طوفان الهجرة.. أوروبا الاستعمارية وانهيار الدولة "التقدمية"

2021.12.11 | 05:31 دمشق

-1-23-1170x600.jpg
+A
حجم الخط
-A

منذ أسابيع يتابع العالم المأساة الجارية على الحدود البيلاروسية البولندية، حيث يتكدس الآلاف من طالبي اللجوء والمهاجرين، معظمهم من الدول العربية، ولا سيما العراق وسوريا واليمن، في محاولة منهم للوصول إلى الفردوس الأوروبي.

في سيل الأخبار التي نراها على الشاشات وفي مواقع الصحف والقنوات التلفزيونية، ثمة إجماع ضمني على تحميل الرئيس البيلاروسي سبب الأزمة الإنسانية المتفاقمة هناك، وذلك عبر تسهيل بيلاروسيا إجراءات الحصول على تأشيرة الدخول إليها، واستعمال المهاجرين ورقة ضغط سياسية لتخفيف العقوبات الأوروبية على الرئيس ونظامه.

الاتجاه نحو تحميل الرئيس البيلاروسي المسؤولية هو نوع من الاستلاب للخطاب الإعلامي القادم من المركز الأوروبي. لا عاقل ينكر أو يجادل في أن لوكاشينكو دكتاتور ليس لديه أي إحساس بالمعاناة الإنسانية التي يكابدها المهاجرون، وأنه ليس الأول الذي يتخذ من المهاجرين وطالبي اللجوء سلاحا للحصول على تنازلات من الآخرين، فقد فعلها غيره من قبل، ونجح في ذلك. ففي كتابها: "أسلحة الهجرة الجماعية: التهجير القسري، الإكراه، السياسة الخارجية" "Weapons of Mass Migration: Forced Displacement, Coercion, and Foreign Policy" تشير كيلي إم. غرينهلKelly M. Greenhill   إلى نجاح أسلوب الابتزاز هذا على نحو جزئي في 73 بالمئة من الحالات التي درستها منذ عام 1951م حتى وقت صدور الكتاب عام 2010م، بينما نجح استعمال سلاح الهجرة في تحقيق كل أهدافه في 57 بالمئة من الحالات. ولكن الوزر الأكبر في المأساة الدائرة حاليا تتحمله أوروبا نفسها التي يتغاضى الخطاب الإعلامي العربي عن تحميلها المسؤولية. إن الصورة التي يرسمها الإعلام هي أننا أمام نظام سلطوي أو ديكتاتوري يحاول تقويض أمن جيرانه الديمقراطيين، بدلا من أن تكون الصورة المرسومة هي "أزمة مهاجرين".

القراءة السطحية للعلاقات العربية الأوروبية، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، تظهر ارتهان السياسة الخارجية الأوروبية للتبعية الأميركية على نحو شبه كامل، والتزامها بالمحرمات التي حددتها لها أميركا فيما يتصل بالصراع العربي-الإسرائيلي، وهو أس المشكلات في منطقة الشرق الأوسط. لكن هذه قراءة خاطئة، فأميركا هي استطالة كاملة لأوروبا التي تراجع دورها على الساحة الدولية، ولكنها لا تزال محكومة بالنظرة الاستعمارية التقليدية التي تنظر منها إلى العالم العربي. لقد تدخلت أوروبا لإجهاض أي مشروع نهضوي عربي، منذ مشروع محمد علي في مصر حتى غزو العراق في بداية القرن الحالي. وبهدف التعمية على جوهر سياستها المتمثلة في إضعاف الشعوب العربية وتهميشها، اكتفت بخطاب إعلامي أجوف. لقد فتحت أوروبا ذراعيها للنظم الديكتاتورية والعسكرية، وتعاملت معها من زاوية نفعية صرف، فهذه الأنظمة هي أداة طيعة لتنفيذ السياسات الأوروبية التي غضت الطرف عن فساد تلك الأنظمة وهمجيتها وعنفها بحق مواطنيها. كانت تلك هي الاستراتيجية الأوروبية في العالم العربي. وكانت أوروبا تظن أنها من خلال تبعية هذه الأنظمة، ومساعدتها على البقاء وتكريس الاستبداد، تستطيع أن تحقق أهدافها في المنطقة، بدلا من العمل مع القوى الليبرالية أو النخب التي كانت تسعى لإشاعة قيم الاستنارة والعقلانية والحرية، وتحقيق حد أدنى من الديمقراطية وحقوق الإنسان والحوكمة الرشيدة. لكن هذه الأخيرة كانت محرمات أوروبية في تعاملها مع منطقتنا.

 جاءت اللحظة الحاسمة مع الربيع العربي الذي أزال ورقة التوت التي كان يتشدق بها دعاة الديمقراطية وحقوق الإنسان، فلم تقف أوروبا موقف المتفرج حيال ما يجري من عمليات قمع مريعة فحسب، ولكنها كانت جزءا من الثورة المضادة حين تحالفت مع الأنظمة القمعية في حملاتها ضد المعارضين.

لقد أسهمت أوروبا في المأزق الذي تجد فيه نفسها الآن، فهي أمام شعوب تقع على الضفة الأخرى، شعوب أخفقت في التحول إلى مجتمعات صناعية منتجة، يضاف إليها تشرذم الدول وانهيارها أمام تغول الميليشيات والأنظمة التي تدعهما أوروبا نفسها. هكذا سدت أبواب الأمل أمام كتلة سكانية ضخمة، لا تجد حلا إلا الهجرة إلى أوروبا، ولن تستطيع الإجراءات القانونية التي تتخذها الدول الأوروبية، ولا تصاعد موجات العنصرية، ولا تشديد الرقابة والحراسة على الحدود، أن توقف سيل مهاجرين فقدوا كل أمل في بلدانهم.

تظهر أزمة اللاجئين الأخيرة انهيار القيم الليبرالية التي نادت بها أوروبا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، والتي أسفرت عن الميثاق العالمي لحقوق الإنسان، والاتفاقية الدولية لحقوق اللاجئين...إلخ. وهي الاتفاقيات التي أُسس بناء عليها الاتحاد الأوروبي، فالليبرالية تعني أن كل البشر متساوون في الحقوق، بغض النظر عن مكان ولادتهم أو انتماءاتهم الدينية والعرقية...إلخ. وعلى الرغم من أن طوفان الهجرة قد يشكل حلا للمعضلة الديمغرافية التي تعانيها أوروبا العجوز، فإن الدول الأوروبية آثرت حماية هوياتها الخاصة، ومصالحها الذاتية، ولا سيما في ظل تصاعد اليمين المتطرف.

لكن الإنصاف يقتضي عدم تحميل المركزية الغربية وحدها وزر هذا الإخفاق الحضاري الذي نرى آثاره أمامنا الآن، فقد أضاعت الدول العربية التي تشدقت يوما ما بأنها "نظم تقدمية" فرصا كثيرة للتحول إلى دول فيها حد أدنى من مقومات الحياة والعيش المشترك؛ فالخراب العميم الذي نراه اليوم في الوطن العربي يصيب تلك الدول التقدمية تحديدا. ففي ظل "الأنظمة الرجعية" بقيت العلاقة بين الحاكم والمحكوم علاقة أبوية، لا تسمح لأحدهما بتجاوز حدود العرف السائد. والأمثلة واضحة، فليس من بين طالبي اللجوء أردني واحد، مع أن الأردن بلد فقير قياسا ببلد مثل الجزائر التي تعد بلدا مصدرا للمهاجرين. لقد حققت "الدول الرجعية" - كما كانت تطلق عليها الأدبيات القومية واليسارية - قفزات كبيرة على المستويات التعليمية والتنموية والخدمية، ونقلت مجتمعاتها من البداوة وعالم العشيرة إلى دول توفر كثيرا من مقومات الحياة، على الرغم من إغلاق المجال السياسي. أما "الدول التقدمية" فقد أصيبت بنكوص حضاري وثقافي، وأسفرت سياساتها القمعية وفسادها عن دول فاشلة وخراب مجتمعي عام لم تعد تبعاته تقتصر عليها وحدها، ولا على محيطها الجغرافي، بل امتد ليشمل دولا أبعد.

طوفان الهجرة يشير بوضوح إلى أن النظام العالمي الحالي عاجز عن الاستمرار في التعامل مع هذه الحركة الواسعة للبشر، فقد اختفت الحدود أو تلاشت، وأصبحت قضية السيادة والسيطرة على الحدود جزءا من نظام عالمي آفل، فالمبدأ الذي أُسست عليه الدولة المعاصرة القائمة على مشتركات اللغة والأرض والتاريخ المشترك يبدو أنه لن يتأخر في إعلان موته. المسألة مرتبطة بتوقيت الإعلان وطريقته، وبشكل العالم الجديد الذي سيبزغ لاحقا.