طواحين الكلام

2018.10.20 | 00:10 دمشق

+A
حجم الخط
-A

 كنّا أربعة في المطعم الذي يطلّ على الكورنيش، وقبل أن ينتصف الليل، انتصفت سهرتنا، وفرغت جعبة أحمد من الكلام، فالتفت إليَّ كعربةٍ تداهم طفلاً :

-لم نسمع صوتك بعد!

لم أكن أرغب بتعكير صفو الجلسة بأفكاري السوداوية التي تتزاحم في رأس متعبة:

المتناثرون في مخيم الركبان على الحدود السورية الأردنية يعانون من التشرد والإهمال ونقص المواد الغذائية وأبسط حاجات الإنسان.

المدنيون اليمنيون الذين تطالهم يد الموت كما تطال السوريين العالقين بين فكّي النظام والشبيحة والفصائل المتعدّدة المتنافرة القادمة من روسيا وإيران وأمريكا، فضلاً عن التشكيلات المحليّة التي تشكّل إمارة في كل حي.

قضية جمال خاشقجي، كما قضايا آلاف ضحايا الأنظمة الاستبدادية، تبقى عالقة تلوّح في الفضاء باحثة عن مخرج للقتلة، مع أنها مسائل واضحة كسطوع الشمس، لكنّ مصالح الدول والأفراد المتنفّذين تحجب الشمس ببرميل أو مدفع أو منشار.

الربيع العربي الذي تحوّل إلى فصل هجين يرتوي بدماء الأبرياء ويطلب المزيد.

من حواري حلب يصلني صوت سهيل متعثّراً بوجوه غريبة لاتشبه المدينة ولا المدينة تشبهها. لم يقل لي إنه يتلفّت خائفاً من العسكر والشبيحة واللصوص والمثليين والمتحولين الذين ملؤوا الساحات ولوّثوا الحدائق.

اقتصرت مساهمته على الإفصاح عن رغبته باعتزال الناس ليعيش في منطقة نائية تبعد عن القيل والقال، وتريح معدته من مشكلات مدينة تمدّ رأسها كقرية مدهوشة فتكتشف أنها تطلّ على العصر من شرفة القمامة .

حسين كان يختلس النظر إلى المرآة متحسّراً على تَدافع الأيام السريع ، بالرغم من أنه لم يبلغ الأربعين . وكانت الخيبة تطلّ من ملامحه مفصحة عن تذكرّ بقايا عزيز بعيد ، وترتسم على شفتيه جملة متعثّرة تريد أن تباشـر البوح بأنه ربما يوجد في المكان الخطأ ، أو .. ربما كان التوقيت هو السبب .

أما أنا فقد كنت أعدّ هزائمي بصمت .. وحين داهمني أحمد برغبته في أن أشاطره جريمة خرق السكون ، بدا لي للوهلة الأولى أن ثرثرته هي سبب وجومنا ، ثم اكتشفت أنني لا أتقن فعل المجاملة... إلى درجة جعلت اللغة تتسّرب من ذاكرتي ، وتتلاشى الحروف في الهواء .

 ما الذي سأقوله يا أحمد ؟

هل تريد أن أفسد عليك السهرة فأحدّثك عن فجائعنا المتواصلة التي رمت بنا إلى مستنقعات استجداء ما يفرغ منه الآخرون ؟

أم أحدّثك عن فحولتنا الغائبة عن كل الأمكنة، كانت باستثناء السرير، ثم غابت حتّى عنه.          

حقّاً، قد نحمي بيوتنا ومصادر عيشنا بكل الالتواءات الممكنة، لكننا نعجز عن حماية أرواحنا من التعفّن الذي يتراكم فوق الصدور .

نشعر بغربة قاتلة ونحن نحاول أن نحلّ معضلات مشكلاتنا اليومية، التي قد يصيبنا تأمّلها بقرف عارم، لأنها مشكلات تجاوزتها الكائنات الحيّة التي تُعدّ أدنى مرتبة من الإنسان .

وتستمر عذاباتنا في التجـوّل أمام أعيننا من غير أن نجد حـلاً جذريّاً لها، لأننا غير قادرين على ممارسة إنسانيتنا في واقع يفرض علينا اضطهاداً لم يَخبره أجدادنا.

وما ذاك إلاّ لأننا نعيش في ظلّ نظام قِيَمي استهلاكي لا يعبّر عنّا، ولا نستطيع مقاومته ، فنغرق في دوّامة حاجات اصطناعية نريد إرواءها فتستهلك أرواحنا .

أمازلت تريد مني الكلام ؟

لقد تعلّمت يا صديقي من ( دون كيشوت ) ألاّ أحارب طواحين الهواء ، كي لا أبدّد قواي التي أحتاجها لإنقاذ انسجامي الداخلي، وتعلّمت - على طريقة جبران - أن أصمت حين لا أجد موضوعاً يمسّ إنسانيتي في الصميم ، كي لا أجترّ نفسي في دوّامة طواحين الكلام .

أحمد لم يستوعب غلياني الداخلي ، وظلّ يلحّ في السؤال .

ولكنّه أصيب بالذهول عندما انتصبت واقفاً .. ضغطت الكأس بيدي .. وحين انكسرت .. رسم الدم على الطاولة أشكالاً هلامية تشبه أحمد . اقترب النادل منّي بحذر .. مسح الطاولة .. والتزم روّاد المطعم الصمت .