طبيب عيون سوري في "أوديسا"

2022.04.14 | 06:39 دمشق

photo_2022-04-13_17-27-22.jpg
+A
حجم الخط
-A

"سوف أعيد بناء المنزل، وسوف نعيد بناء البلد. الشيء المهم اليوم، هو إنقاذ أكبر عدد ممكن من الأرواح". هكذا علَّق رجل الأعمال والمليونير الأوكراني "أندريه ستافنيتسر" بعد أن دمرت القوات الأوكرانية منزله. القوات الأوكرانية! كيف هذا؟ احتل الجيش الروسي منزل الرجل.

عن بعدٍ، عبر الإنترنت، كان أندريه من خارج أوكرانيا، يتابع ما يجري في المنزل المراقَب بالكاميرات. اكتشف أن الروس قد نصبوا في حديقة البيت الواسعة، اثنتي عشرة عربة من حاملات الصواريخ. لم يتردد كثيراً. تواصل على الفور، مع القوات الأوكرانية وأرسل لهم إحداثيات بيته، بل وأعطاهم "كود" الدخول إلى الكاميرات، طالباً منهم قصف البيت، وهذا ما حدث فعلاً، لينشر بعدها صوراً للعربات المدمَّرة في الحديقة ولمنزله المدمَّر أيضاً. نعم، ضحّى أندريه ستافنيتسر بمنزله  القريب من "إربين" شمالي كييف، ولم يقبل أن يتحول لمنصة إطلاق باتجاه العاصمة.

انتشر الخبر، وانهالت عليه الإشادات من مواطنيه. كان ردّه بسيطاً ومقنعاً "من السهل ترميم الجدران، لكن الصعوبة الحقيقية هي باستعادة العدالة. من فضلكم، لست بطلاً، ولم أشارك في المعركة. أولئك الذين يحاربون الروس بأيديهم العارية هم الأبطال الحقيقيون، ولست أنا".

منذ 24 شباط/فبراير، عندما بدأ الجيش الروسي اعتداءه على أوكرانيا، تتردد العديد من القصص عن بطولات المواطنين الأوكران، وأسمع عنها رغم عدم انتشارها على وسائل الإعلام العربية. ولكن من أين أعرف أنا عن تلك القصص؟ المصدر الأساسي الذي أثق به في كل ما يقول هو السوري محمد الإمام، رغم أني لا أعرف الرجل سوى من وسائل التواصل الاجتماعي. الدكتور الإمام طبيب عيون سوري من مدينة بانياس ويقيم منذ 36 سنة في مدينة "أوديسا". "طبيب عيون سوري"؟! أجل. عدا الاستثناء الوحيد المتوحش الذي تعرفونه، والذي لم ينهِ اختصاصه على أية حال، فإن أطباء العيون السوريين هم أناس طبيعيون. منذ بداية الغزو الروسي، يقوم الدكتور الإمام، يومياً غالباً، بتصوير مقطع فيديو قصير، يتحدث خلاله عن آخر المستجدات في الحدث الأوكراني.

لفتتني طريقته، فالرجل اعتاد أن يسير عدة كيلومترات في حديقة "مكسيم غوركي" كل صباح. مع بدء الحرب، بدأ خلال مسيره، يصور الحديقة ويتحدث دون أن نرى وجهه. يتحدث بصوته الهادئ عن أوكرانيا تاريخياً، وبشكل خاص عن تاريخ العلاقات الأوكرانية الروسية. يسرد بعضاً من أخبار المعارك خلال الأربع والعشرين ساعة الماضية، ويخبرُ عن الدمار الذي تتعرض له المدن، ويشير إلى الخسائر الهائلة في صفوف الجيش الروسي، والأهم أنه يتحدث عن الروح االوطنية للشارع الأوكراني، والتضحيات التي يقدمها المواطنون. تلك التضحيات كانت تعيدني يومياً إلى حالتنا في العامين الأولين للثورة السورية. أعوام الأمل تلك، حين كان السوريون يستخفون بخسائرهم، ويُبدون روحاً من الإيثار المدهش. حينها، كان من يومياتنا المألوفة، أن نرى رجلاً سورياً يقف على أطلال بيته المهدّم قائلاً: ليس مهماً، سوف أعيد بناءه بعد النصر.

يتحدث الإمام عن بلده الجديد كأي مواطن عاش أجداده في تلك البلاد. لمَ لا؟! وهو متزوج من أوكرانية وله ابنتان إحداهما طبيبة، هي على رأس عملها الآن، والصغرى طالبة تدرس طب الأسنان. من خلال سماعي لكل ما تحدث به، استطعت تلمس أنه شخص مرموق، ويحظى بعلاقات طيبة في مدينته. حاول التطوع خلال الحرب، لكنه لم يُقبل بسبب دخوله سن التقاعد قبل عام. رغم الحدث الأوكراني الساخن، إلا أن سوريا لم تغب عن أي من أحاديثه. هو من بانياس، وكلنا يعلم المجازر المروعة التي تعرضت لها المدينة، في قرية البيضا وحي رأس النبع عام 2013. يومها، كان الرجل مقيماً في "أوديسا"، إلا أن الضحايا كانوا من أهل مدينته ومعارفه، ومن بلده سوريا عموماً. هو مثلنا جميعاً، نحن الذين نعيش خارج سوريا، يكتب دوماً عن مدينته وحنينه لها.

لا تغيب عن كلماته نبرة الأمل الأكيد بانتصار أوكرانيا، وهو يخاطب مستمعيه. في واحد من أحاديثه، كان يصف كيف أن المطاعم والمقاهي في الحديقة، تتحضر لافتتاح أعمالها مع بدء موسم الربيع والصيف في مدينة أوديسا

لا تغيب عن كلماته نبرة الأمل الأكيد بانتصار أوكرانيا، وهو يخاطب مستمعيه. في واحد من أحاديثه، كان يصف كيف أن المطاعم والمقاهي في الحديقة، تتحضر لافتتاح أعمالها مع بدء موسم الربيع والصيف في مدينة أوديسا، وكيف أن عمال الحديقة بدؤوا زراعة الأزهار هناك كعادتهم السنوية، وكأن لا حرب في بلدهم. يحرص على تفنيد كذب الإعلام الروسي. يعقد المقارنات بين أوكرانيا اليوم، وسوريا الأمس، حين كان الروس يدّعون بأنهم يحاربون الإرهاب، بينما كنا جميعاً نعرف أنهم يقصفون القرى وبيوت المدنيين والأفران والمشافي، ويقتلون الرجال والنساء والأطفال. يبدو الإعلام الروسي ومثله السوري، كأنه مدرسة خاصة ونموذج فريد، في الكذب الوقح، وتزييف الحقائق من دون حياء.

قبل أيام تحدّث عن عائلة أرمنية أوكرانية يعرفها منذ سنوات طويلة. قبل بدء الغزو الروسي بأسبوع، سارع الأب وولداه الشابان للالتحاق بوحدات المتطوعين للدفاع عن بلدهم، ولولا إصرار الشابين على منعه، لكان الأب محاصراً الآن في مدينة "ماريوبل" التي تتعرض للتدمير والإبادة. الشابان ثنيا عزم أبيهما عن الالتحاق بوحدة "آزوف" العسكرية الشهيرة. الضابط المتقاعد "مكاريكيان" الذي خدم سابقاً في القوات الخاصة، يقاتل اليوم مع ولديه في كييف. اللافت كان، حين تحدث عن أحد الشابين، واختصاصه في الخدمة العسكرية "قنّاص". قضى الشاب عشرة أيام وهو مختبئ يمارس مهمته، تقريباً بين القوات الروسية، قريباً من "بوتشا" التي اشتهرت عالمياً بعد مجازر الروس، حيث منازل العائلة. عشرة أيام لم يغادر فيها مكمنه سوى مرة واحدة. الطريف أن من بين العتاد الذي مع "مكاريكيان" الابن، كان "البامبرز" الخاص بالكبار. نعم، يستخدم القناصون الأوكران "البامبرز" كي لا يضطروا للحركة، فيكتشف الأعداء وجودهم.

العائلة، كمعظم العائلات الأرمنية، مشتتون في العديد من البلدان، وللمصادفة فإن شقيق رب العائلة روسي. تحدث الأخ من روسيا، راجياً أخاه مغادرة أوكرانيا تفادياً للخطر، فأجاب الرجل أنه مع ولديه يحاربون الجيش الروسي دفاعاً عن وطنهم. انقطعت المكالمة، ومعها انقطعت العلاقة بين الشقيقين. هذا التفصيل في القصة أعاد لي آلاف القصص السورية. نحن أيضاً خسرنا معارف وأصدقاء بسبب الخيارات والمواقف من الثورة السورية. في القصة أمر آخر يلفت النظر سورياً. للعائلة ثلاثة بيوت متلاصقة، احتلها الروس وقاموا، قبل انسحابهم، "بتعفيشها" حسب المصطلح السوري. سرقوا من بيت الابن الأكبر الخزنة وثياب زوجته. فككوا تجهيزات الحمامات والأبواب والسيراميك وسرقوها. يبدو أنها الثقافة الهمجية ذاتها لدى جيش أي ديكتاتور. جيش الأسد الأب كان مارسها في لبنان سابقاً. فيما بعد، تابعها الابن في كامل المدن السورية.

الطبيب السوري الذي تخرَّج من جامعة دمشق، وتابع اختصاصه، موفداً جامعياً، في معهد "فيلاتوف" لطب العيون في أوديسا. عاد إلى سوريا، ودرّس في كلية الطب بجامعة تشرين لعامين، في منتصف تسعينيات القرن الماضي. اكتشف الكارثة السورية مبكّراً، بعد معاينته حال الجامعة. استقال وقرر الهجرة نهائياً، ليستقر هناك حتى اليوم. بعد بداية الحرب غادر أوديسا مع عائلته، وقدم إلى تركيا (لسوء حظي لم أقابله)، متابعاً رسائله اليومية من إحدى حدائق إسطنبول. بعد نحو ثلاثة أسابيع، وجدته يعود للتصوير من حديقة مكسيم غوركي. تحدّث عن أسباب مغادرته أوديسا، فقد كان خيار العائلة، وعلى نحو خاص حسمت القرار الابنة الصغرى كاميليا، وهي من بطلات الجمباز الفني في أوكرانيا. توجهت  لأبيها: "عمري 17 سنة. ألا تحب أن تراني وأنا أكبر؟ أنا ما زلت بحاجة إليك". أيضاً، تحدّث بعدها عن أسباب عودته إلى بيته في أوديسا التي لم تزل الأخطار تحاصرها، لكنه لم يشر إلى هذا الانقلاب في الخيار. من جهتي خمَّنت أنه لم يستطع التعايش مع فكرة اللجوء، وربما بعد أن فعلها، لم يستسغ فكرة مغادرة المدينة التي أحبها، وله فيها بيت وذكريات وعريشة ياسمين، أحضرها من بيت الأهل في بانياس قبل خمسة عشر عاماً.

صباح 24 شباط/فبراير كتب على صفحته بلهجة المراسل الحربي: "أوديسا الآن: الحرب بدأت. أصوات انفجارات عنيفة هذا الصباح، والمعلومات متضاربة.." في تلك اللحظة عرفت أن طبيب العيون السوري المقيم في أوديسا سيكون مصدري الخاص الموثوق لما يحدث، ومع مرور الأيام تأكّد حدسي، فأنا أثق بما يقول أكثر من ثقتي بكل ما تنشره وكالات الأخبار ووسائل الإعلام. هل بدا واضحاً لكم أني كنت متطفلاً، واتكأت في معظم مادتي هذه على الدكتور الإمام. حسناً إذاً، لا ضير والحال كذلك، أن أسترسل فأستعير منه الخاتمة أيضاً. عبارته التي يكررها غالباً في كل ختام: "أتمنى النصر والسلام لسوريا وأوكرانيا. شكراً" انتهى التصوير.