طلقات المدافع بدلاً من حوار الحضارات

2020.03.28 | 00:07 دمشق

unnamed_1.jpg
+A
حجم الخط
-A

درست كثيراً من الأبحاثِ التي تتحدث عن حوار الحضارات، وهي أبحاث قدّمها باحثونَ أجلاّء قطعوا على دروب كثيرة مما أردت أن أقول، وهذا يعني أننا متّفقون على كثير من الأمور، وحين وجدتهمُّ قد أفاضوا وأفادوا، وقفتُ حائراً بين أفكار كثيرة يمكن أن نخوضَ فيها. حوار الحضارات.. حوار مع الآخر الذي يمثّل حضارةً ما.

الآخر -دائماً – شخص لا يمكن أن يكون أنا. أصغي إليه عندما أجده نداً لي، وأنصاع له عندما أجدني دونه في المرتبة، أما عندما يُخيل إلي أنه أدنى مني بكثير فقلما أسمح له بإبداء وجهة نظره أمامي، وإذا فعلت فإنني سأتركه يتحدث من غير أن أصغي لما يقول. هذه هي سيرورةُ التاريخ في مجملها، أمّا فضيلةُ استيعاب الآخر فهي جهد أخلاقي لا يتمتّع به الكثيرون، بل لم يتجسّد عمليّاً إلاّ بالأنبياء وقلّةٍ من الصالحين.

نحن – في معظم أبحاثنا– على عكس الظاهر، لا ندعو إلى أي حوار، وإذا كنا نفعل فإن ذلك لا يعدو أن يكون وهماً دونكيشوتياً.

أبحاثنا بالعربية، وبالكاد تستطيع أن تصل إلى دمشق وأنطاكية، وهي لا يمكن إلا أن تكون وصفاً تاريخياً يداخله شيءٌ من التحليل ووجهات النظر في ما كان، وفي تصور ما يمكن أن يكون.

فإذا تُرجمت الأعمال إلى الإنكليزية وانتشرت على نطاق واسع، وهذا حلمٌ، فإنّ صداها لدى الآخر لن يكون سوى التجاهل، وربما الشعور بالزهو، ولن ينتج سوى المزيد من التعالي لديه.

نحن بحاجة إلى الآخر كي يسمع صوتَنا وليعرف رأيَنا.. وهذا لن يكون إلا عندما، كما يقول الكواكبي: لدينا سيف "إن المستبد يتجاوز الحد ما لم يرَ حاجزاً من حديد، فلو رأى الظالمُ على جنب المظلوم سيفاً لما أقدم على الظلم ".

كل دعوة إلى الحوار لا بد إلاّ أن تبوء بالإخفاق. لا يمكن أن ندعو الآخر إلى حوار أو إلى كلمة سواء، لكن من الممكن أن نجبرَه عليه.. وهو لن يصغي إلى آرائنا ما لم يُجبر على ذلك. لذلك علينا أن نُعدَّ العُدّة قبل بدء الحوار، كما نعدُّ العُدّة قبل بدء القتال.

ومن نصوص العهد الجديد: من لوقا: لا تظلموا أحدا ولا تشوا بأحد... أحبوا أعداءكم. أحسنوا إلى مبغضيكم. باركوا لاعنيكم. وصلّوا لأجل الذين يسيئون إليكم. من ضربك على خدك فاعرض له الآخر أيضا. غير أن المسيح عليه السلام ترك لنا تقديرَ أن من يضربُكَ على الخد الآخر علينا أن نصفعَهُ كي نعينَهُ على الخروج من غيّ نفسِه. وحتّى نفعَلَ ذلك علينا أن نبدأَ بإصلاحِ أنفسِنا.. أيضاً انطلاقاً مما جاء في متّى: (كيف تقول لأخيك: دعني أُخرج القذى من عينك وهذه الخشبة في عينك. يا مرائي أَخرِج أوّلاً الخشبةَ من عينِك). كيف ندعو الآخر إلى الحوار ونحن نعلن غيرَ ما نُبطِن؟

وبالقدر الذي يتوجّب علينا أن نتجنّب التعامل مع الآخر (الغرب) بصفته نظاماً واحداً وكياناً متناسقاً، فالآخر (الغرب) مطلوب منه ألا يتعامل معنا (نحن المسلمين) باعتبارنا (نظاماً واحداً وكياناً متناسقاً).

فنحن وهو لدينا من التنوع العِرقي والثقافي واللغوي، ومن الاختلافات

إن العلاقة بين المسلمين وبين الآخر، لا بد أن تقوم على أساس المبادئ الإنسانية النبيلة التي بشرت بها الأديان السماوية

السياسية والمنهجية الشيء الكثير.  إن معرفة الآخر وفهمه والاقتراب منه والتعامل معه بالحسنى وبالعدل والقسط، كل ذلك يقربنا إلى معرفة الذات، وإلى إدراك الأبعاد المتعددة للهوية التي تُختزل في (نحن). وبغير هذه المعرفة المنهجية وهذا الاستيعاب الموضوعي، لمفهومي (نحن والآخر) لن نصل إلى الجواب الشافي الجامع المانع لسؤال (مَن نحن؟) و(مَن هو الآخر؟)، وكيف تتشكل علاقتنا به؟. إن العلاقة بين المسلمين وبين الآخر، لا بد أن تقوم على أساس المبادئ الإنسانية النبيلة التي بشرت بها الأديان السماوية، والتي تنطلق من الإيمان بوحدة الأصل الإنساني، وبوحدة المصير، وبالأخوة الإنسانية، وبالعمل الجماعي في إطار التعاون الإنساني النزيه من أجل إشاعة قيم الخير والعدل والسلام. ولا بد أن تقوم هذه العلاقة ايضا، على أساس أحكام القانون الدولي، بحيث يكون الحق فوق القوة، وتسود في الأرض وتهيمن على العلاقات الدولية، قوةُ القانون عندما يقف المرء عند حدود القول، لاشيء يتغير في واقعه. وقد آن لنا منذ حين أن نكفّ عن ردود الفعل المنطقية التي تودي بنا إلى حيث لا نريد. إننا أشبه بمن يلعب (الشطرنج) أمام محترف ينقلنا حيث يشاء هو ما دمنا نلعب وفق قواعد ثابتة محددة بمنطق الآخر وفي لعبة يتقنها أكثر منا. المربك للمحترف في هذه اللعبة هو الخصم الذي يسير بخططه هو ولا يلتفت إلى خصمه إلاّ بالحدود الدنيا للدفاع. والتساؤل المطروح هنا: ما قيمة (الشطرنج) وقواعده لإنسان منشغل عنه بشيء آخر؟. النظام العالمي الجديد.. حوار الحضارات وصراعها.. العلمانية.. وأخيراً (العولمة).. ما شأننا بذلك كله، وما جدوى مناقشته ما دمنا نصدر عن فكر واضح وثقافة راسخة قوامها العرب الذين يحملون لواء الحضارة الإسلامية عبر قرون؟

لدينا مشروع حضاري جاهز لا تنبغي لنا استعادته كما كان، بل العمل على تطويره مستعينين بتفكير علمي تقني، اقتصادياً وسياسياً وفكرياً.

العالم يتغير من حولنا ويتطور، ولا يستحيل علينا أن نستعين بآليات تطور الحضارة لنسهم فيها كي لا نكون أشبه بحرس الحضارة القديمة. نرفض تطور العالم كي لا يتضح تخلّفنا. إن عبور القارّات لتلقّي العلم ليس عيباً ولا يشكّل عقدة نقص عند طالبيه، بل هو أمر لابد منه من أجل التطوير.

هل يعقل أن نحصي العدد بحبات (الحمّص) ونتخلّى عن الآلة الحاسبة لأنها من إنتاج الغرب، أم الأجدى هو أن نتعلم تقنية تلك الصناعة وآلية استخدامها وتطويرها؟

لم يكن ابن خلدون مخطئاً عندما قال "إن المغلوب يقتدي الغالب"، وأمامنا اليوم فرصة نادرة للتقدم السريع، ليس باستخدام التكنولوجيا فحسب، وإنما بامتلاكها أيضاً، أي بفهم تلك الشرائح العجيبة التي تقبع داخل (الكمبيوتر).

نريد الحفاظ على تراثنا وخصوصياتنا؟ لابد لنا من فهم ما يدور حولنا إذن، ومن تحديد واضح لأهدافنا وإلاّ فما الفائدة من الجمل الإنشائية والسجعية الحافلة بكل الصور البيانية التي تمجّد الأمـة والوطن وترد على ألسنة مجتمع غير قادر على إيصال صوته إلى العالم عبر شرائح الكمبيوتر؟ إننا أصحاب حق وتاريخ وحضارة، كلها ضائعة لأن أصواتنا لاتصل إلاّ إلينا، بينما تصل أصوات الصهاينة إلى العالم لأنهم يشتغلون على البحث العلمي ولا ينشغلون عنه بردّات فعل عدائية تجاه التطور العلمي الحاضر. إننا نهمل ذلك كله بالرغم من أننا أصحاب الحديث الشريف (اطلبوا العلم ولو في الصين)، وننشغل عنه بصراعات داخلية تُناقش العلمانية والعولمة والمجتمع المدني، ونفتح جبهات صراع حول مشروعية قصيدة النثر والقصة القصيرة جداً والنص. ولا ننتبه إلى أهمية النفاذ في ضمائر الآخرين.

إن تراثنا المكتوب بقي مكتوباً على الورق في حين تحولت الثقافة اليوم إلى شيء مبثوث يدخل كل بيت. كم من نتاجنا يدخل عالم الانترنت؟!

في عالم الكمبيوتر والإنترنت والإعلام، إذا أراد شخص في الأسكيمو أن يبحث عنّا… لن يجد شيئاً في عالم الاتصالات… وكل ما يسمعه أو يراه من الآخرين يوحي بأن العرب والمسلمين كانوا يعيشون على هذه الأرض.. أما الآن فلا وجود ثقافي لهم… وقد يصورنا الأعداء على أننا مجموعة إرهابية متخلّفة تتصرّف بشكل عشوائي.

وأصحابها ماذا يريدون.. ماهي طموحاتهم.. ماهي أطروحاتهم؟ لا أحد يعلم عنها شيئاً.. ونحن لم نسعَ بعد لإيصال أفكارنا إلى الآخرين. أدوات الثقافة اليوم هي غير أدواتنا، فكيف نُعرف إذاً؟!. وماذا نحن في عالم العولمة سوى شعب غامض يقبع في مكان ما من العالم، ويتلقى ما تبثه محطات التلفزة والإنترنت في العالم. ما المشاريع التي نطرحها اليوم؟ كل المحاولات الآن فردية تعتمد على همّة الشخص ومدى تفرّغه ومقاومته ليقدّم رؤيا ومشروعاً ومقولة، أما المنظمات الأهلية ومؤسسات الدولة فهي غائبة عن الفعل الثقافي، لا تشجع أي جهة أي شخص للانضمام إلى مراكز بحث علمي أو أدبي أو فني ليقدم مجموعة مبدعين وجهات نظر حضارة ماتزال حية حتى الآن وتمثل العرب والمسلمين.

ما الذي نقدمه للعالم مما لدينا ليتضح إبداعنا في عالم اليوم، وكيف نفعل ذلك بلا وسائل فاعلة.

وهل نكتفي بالإصغاء إلى صوت العولمة مشدوهين؟ في حين أننا نستطيع تحويل العولمة إلى معطى حيادي شرط أن نسرع في مسألة الحوار الداخلي كي لا ننقسم بين تمترس أيديولوجي حداثوي منفلت، ونزعة تبشيرية ترفض كل ما هو قادم لحساب الناقة.

ليس بيدنا وقف تدفق العولمة، ولكن التعامل معها بالطريقة التي نشاء هو ما يمكننا فعله.

وقد صدر بيان ليشتنشتاين حول الحوار بين الحضارات والثقافات: الفهم والتفاهم، استناداً إلى قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة بإعلان سنة 2001 سنةً للحوار بين الحضارات، وتنفيذاً لقرارات مؤتمر القمة الإسلامي، والمؤتمرات الإسلامية لوزراء الخارجية بشأن مساهمة العالم الإسلامي من خلال مؤسساته المتخصصة وهيئاته الحكومية وغير الحكومية، في أنشطة هذه السنة، من أجل إبراز ما يحثّ عليه الإسلام من مبادئ التسامح والتعاون على ما فيه الخير للبشرية، وإظهار ما تزخر به الثقافة والحضارة الإسلاميتان من قيم الإنصاف والعدل والتواصل البنَّاء مع الثقافات والحضارات جميعاً. وفيه دعوة إلى: - تعزيز مبادئ الحوار بين الحضارات والثقافات المعاصرة.

    - تأكيد مفهوم التعاون الإنساني القائم على الاحترام المتبادل

- البحث عن صيغ طيّعة ملائمة لربط الأهداف والمضامين النظرية للحوار بين الحضارات، بآليات تنفيذ ووسائل عملية تحقّق الأهداف الإنسانية وذلك في إطار الالتزام بمقتضيات ميثاق الأمم المتحدة والمواثيق والإعلانات والعهود الدولية ذات الصلة.

- العمل من أجل إضفاء الشرعية القانونية على الحوار بين الحضارات بحيث يصير الحوار الحضاري أساساً من أسس العلاقات الدولية، وليس مجرد اختيار ثقافي غير ملزم للمجتمع الدولي.

إن الحوار يحتاج الى متحاورين وأنه إذا غاب المتحاورون وأصروا على العدوان فمن حقنا في الشرعية الدولية وفي كل الشرائع الانسانية أن ندافع عن أنفسنا.‏ ‏