طفولة العالم أيضاً ليست بخير

2019.12.10 | 16:22 دمشق

2019-11-21t095621z_818532029_rc2lfd9bxdli_rtrmadp_3_yemen-daily-life.jpg
+A
حجم الخط
-A

بالرغم من كل الاتفاقيات الدولية والتوصيات ودساتير غالبية الدول في العالم والقوانين والتشريعات والموروث الثقافي والقيم والأعراف، حول الطفل ورعايته وضمان سلامته ومستقبله وحقوقه مجتمعة، إلا أن الطفولة أيضًا تعيش أزمتها حتى في أكثر المجتمعات تقدمًا وأكثرها حرصًا على تأمين حقوق الطفل ورفاهيته، ولا أحكي هنا عن أطفال بلداننا، أو البلدان التي تعاني من الاضطرابات والحروب والفقر والتشريد إلى ما هنالك من الأزمات التي تعيشها الشعوب أو الكوارث التي تحل بها، بل عن أطفال العالم المتقدم علينا في مجال الحقوق والاستقرار والنمو، العالم الذي يُصنف على أنه متحضر.

إن لهذا العالم أزماته الوجودية المختلفة عن أزمات شعوبنا، ولا يجوز المقارنة بين الحالتين، فشعوبنا تعاني من القضايا التي تجاوزها العالم منذ عقود وأكثر، ويلزمنا مشوار طويل من النضال من أجل الوصول إلى حقوقنا الإنسانية، حتى لو أن هذا المشوار قد بدأ، وبدأ بشكله الدامي العنيف، إلا أن الطريق ما زال طويلاً والعمل شاقًا في وجه الشعوب التي تطمح بتغيير حياتها وامتلاك قرارها وإرادتها، كما لا يمكن التكهن مستقبلاً حول ماهية الحياة التي تنتظرها في المستقبل، إنما يمكن القول إن بقاء الوضع على حاله أصبح من الماضي، فلا بد من التغيير ولا بد من التحولات التي ستؤدي في النهاية إلى أوضاع مغايرة نحلم بأن تكون نحو الأفضل وبناء حياة على مستوى التضحيات التي قدمت والأثمان الباهظة التي دفعت.

إن لهذا العالم أزماته الوجودية المختلفة عن أزمات شعوبنا، ولا يجوز المقارنة بين الحالتين، فشعوبنا تعاني من القضايا التي تجاوزها العالم منذ عقود وأكثر

الأطفال دفعوا الثمن الأكبر في المناطق التي اشتعلت فيها الحروب بعد أن كانت شعوبها تطمح بثورات على الواقع، وليس أقسى من التجربة السورية أو اليمينة أو العراقية، فهم قبل كل شيء ليسوا فاعلين لا في القرارات ولا في التنفيذ ولا في رسم الخطط أو التحالفات أو المعارك أو السياسات، هم القرابين السهلة التي لم تكن في حسبان الأطراف المتصارعة أو القوى الضالعة في مأساة هذه الشعوب، حتى إن وضع الأطفال لديها لا يمكن إدراجه في الإحصاءات التي تبني عليها المنظمات الدولية تقاريرها، كالتي تقول مثلاً إن نسبة الوفيات خلال الثلاثين عامًا الماضية لدى الأطفال دون الخامسة قد تراجع بنسبة خمسين بالمائة، لكن الواقع يقول إن أطفال منطقتنا المشتعلة يموتون أكثر من السابق، أو إن المياه الصالحة للشرب توفرت لأعداد كبيرة من الأطفال قياسًا بالماضي، وهذا أيضًا لا يشمل أطفال هده البلدان، أو تراجع نسبة الأطفال الذين يعانون من سوء التغذية، بينما أطفال اليمن نموذج صارخ في وجه العالم الفاجر، فمن حق هؤلاء الأطفال علينا وعلى العالم أن نؤمن لهم مستقبلاً يعوض ما جنوه من ويلات أخطائنا التاريخية، مستقبل ليس من الضروري أن يكون مستنسخًا عن تجارب غيرنا من العالم، بل أن تكون له ملامحه الخاصة التي تحمل بصمة تنتمي إلى الإنسانية قبل كل شيء، فهل هذا ممكن في عالم تصنع فيه الحياة قوى كبرى وإرادات جبارة واحتكارات متغوّلة في مصير العالم؟

صحيح أن الطفل في الدول المتقدمة ينعم بالحقوق التي أقرتها المواثيق الدولية، وترعاها الحكومات وتضمنها القوانين، فالطفل مرفه، جيد التغذية، يحظى بفرص التعليم والعناية الطبية واللهو والسكن اللائق واللباس وغيرها، لكنه يعيش أزمة وجودية أيضًا، سببها ليس نظام الأسرة كما يحلو لأفراد مجتمعاتنا توصيفها، بل إن الأسرة مصانة بالدستور ومكفولة بالقوانين المدنية، إلا أن الأزمة هي بسبب جبروت النظام الاقتصادي الذي يعتصر الإنسان حتى آخر نقطة حياة، يجعله قطعة من آلته الجبارة، يلهث ويسابق الزمن ليحصد ما يكفيه لكي يعيش فقط، ساعات العمل طويلة ويوم العمل أطول خاصة في المدن الكبيرة التي يهدر فيها الأفراد وقتًا طويلاً من أجل الوصول إلى أماكن عملهم، وبناء على هذا النظام الحياتي القاسي فإن الأطفال منذ انتهاء عامهم الأول، وربما قبل نهايته، يذهبون إلى دور الحضانة أو رياض الأطفال أو المدارس، وغالبًا قبل بزوغ الضوء في بعض المناطق التي تفتقد للشمس في الشتاء وتعيش أقصر النهارات فيه، بينما هم مجبرون على النوم في مساءات الصيف عندما يكون النهار طويلاً حدّ الملل والضوء ما زال يعم الفضاء، وهم مجبرون على البقاء خارج البيت وبعيدًا عن جو الأسرة بعدد ساعات عمل آبائهم وأمهاتهم، الطفل في هذه الدول يمضي بين الثماني والتسع ساعات خارج البيت بعيدًا عن أسرته، حتى لو كانت هذه الأماكن أو المؤسسات تؤمن للطفل كل أدوات التعليم والإثراء المعرفي والترفيهي فإن الوضع في النهاية يكون على حساب الناحية الروحية والنفسية للطفل وللأهل أيضًا، فالأسرة عندما تجتمع في البيت في نهاية اليوم تكون طاقاتها الجسدية والمزاجية قد استنفدت وأكثر ما تحتاج إليه هي الراحة والاسترخاء والابتعاد عن التفكير بالالتزامات والواجبات، لكن الواجبات لا تنتهي، فهناك تفاصيل لا تستقيم بدونها الحياة. لذلك فإن إيقاع الحياة سريع إلى درجة لا ينعم الإنسان بلحظة تأمل أو استرخاء.

أطفالنا، نحن الشعوب المفجوعة بماضيها وحاضرها وأنظمتها السياسية والاجتماعية والدينية والاقتصادية وثقافتها وأعرافها وتقاليدها، ليسوا مظلومين فقط، بل منتهكين في حياتهم

هذا النمط من الحياة الذي يزداد جبروتًا من الممكن أن يكون أكثر رحمة للإنسان والبشرية جمعاء لو أن القوانين التنظيمية التي يفرضها نمط الإنتاج والاقتصاد تتنازل قليلاً عن نزعة الربح بلا حدود، لو أن هناك قوانين تقيد الاحتكارات قليلاً، لو أن حيتان المال والاقتصاد الذين كلما ارتفعوا في هرم السلطة والنفوذ ازداد تغولهم في العالم أجمع، والبراهين أمام أعيننا مما يدور من حروب في كثير من بقاع الأرض من أجل هذه الحيتان التي تريد أن تبتلع كل شيء فتفبرك، ليس فقط أنظمتها الخاصة، بل أنظمة الشعوب الأخرى بما يخدم طموحاتها وشجعها الذي لا يحد، لو أنها توزع ساعات العمل على عدد أكبر من العاملين لقلّ عدد ساعات العمل للفرد، فالواقع يشير إلى أن القدرة الإنتاجية دائمًا هي أقل من الحاجة بنسب متفاوتة، لذلك فإن الانتظار صار أمرًا واقعًا أو ملمحًا من ملامح انتظام الحياة في مجتمعات تلك الأنظمة، كل شيء بموعد بعيد الأمد غالبًا، وكل شيء بطابور يستهلك وقتًا، وفي الوقت نفسه فإن العامل أو الموظف مستنفد القوى بفعل حجم العمل المطلوب منه إنجازه تحت سطوة عقود العمل التي يوقعها.

الطفولة ليست بخير في كل أنحاء العالم، وأطفالنا، نحن الشعوب المفجوعة بماضيها وحاضرها وأنظمتها السياسية والاجتماعية والدينية والاقتصادية وثقافتها وأعرافها وتقاليدها، ليسوا مظلومين فقط، بل منتهكين في حياتهم بكل مفاصلها، محرومين من حقوقهم، مهددين بأمنهم وسلامتهم وصحتهم وتعليمهم ولعبهم ولهوهم، ومهددين بحقهم بأن يعيشوا في أسر مستقرة، وأن يحلموا بمستقبل يرسمونه في أحلامهم، مهددين حتى بأحلامهم، فهل سيكون المستقبل الموعود أكثر رحمة؟ هل يفكر آباء اليوم الذين هم أبناء الأجيال التي تتحمل جزءً كبيرًا من مسؤولية المآل الذي وصلت إليه بلدانهم، بمستقبل رحيم لأطفالهم المقهورين اليوم؟ أم ستبتلع هؤلاء الأطفال مستقبلاً دوامة المنظومة العالمية وتحيلهم إلى أدوات مربوطة إلى عجلتها، تقدم لهم مقومات الحياة المادية وتنزع منهم أمانهم وصفاء أرواحهم وسكينتهم؟