icon
التغطية الحية

عالم بلا قانون.. كيف ساعدت شركة إيطالية الأسد في تعقب الناشطين؟

2020.10.17 | 09:06 دمشق

rts6cwy_0.jpg
فورين أفيرز- ترجمة: ربى خدام الجامع
+A
حجم الخط
-A

خلال هذا الصيف، تعرضت مجموعة من المؤسسات العامة ذات الأشكال والأنواع المختلفة وأولها البرلمان النرويجي، ثم سوق الأوراق المالية في نيوزيلاندا، وكذلك الفاتيكان للهجوم الذي لم تطلق فيه طلقة، ولم يكسر فيه باب، ولم تنفجر فيه قنبلة، بل استطاع فيه المهاجمون أن يتسللوا إلى الشبكات الداخلية في تلك المؤسسات في محاولة منهم للقيام بعملية تجسس، وتعطيل سريان الأمور اليومية، أو الحصول على فدية من الضحايا أو ابتزازهم. بيد أن الحوادث من هذا النوع ما هي إلا غيض من فيض، وذلك لأن الهجمات الإلكترونية تحدث على الدوام، إلا أن الكثير من عمليات التسلل والاقتحام تمر مرور الكرام دون أن يلاحظها أو يبلغ عنها أحد. ففي الدول الديمقراطية، وحدها وكالات الاستخبارات والشركات الخاصة هي من يستطيع الوصول إلى فهم مفصل حول الهجمات الإلكترونية ومخاطرها. في حين يتعين على بقية الناس أن يتزاحموا للحصول على معلومات حول ما يحدث بالفعل في قاع العالم الرقمي.

وعلى مدار سنوات، نوه السياسيون ممن انتبهوا لتلك الأخطار والتهديدات الجديدة إلى احتمال وقوع هجوم بيرل هاربر إلكتروني، أي هجوم مدمر للبنية التحتية الرقمية الحساسة في البلاد. إلا أن الخطر المباشر يأتي من الهجمات التي تحدث دون بلوغ ذلك المستوى، إذ بوسع عمليات الاقتحام والتسلل أن تتسبب بضرر هائل. ففي عام 2017، استغل قراصنة وجود ثغرة في نظام تشغيل مايكروسوفت ويندوز فقاموا بنشر فيروس خبيث أصاب 300 ألف حاسوب في 150 دولة، حيث أضر هذا الفيروس الذي يعرف باسم واناكراي بأفراد ومؤسسات ووكالات حكومية بينها القطاع الصحي الحكومي في المملكة المتحدة، ما أدى إلى إلغاء أكثر 19 ألف موعد وخسائر وأضرار قدرت بحوالي 100 مليون دولار. وقدر خبراء بأن كل ما ورد حول تكلفة التعطيل التي أصابت العالم بسبب فيروس واناكراي بلغت حوالي 4 مليارات دولار. إلا أن محققين أميركيين وبريطانيين تعقبوا مصدر البرمجيات الخبيثة فوصلوا في نهاية المطاف إلى عملاء سريين في كوريا الشمالية.

يمثل فيروس واناكراي حادثة نادرة روج لها بشكل كبير وتعتبر جزءاً من مشكلة أكثر حساسية ودقة إلا أن قلة من الناس تدرك ماهيتها، ألا وهي سهولة استغلال الفاعلين الخبثاء ممن لديهم أهداف جيوسياسية أو إجرامية للثغرات في عموم العالم الرقمي. فمعظم الهجمات وعمليات التسلل والاقتحام من هذا النوع لا يلاحظها أحد وتتألف من سلسلة تضم لكمات تجري باطراد بدلاً من توجيه ضربة كبرى واحدة. وبدلاً من الاعتماد على الأحداث الدراماتيكية التي يراها الجميع، يتعين على رجال السياسة أن يركزوا على إحياء دور المؤسسات الديمقراطية لضمان أمن الناس ضمن الفضاء الإلكتروني.

وللقيام بذلك، يتعين على الحكومات أن تعترف بأن القطاع الخاص يتمتع بقوة وإمكانيات كبيرة ضمن العالم الرقمي، ولهذا تنازلت الدول الديمقراطية عن مساحات شاسعة في هذا الملعب لصالح الشركات، فأصبحت السلطات العامة تحت رحمة الشركات الخاصة بشكل أكبر، وهكذا لم يعد بمقدورها أن تدقق في عمل الشركات التي تقوم مثلاً بتزويد برمجيات للمشافي، أو تعمل على إقامة شبكات الكهرباء، أو طرح الأجهزة الذكية. كما لم تعد الهيئات التشريعية ومجالس المدن تطلع على الاختبارات الأمنية المهمة التي تخضع لها تلك النظم. وهذا الاختلال في التوازن منح الشركات الخاصة موقفاً مهيمناً لا تحلم به سوى الحكومات: فقد أصبحت الوكالات الحكومية المسؤولة عن أمن البلاد اليوم في موقف محرج جراء اعتمادها على المعلومات التجارية لتقوم بمهامها. كما تواجه الحكومات منحنى تعليمياً وعراً وذلك بالنسبة لفهم النزاع والمخاطر الموجودة في المجال الرقمي، ولكن حان الوقت المناسب لتقوم تلك الحكومات بانتهاج نهج ومقاربة مبنية على تضافر الجهود وتنسيقها بشكل أكبر لترويض هذا العالم الخالي من أية قوانين.

الدولة المستضعفة

على مدار قرون تمتعت الدول باحتكار استخدام القوة، ويعود الفضل في ذلك إلى وجود قوة غير متكافئة سهلتها عمليات أتمتة الأسلحة الإلكترونية وانتشارها، إلا أن هذا الاحتكار انسل من بين يدي الدول. والحق يقال إن العديد من الدول الديمقراطية ومن بينها الولايات المتحدة قد طورت أدوات فعالة لنشر الفضاء الإلكتروني، وإنشاء نظم مراقبة غاية في التعقيد إلى جانب شن هجمات ضد الخصوم. وفي الوقت ذاته، تتصارع الدول المتطورة مع القطاع العام الذي يمارس عملية استخدام قوة غير متكافئة في المجال التقني وذلك عبر اختطاف البيانات والاضطلاع ببعض الوظائف والمهام الأساسية التي تقوم بها الدولة، ومن بينها حماية البنية التحتية الحساسة.

إذ تقوم الشركات الخاصة بعمل مضاعف يتمثل ببناء هندسة العالم الرقمي والتحكم بتدفق البيانات فيه إلى حد بعيد. إلا أن تلك الشركات كثيراً ما تتحول إلى ضحية للهجمات الإلكترونية، لكنها تتواطأ في تلك الهجمات عندما تفشل في حماية قواعد البيانات وتفقد معلومات شخصية تعود لعملائها وزبائنها. والأنكى من ذلك أن بعض الشركات عمدت إلى تطوير وبيع تقنيات جديدة للخصوم في مختلف بقاع العالم. وهكذا أصبحت الحكومات الاستبدادية (وكذلك العديد من الحكومات الديمقراطية) تستعين بخدمات القراصنة وتشتري نظم مراقبة وضبط رقمية تباع لأغراض تجارية. فعلى سبيل المثال اتهمت شركة ساندفاين الأميركية بتزويد حكومة بيلاروسيا بتقنية استخدمتها خلال الصيف الماضي لمنع دخول المواطنين إلى الكثير من المواقع على الشابكة خلال فترة الاحتجاجات المناهضة للحكومة. أما الفاعلون غير الحكوميين، مثل الميليشيات أو العصابات الإجرامية، فقد أصبح بمقدورها أن تعيث فساداً من خلال الهجمات الإلكترونية، وأن تكبد الدول القوية وكذلك الشركات والمنظمات الدولية أضراراً جسيمة.

وغالباً ما تمر السلطات بفترة عصيبة قبل أن تفهم تلك الهجمات الإلكترونية وأن تقوم بتحديد مرتكبيها. ونتيجة لذلك يقوم منفذو الهجمات غالباً بفعلتهم وهم يدركون أنهم سيفلتون من العقاب، ولهذا يستخدمون أساليب ذكية ويستفيدون من الفراغ القانوني، بالرغم من وجود بعض الآليات التي تضمن تعاوناً وتنسيقاً دولياً في الكشف عن منفذي الهجمات الإلكترونية ومحاكمتهم. ولهذا يشيع استخدام علم مزيف في تلك العمليات حيث يقوم الفاعلون بإلغاء هوياتهم في محاولة تحميل مسؤوليتها على الآخرين وذلك ضمن العالم الرقمي. ثم إن عملية التطفل والتسلل التي تدار في بقعة بعيدة من بقاع العالم يمكن أن تنفذ في أجزاء من الثانية، دون أن يلاحظها أحد في الغالب الأعم. وذلك لأن سرعة الابتكارات الرقمية تفوق قدرة الدول على منع وقوع الهجمات الإلكترونية، ومحاسبة مرتكبيها، وفرض القوانين المناسبة على معايير التشفير وحماية البيانات والمسؤولية التي يتحملها المنتج (أي محاسبة المصنعين أو البائعين عن السلع التي صنعوها أو تاجروا بها).

وهكذا لم يعد بمقدور الدول أن تسيطر على الشركات الخاصة التي يمكن أن تؤثر بما تفعله على الأمن العام، ففي بعض الحالات تجد الدولة نفسها معتمدة على شركة من هذا النوع. إذ في مطلع هذا العام، كشف خرق في قاعدة بيانات تعود لشركة كليرفيو إيه آي المختصة بالتعرف على الشخصية عبر الوجه بأن الشركة كانت تبيع تقنياتها وقواعد بياناتها ليس فقط لوكالات حفظ النظام التي تدقق في كل شاردة وواردة، بل أيضاً لعدد كبير من الشركات الخاصة. وأظهر هذا الخرق كيف يمكن لشركة خاصة أن تنشر معلومات بالسر عن المواطنين دون الحصول على موافقتهم، ودون أي شفافية، زد على ذلك إمكانية تعرض الشركة للجهات المعادية. ومع ذلك ماتزال وكالات حفظ القانون والنظام تعتمد بشكل متزايد على عمل شركات التقانة مثل شركة كليرفيو إيه آي.

كما أن الاعتماد المتزايد الذي يبديه المجتمع على الأجهزة التي يتم ربطها رقمياً يخلق المزيد من الثغرات على المستوى العام، إذ يمكن لمنفذ هجوم حصيف وقادر أن يستغل الثلاجة التي تعتمد على البرمجيات في البيت أو الشارع الذي انتشرت فيه حساسات تقوم بجمع البيانات في مدينة صغيرة، ليجد العديد من نقاط الدخول ليحرم بذلك نظاماً أكبر من السيطرة التي يتمتع بها. وإنه لتحد كبير بالنسبة لوزارات الدفاع وأجهزة الاستخبارات أن تقوم بنشر رجالها على الأسوار وأن تستمر بمراقبة هؤلاء الخصوم الذين يعتمدون على تعقيدات كبيرة. غير أن خطوط الجبهة أصبحت اليوم منتشرة في كل مكان ويعود الفضل في ذلك إلى انتشار التقانة الرقمية، وعليه يتعين على الأطباء في المشافي والأساتذة الجامعيين في الكليات والمخابر، والناشطين الحقوقيين في الدول القمعية أن يناضلوا ويحاربوا هذه التهديدات الإلكترونية.

إلا أن الأهداف المدنية ليست على استعداد دائم بما فيه الكفاية لهذا النوع من القتال. إذ تقوم المؤسسات العامة في أغلب الأحيان بنشر نظم رقمية ذات حماية ضعيفة حتى عندما تقوم بمعالجة معلومات حساسة. وهنا لا يمكننا أن نلوم عيادة طبية مثلاً لقيامها بتوظيف جراح إضافي بدلاً من الخبير في مجال الأمن الرقمي. وقد تختار جامعة حكومية أن تستثمر في الحواسيب المخصصة للطلاب دون أن تحصل على المزيد من سبل الحماية باهظة الثمن لضمان أمن نظم الحواسيب الجديدة. وقد يقرر مجلس الانتخابات أن يقوم بتحديث العملية الانتخابية وذلك عبر اعتماد آلات لعد الأصوات والاستغناء عن أوراق الاقتراع دون أن يطلع على الإجراءات الوقائية المناسبة، أو دون أن يوفر وسيلة للاستثمار في الحماية المطلوبة. وظاهرياً تبدو هذه الجهود المبنية على نوايا طيبة مفهومة، لكنها تسهم في التآمر على المجتمعات وإضعافها في تلك الحالة.

مساعدة المستبدين

إن الاختلال الحاصل بين القطاع العام والخاص في الدول الديمقراطية يتجلى بشكل أوضح ضمن ساحة خطيرة أخرى تتمثل بعمليات بيع الأسلحة الإلكترونية للأنظمة الاستبدادية. ولا توجد سوى بضعة قوانين تحد من الطريقة التي يمكن من خلالها للشركات أن تتعامل بنظم المراقبة والحظر والاقتحام والتسلل الرقمية لأغراض تجارية. وهنا تعتبر سوريا حالة مثيرة للقلق في هذا السياق، إذ خلال الحرب التي عصفت بها، استعانت حكومة بشار الأسد بعمليات نفذتها ضمن الفضاء الإلكتروني لتقوم بضرب الخصوم في الخارج والمعارضين في الداخل. وهكذا تعرف العالم على القراصنة الذين ينتمون لما يعرف باسم الجيش السوري الإلكتروني (الذي ادعى أنه يعمل بشكل مستقل عن حكومة النظام) وذلك بعدما قاموا بتشويه مواقع الشركات الإعلامية الغربية، مثل موقع صحيفة نيويورك تايمز والبي بي سي، وكذلك بعد قيامهم بقرصنة موقع فيلق البحرية الأميركية. وهذه الانتصارات الدعائية السريعة كانت أقل أهمية بكثير من الهجمات التي ساعدت الحكومة على تنفيذها رقمياً ضد شخصيات معارضة محلية ومدافعين عن حقوق الإنسان خلال فترة الاحتجاجات السلمية في عام 2011. ففي ذلك العام استعانت حكومة النظام بتقنية رقمية غاية في التعقيد لجمع المحادثات التي تتم بين المعارضين، ثم استغلالها لتجريم الناشطين واحتجازهم.

وليس من المستغرب أن يلجأ لهذا الأسلوب القمعي أحد أعنف الأنظمة في العالم، إلا أن ما يصدمك هو تلك الشركات الأوروبية التي ساعدته في ذلك. فقد اعتمدت حكومة الأسد على تقنيات وخبرة شركة AREA الإيطالية، حيث قامت تلك الشركة ببيع تقنياتها لسلطات النظام بما ساعده على مراقبة المحادثات في عموم أنحاء البلاد، إلى جانب جمع المنشورات على فيسبوك وتمحيصها، وكذلك جمع وفحص كل ما يتم البحث عنه في غوغل وفي الرسائل النصية والمكالمات الهاتفية، عبر الاعتماد على كلمات مفتاحية أو اتصالات تمت بين أفراد بعينهم، لتأتي الجولة التالية التي خضع لها المدنيون المعارضون والتي تسببت بتعذيبهم ومقتلهم.

ثم إن سوريا ليست الدولة الوحيدة التي حصلت على دعم تقني من الخارج بهدف ممارسة القمع في الداخل، إذ خلال العقود الماضية، صممت شركات موجودة في دول غربية وسوقت وباعت تقنيات مماثلة وذلك لعدد من الحكومات الاستبدادية الأخرى، منها مصر وإيران والسعودية والإمارات. إذ عندما تفشل الدول الديمقراطية بمنع بيع نظم قرصنة عدائية من قبل شركات موجودة ضمن أراضيها، ووصولها لحكومات غير ليبرالية، فإنها بذلك تقوض الطموحات التي تسعى إلى نشر السياسة الخارجية لتلك الدول. إلا أن هذه المشكلة لن تنتهي بهذه البساطة، إذ تتوقع بعض التقديرات بأن إجمالي المبيعات السنوية على مستوى العالم لتلك النظم لابد وأن يرتفع إلى مئات المليارات من الدولارات بحلول عام 2021، وقد دخلت الصين هذا السوق اليوم بكل عدائية، بعدما كانت الجهة التي دفعت وحرضت العالم على تطوير وتصدير التقنيات التي تساعد على القمع، ويشمل ذلك تقنية التعرف على الوجوه، ونظم الشرطة التنبؤية.

كما أن وصول هذه التقنيات لأيدي أطراف غير حكومية يثير الكثير من القلق والمخاوف، إذ بوسع هؤلاء أن يقوموا بتعطيل أقوى الدول والمنظمات والشركات وذلك عبر الهجمات الإلكترونية. ففي عام 2015، أدى اختراق برنامج  JPMorgan Chase  إلى كشف 83 مليون حساب، ثم ألقي القبض على أربعة أشخاص في نهاية الأمر. وفي عام 2017، اخترق "راسبوتين" وهو قرصان يبدو وكأنه يعمل بمفرده قواعد بيانات لجامعات أميركية ومؤسسات حكومية، على أمل أن يقوم ببيع ما وصل إليه من معلومات. وفي مطلع هذا العام، تمكن شاب من فلوريدا في السابعة عشرة من عمره برفقة قرصانين آخرين من الاستيلاء على 130 حساباً معروفاً على تويتر، كان من بينها حساب الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، ونائب الرئيس الأميركي السابق جو بايدن، ثم قام هؤلاء بنشر رسائل أقنعت الناس بإرسال الأموال لحساب بيتكوين محدد. وكان بوسع هؤلاء القراصنة أن يستخدموا عملية الوصول إلى تلك الحسابات لتحقيق أهداف أعظم شراً وأشد ضرراً، مثل محاولة تصعيد النزاع الجيوسياسي أو انهيار سوق الأوراق المالية.

وهنا تجدر الإشارة إلى أن بعض الأشخاص الذين يتمتعون بمهارات استثنائية كتلك يقومون ببيع مواهبهم لمن يدفع أكثر، ومن هؤلاء نذكر أسوأ الشركات سمعة التي تقوم بتوظيف القراصنة وهي شركة دارك ماتر DarkMatter، فهذه الشركة المختصة بالأمن الإلكتروني والموجودة في دولة الإمارات العربية المتحدة قامت بتوظيف مسؤولين سابقين في الاستخبارات لدى وكالة الأمن القومي الأميركية وقوات الدفاع الإسرائيلية، لتؤسس ما يرقى إلى وكالة استخبارات خاصة لا يمكن تبين المعالم والحدود الفاصلة في قوتها بين الشركات والدول. ويمكن لهذا النوع من الشركات التي تضم أقوى وأهم وأرفع المهارات وأن تستقطب عملاء تافهين بينهم أنظمة استبدادية بل حتى يمكنها أن تستقطب مجموعات إرهابية.

لقد ناضلت الدول الديمقراطية طويلاً لتنظيم العالم الرقمي وضبطه وكذلك سوق الأسلحة الإلكترونية، غير أن بعض شركات التقانة بدأت تتصرف من تلقاء نفسها، فشركة واتساب، قامت برفع دعوى قضائية من خلال شركتها الأم فيسبوك خلال الربيع الماضي ضد مجموعة إن إس أو  NSO وهي شركة إسرائيلية تقوم بمراقبة الهواتف النقالة، حيث ورد في ادعاء تلك الدعوى بأن شركة NSO استغلت وبشكل صريح ثغرة في واتساب لتنتزع معلومات بشكل غير قانوني من هواتف المستخدمين. وزعمت شركة فيسبوك بأن ما فعلته شركة  NSO مخالف للقانون. وقد كانت هذه الشركة أيضاً موضوع دعوى رفعت في إسرائيل في عام 2018 من قبل معارض سعودي ادعى بأن السلطات السعودية استعانت بتقنية هذه الشركة للتجسس على محادثاته، ومن بينها محادثاته مع الصحفي جمال خاشقجي الذي اغتيل في تركيا على يد عملاء سعوديين في العام نفسه. ويعتقد أن هنالك خمساً وأربعين دولة تستخدم ذات المنتج الذي قدمته شركة NSO بينها دول ديمقراطية مثل المكسيك وإسبانيا.

صياغة القواعد

يجب ألا يترك الأمر للشركات الخاصة والمحاكم لتقرر شرعية المنتجات والخدمات التي يمكن أن تنافس أجهزة الاستخبارات في الدولة، بل يتعين على الدول الديمقراطية أن تنشر قواعدها وقوانينها لضمان الأمن في العالم الرقمي. وتماماً كما وافقت الدول على القوانين الدولية التي تخضع لها الحروب والأسلحة النووية، يجب عليها أيضاً أن تصوغ اتفاقيات لصد أي تهديد في الفضاء الإلكتروني. كما أن مرتكبي الهجمات الإلكترونية ظلوا بلا محاسبة لفترة طويلة، ولهذا يتعين على الحكومات الديمقراطية على وجه الخصوص أن تقوم بعدد من الخطوات لإعادة ميزان القوة إلى وضعه بين الدول والشركات الخاصة التي لعبت دوراً كبيراً للغاية في العالم الرقمي.

ويجب على السياسيين أن يشرعوا بتحديد النظم التي تمت أتمتتها بدقة والتي تعتبر مهمة وضرورية للصالح العام وللأمن العام ولتسيير أمور المجتمع. كما يجب على المسؤولين أن يصنفوا النظم ذات الصلة كتلك المعنية بعملية عد الأصوات على أنها بنية تحتية حساسة، إلى جانب وضع مجموعة من المعايير والضوابط المحددة لتلك النظم، حتى تلك التي انتشرت بين شركات القطاع الخاص. غير أن معظم البلدان قد توانت وتكاسلت عن بلوغ هذه الغاية، إذ طال الأمر بوزارة الأمن المحلي الأميركية حتى كانون الثاني من العام 2017، لتقوم بتحديد وتخصيص البنية التحتية الخاصة بالانتخابات ووصفها على أنها حساسة.

وفي أغلب الأحيان لا يقوم المسؤولون بالاطلاع على المعلومات التي تتصل بالأخطار التي تحيط بالمؤسسات العامة، ولهذا يجب أن يتم إبلاغهم عن نتائج الاختبارات الحساسة التي تقدر مدى مرونة وقدرة الهجمات الإلكترونية على اختراق معلومات العيادات والمستوصفات، ومراكز الاقتراع، والسلطات المعنية بجمع الضرائب، وغيرها من المؤسسات الهامة. وإضافة لكل ما سبق يتعين على الحكومات أن تضع قواعد إرشادية صارمة بالنسبة للطريقة التي يجب على المسؤولين من خلالها على المستوى المحلي والقومي أن يقوموا بشراء النظم الرقمية، وكذلك كيف يجب على الأنظمة المسؤولة التي لديها شركات خاصة أن تتحمل المسؤولية تجاه تبعات تلك المنتجات التي أنتجتها. وينبغي على السياسيين أيضاً أن يدرسوا وبعناية عمليات اتخاذ القرارات التي يتم بموجبها تحديد متى يمكن جلب وظائف الدولة ونظمها الأساسية من مصادر خارجية توفرها شركات خاصة. إذ لا يجوز لشركة مثل كليرفيو إيه آي أن تسبر الإنترنت بكل بساطة لتنشئ قواعد بيانات تضم وجوهاً ثم تبيعها لوكالات حفظ النظام والقانون. إذ من الصعب أن نضمن عمل جهاز الشرطة وفقاً للقانون عندما نعطي سلطة كبيرة لشركة خاصة لم تتم مراقبتها وتدقيق حساباتها بشكل جيد مثل شركة كليرفيو إيه آي.

ثم إن الاتفاقيات التي تنص على تبادل الأسرار وعدم إفشائها تمنع وصول المعلومات لشركات التقانة الخاصة ومن ثم فضحها على الملأ. ونتيجة لذلك، تسعى الحكومات لفهم التهديدات والأخطار الحقيقية التي كانت موجودة بالأصل. وهذه الدروع القانونية التي تتمترس وراءها الشركات الخاصة يمكنها أيضاً أن تمنع عمليات البحث المستقلة التي قد تضر بشكل مقصود أو غير مقصود بمنتجات تلك الشركات. وهذا الغموض يقطع الطريق على الجدل الذي يثيره المطلعون من العامة حول الأتمتة والأمن كما يقف في وجه صوغ سياسات بناء على الأدلة.

لذلك يتعين على الحكومات أن تضع معايير وقواعد وقوانين لضمان قيام الشركات الخاصة بتوفير وصول مهم للمعلومات.

كلنا يعرف أنه على من يعيش في بيت من زجاج ألا يرمي الناس بالحجارة، إلا أن الحكومات الديمقراطية تعرضت لغواية فكرة نشر أسلحتها الإلكترونية في هجوم صريح في محاولة منها لردع الخصوم. بيد أن هذه العمليات يجب أن تخضع لقواعد اشتباك واضحة. كما أن عمليات الهجوم والدفاع في الفضاء الإلكتروني يجب أن تخضعا لرقابة تشريعية وديمقراطية، حتى لو بقيت جلسات الرقابة تلك سرية.

فخلال السنوات الأخيرة، استهدفت العمليات الأميركية العلنية الصين وروسيا منذ أن منحت تكليفاً بذلك عبر مذكرة رئاسية حول الأمن القومي وقعها الرئيس الأميركي دونالد ترامب في عام 2018، والهدف منها تخفيف القيود المفروضة على استخدام الأسلحة الرقمية. عندها احتج أعضاء الكونغرس لأن إدارة ترامب لم تقم بعرض المذكرة على الكونغرس، فغياب الرقابة الديمقراطية هنا أمر مثير للقلق. إذ يجب ألا تتم الزيادة في استخدام الإمكانيات الإلكترونية في الهجوم والدفاع حتى من قبل الدول الديمقراطية التي تتصرف عادة بموجب حكم القانون دون تفويض قانوني ورقابة مستقلة مناسبة.

وفي الوقت ذاته، يتعين على الحكومات أن تمارس سيطرة أكبر على عملية تعاونها مع القطاع الخاص في أشياء ضرورية. إذ كثيراً ما تعتمد مؤسسات الدولة على الشركات الخاصة في حماية البنية التحتية الحساسة أو ضبط ومراقبة الأخطار في النظم الرقمية. لذا عندما يكون الوضع كذلك، يتعين على السلطات أن تضمن تحديد تسلسل واضح للمسؤولية والمحاسبة. كما تحتاج المؤسسات الحكومية في الدول الديمقراطية أيضاً إلى تحسين عملية التنسيق مع بعضها البعض وذلك عندما تتطور لتقف في وجه التحديات التي يفرزها العصر الرقمي. ثم إن نهج الحكومة الشامل يساعد على تحديد الأهداف المتضاربة وسد الثغرات التي تظهر في الوعي والمسؤولية بين أجزاء مختلفة تنتمي للحكومة ذاتها.

وبوسع المجتمعات الديمقراطية أن تفعل المزيد لتوضح للعامة الأضرار التي خلفتها الهجمات الإلكترونية وأن تلك الهجمات خلفت ضحايا فعلاً، وذلك لأن عامة الناس يعتقدون بأن هذه الأحداث غير مفهومة وأنها نفذت على يد قراصنة مجهولي الهوية في المقرات العسكرية. ولكن ينبغي لتلك السردية أن تتغير، وذلك لأن الهجمات الإلكترونية تترتب عليها عواقب فعلية تتجاوز حدود وزارات الدفاع وأجهزة الاستخبارات لتصل إلى بيوت الناس ودور الرعاية والحرم الجامعي، وعيادات الأطباء. لذلك يجب أن يسهم تبديد الغموض المحيط بالخطر وأنسنته في تشجيع المزيد من الناس على التعامل بجدية أكبر مع الأمن الإلكتروني واستخدامهم الشخصي للتقنيات الرقمية. فإذا ضمنت الحكومات بأن الشركات أصبحت أكثر شفافية، عندها يصبح بوسع الإعلام أن يدقق في سلوكيات القطاع الخاص الذي سيسمح بدوره للعملاء بالاطلاع بشكل أكبر على ما يجري. ويجب أن يسهم هذا التشارك مع العامة في حماية أجندة الإصلاحات السياسية الضرورية وإبقائها.

وهنا لابد من القول بأن عمليات التسلل والتطفل الدائمة والهجمات الإلكترونية المستمرة تعكس كيف ستخسر الحكومات الديمقراطية في المعركة التي تدور بين القراصنة والحكومات، لأنها إذا لم تقم بالمزيد، عندها سيرجح ميزان القوة لصالح الفاعلين الساعين للإضرار بالغير وللشركات الخاصة والأنظمة الاستبدادية. أما إذا قدمت الحكومات الديمقراطية المزيد؛ عندها يمكن لأساس جديد يشتمل على تدابير وضعت بطريقة ديمقراطية أن يروض حالة انعدام القانون وغيابه في الفضاء الإلكتروني، وهذا بدوره سيعيد الثقة بالنظام الليبرالي الذي يعتمد على قوانين وقواعد يمكنه من خلالها أن يثبت وجوده في العصر الرقمي.

المصدر: فورين أفيرز