادئة.

المأزق الأصعب أن "الثورة المسلحة" بما آلت إليه كتنظيمات إسلامية متطرفة لا تقدم للسوريين أي تصور سياسي واقعي

بالمقابل، تتضاعف المأساة في العجز السياسي الهائل الذي باتت عليه "المعارضة" ليس فقط بكونها متصدعة ومتشرذمة، بل أيضاً لكونها منبوذة عمداً من قبل المجتمع العربي والدولي، بلا سند ولا رصيد ولا قدرة، ولا تملك أي "أوراق تفاوضية" فعلية، طالما أن القرارات الدولية ونتائج المؤتمرات كلها باتت "أدبيات ديبلوماسية" لا صلة لها بالحقائق ولا أي تأثير لها على الوقائع ورسم السياسات. أما ضعفها الفعلي فمرده الانفصال التام بينها وبين الفصائل المسلحة. والمأزق الأصعب أن "الثورة المسلحة" بما آلت إليه كتنظيمات إسلامية متطرفة لا تقدم للسوريين أي تصور سياسي واقعي، ولا أي إجابة ممكنة للمستقبل السوري كدولة وشعب وكيان ونظام. وهي تخوض حربها الخاصة التي إما هي "انتحارية" أو هي تحت إدارة وإرادة جهات خارجية، إقليمية ودولية. ينطبق الأمر نفسه مأزقاً مهلكاً على "قسد" و"قوات الحماية الشعبية".  

المأزق إذاً، هو هذا اليتم التام للشعب السوري. رميه في عراء حقل الرماية الشاسع. والمؤلم أن التواطؤ الدولي والعربي حرم السوريين من أي قدرة في الدفاع عن نفسه. بات مشروع "ضحية" ومن غير المسموح ولا المتاح له رفض هذا المصير البائس.

المأزق الأخلاقي في تأييد استمرار حرب هائلة الدمار وفائضة الدموية من دون أي احتمال للنصر فيها، هو استهتار واسترخاص بحياة مئات آلاف السوريين. لكن أيضاً الدعوة لوقف المقاومة أو مبايعة النظام كسلطة شرعية في سوريا ثمناً لوقف الحرب، هما خيانة تامة واسترخاص مريع لكل التضحيات والآلام والعذابات والخسائر الفادحة التي بذلها ملايين السوريين.

من الصعب حل هذا التناقض بضمير مرتاح. ففي الحالين، يطرح العالم علينا وعلى الشعب السوري التعايش مع "الجريمة" التي اقترفها النظام وما زال، وتحويلها إلى بداهة يومية. وأبعد من ذلك، لا المجتمع الدولي ولا النظام السوري يسمحان لنا بـ"ترف" الاختيار بين الاستمرار في الثورة أو الخيانة، ولا حتى يتيحان لنا التفكير بحل التناقض الأخلاقي بين عبثية الحرب وانتحارية الاستسلام. الخيار الوحيد الذي يقدمانه هو القبول بدور الضحية الدائمة، بمصير الإبادة السياسية، أي أن يكف الشعب السوري عن كونه شعباً ومجتمعاً.

هذا المطلب المستحيل، وبسبب استحالته، ما يجعل السوريين يتجاوزون سؤال الحرب أو الاستسلام، ويتجاوزون "سوريا الأسد" بنسختها الجديدة (الإيرانية الروسية)، وهم يفعلون ذلك الآن تأسيساً على ملحمتهم ونكبتهم و"هزيمتهم" ورفضاً للمكوث في صورة "الضحية"، صوغاً لهوية تقطع عن تلك المسماة "سوريا الأسد".

في مطلع آب استمع "مجلس الأمن" لشهادة السيدة آمنة خولاني، وهي كانت سجينة في معتقلات النظام، كما زوجها. سردت أن لها شقيقين قتلا في السجن تحت التعذيب، وعثرت على صورة شقيقها الثالث جثة، ضمن عشرات آلاف صور ملف "قيصر" الشهير.

تلك السردية المروعة لمصير عائلة تشكل عينة واحدة تدل على مصائر معظم العائلات السورية. وعليها باتت تقوم ذاكرة وسياسة وتاريخ. وأغلب الظن أن هذه هي الهوية الجديدة للشعب السوري. مأساته التي تميزه عن "شعب الأسد". قد تنتهي الحرب غداً أو تستمر سنوات إضافية. لكن ما حدث كله هو خروج السوريين إلى الأبد من سوريا الأسد. 

المأساة ستتخذ طوراً جديداً، ما بعد الثورة والحرب، وهي سؤال "تحرير سوريا".