طبقة "الكريما السورية"

2021.12.08 | 05:28 دمشق

yblayblaqgh.jpg
+A
حجم الخط
-A

دعونا نبسط المأساة السورية في مقارنة بسيطة، من شأنها أن تفضح التكسرات المجتمعية التي غالباً ما تطفو على السطح في أوقات الأزمات الكبرى: "شاب يدعى "عمر الشغري" أحد الثوار السوريين الذين نجوا بمعجزة إلهية من سجون الأسد، يطالب العالم بفضح جرائم النظام السوري لمنع حصول تجاوزات مماثلة، وذلك في جلسة لمجلس الأمن عُقدت لأول مرة بعد سنوات حول المحاسبة على جرائم الحرب، شاب آخر يُدعى "علي مخلوف" وهو أحد أبرز مفرزات منظومة الفساد السورية، والتي سأسميها تجاوزاً بطبقة "الكريما السورية"، يتجول بسيارة فارهة في مدينة لوس أنجلوس الأميركية برفقة عارضة أزياء إسرائيلية". وعليه فإن المتابع لتفاصيل الأزمة السورية سيتضح له انقسام المجتمع السوري لفئتين رئيستين، لا ثالث لهما في الحقيقة، فئة تقوم على أساليب ترقيعية للمأساة التي تطيح بالبلاد، تجمع شذرة من هنا وأخرى من هناك، ووفق منهجية يعوزها تشريح الألم بواقعية تطالعنا بمقدمات عجائبية، تحيل لنتائج عرجاء في أحسن الظروف، إن لم نقل حمقاء تثير الضحك حدّ الغثيان، على المقلب الآخر تظهر الفئة الأخرى الأكثر شيوعاً ولسان حالها يتساءل بتوجّس: "كيف تتوفر المواد الأساسية بوفرة في الأسواق السوداء في حين تجد الحكومة صعوبة في تقديمها بالسعر المدعوم لمستحقيه؟".

بهذا الأسلوب التلقيني المستفزّ تتعاطى المنظومة الإعلامية الرسمية مع المواطن السوري وكأنه طفل يعاني إعاقة عقلية

هذا الانقسام الطبقي الحادّ قاد البلاد إلى حالة كارثية من التشرذم والانهيار، وزاد الطين بلّة منظومة حاكمة واعية لكل ما يحصل في الداخل السوري، إلا أنها تتبع سياسة الانفصام متى رأت أنّ ذلك يخدم أغراضها النفسية ويحقق أهدافها في السيطرة والاستحواذ، سياسة ليست إلا ستاراً تُظهر من خلاله مايراد له أن يُرى، وتُخفي وراءه ما لا يراد له أن يظهر. وأدلّ مثال الخبر الذي خرجت به منذ أيام وكالة الأخبار التابعة للنظام السوري "سانا"، ومفاده أنّ لجنة الصداقة السورية البيلاروسية في مجلس الشعب بحثت مع سفير جمهورية بيلاروسيا بدمشق "يوري سلوكا" سبل تعزيز وتطوير العلاقات البرلمانية بين البلدين الصديقين وبما يخدم مصالح الشعبين، وأكدت أهمية مواصلة العمل على تمتين العلاقات في المجالات كلها، مشيدة بمواقف جمهورية بيلاروسيا الداعمة لصمود سوريا في حربها على الإرهاب. وبهذا الأسلوب التلقيني المستفزّ تتعاطى المنظومة الإعلامية الرسمية مع المواطن السوري وكأنه طفل يعاني إعاقة عقلية، بينما تتناسى معاناة عشرات اللاجئين السوريين الموجودين على الحدود بين بيلاروسيا وبولندا، والذين يناشدون الدول الأوروبية والمنظمات الإنسانية لإنقاذهم، حيث يعيشون في غابة مثلجة بلا أساسيات الحياة، وبلغ الأمر سوءاً أنْ لقي رضيع سوري مصرعه إثر بقائه في الغابة لمدة شهر ونصف مع أهله، ليصبح أصغر ضحية وثقت وفاتها خلال أزمة المهاجرين الحالية على حدود الاتحاد الأوروبي.

وبدلاً من قيام علاقة تفاعلية مع الشارع السوري تتطور به وفيه، تشكلت سلطة منتفخة لا تثق إلا بنفسها تعاني من أزمة شيزوفرينيا فاقعة، ما هي في الحقيقة سوى إفلاس سياسي صريح، حيث لا فكر ثابت، ولا قناعات راسخة، ولا مبادىء يتمّ الزود عنها، وبالتالي يصبح من السهل جداً سقوط أبناء الوطن فريسة سهلة لمن يريد استقطابهم يميناً أو يساراً. شيزوفرينيا تضخمت في السنوات التي أعقبت الثورة السورية، والتي مهد سقوطها المدوي للانتقال من نظام منفصم مستبدّ إلى نظام أكثر شراسة وأكثر براغماتية، نظام يغير جلده سريعاً وفق مقتضيات المرحلة، من دون أن ينتج شكلاً ثابتاً للحياة السورية، ما ينذر بفراغ هائل يضرب البلاد بإعصار من اليأس والاستسلام، ولعلّ كلام شاب سوري عالق في بيلاروسيا أدلّ مثال على ذلك: "أفضّل الموت هنا على العودة إلى الجحيم، حتّى إنّ عنصر الشرطة في مطار دمشق سألني عن وجهتي، وما إذا كانت ألمانيا أم هولندا، ثم قال لي: نيّالك. يا ليتني كنت معك".

إنها لا شك حالة الخواء التام الموازي للثبات والعدم، آخر مراحل السقوط والتلاشي السوري، وما مهد لهذا الجحيم أنه ومنذ البداية لعبت طبقة "الكريما السورية"، بكل أذرعها السياسية والاقتصادية والثقافية والإعلامية، دوراً مباشراً في تدمير حركات مدنية ومجتمعية ضد نظام بوليسي يحرّك شعباً بأكمله من خلف الكواليس، معتمدة تقنيات الضخ المتواصل لأخبار غير مهمة، هدفها تشتيت التركيز على قضايا مصيرية محدّدة، تماماً كما في خبر وكالة "سانا" آنف الذكر.

بطبيعة الحال هذه المنظومة لا تنتج إلا الفاسدين ولا تأتي إلى سدّة الحكم إلا بالفاشلين، وحتّى لو حملناها على حسن الظن، فإن هذه الظاهرة لا يزيد دسمها إلا عبر ابتزاز شعب مقموع ومحشور في مشروع القطيع المفروض عليه تحت وطأة حاجاته الإنسانية للبقاء. ولاشك هذا الرأي له وجاهته إذا ما تمّ فحصه في ضوء المعطيات السورية الراهنة التي تؤكد أنّ تغوّل هذه الطبقة بدأ عندما أخذ الاستبداد شكله المؤسسي، وأصبح مدعوماً من شركاء المنفعة، ضمن بيئة يتماهى فيها المجتمع بشخص الحاكم، وتستحكم فيها التقاليد السلطوية المتوارثة عقوداً من الزمن، لذا تبدو عمليات التغيير أشبه باصطياد السراب. ما يثبت هذه الرؤية التقرير الذي نشرته صحيفة الغارديان البريطانية بعنوان "نظام الأسد يستنزف ملايين المساعدات من خلال التلاعب بقيمة العملة السورية"، والذي استشهد بدراسة كشفت استغلال النظام السوري لمعاناة شعبه، واستحواذه على نصف المساعدات عام 2020، والتي بلغت ستين مليون دولار، عن طريق إجبار منظمات الأمم المتحدة على التعامل بسعر صرف منخفض، ما جعل عقودها أحد أكبر الموارد بالنسبة للنظام السوري في المناطق التي يسيطر عليها، وفيها يعيش أكثر من 90% من سكانها في فقر مدقع، ويعاني 60% منهم من انعدام الأمن الغذائي.

جميع هذه المعطيات ومن حيث الآلية المرسومة لها تزيد من كثافة طبقة "الكريما السورية"، المتكدسة كشحومٍ ضارة داخل جسدٍ مريض ومنهك، بغية خلط الأوراق وتزييف الحقائق، لتغدو المرجعية الأساسية في الفهم لكل حالة أصيلة أو طارئة، وكلّ تفسير أو تقويم أو تصويب في ضوئها نوع من البدع الفكرية والمفاهيمية، ويصنف تحت بند التمرد والإرهاب والغوغاء. هذه الطبقة ورغم كونها فضفاضة بالحدّ الكافي لكي تتصف باللامنطقية، إلا أنها تجسد حقيقة حكم تمارس فيه الطبقات المسيطرة حالة من الإطباق الكامل للإمساك بخيوط التراجيديا السورية، وفي الوقت الذي تستمتع فيه بمسلسل النزاعات والأزمات يكون الحصاد النهائي لصالحها تماماً.

لا تقوم قائمة لهذه الطبقة إلا على اندماج عضوي بين السلطة السياسية وبين مافيات تسطو على مفاتيح البلاد بآليات عمل حكوميّة رسميّة

ثمّة عوامل متداخلة ساهمت بمجموعها في إنتاج هذه الطبقة، أهمها ما يعود إلى تراكمات تاريخية تخصّ الداخل السوري وتجربته في ظلّ حكم فاشي مستبدّ، وما رسخه من تقاليد سياسية وإعلامية وثقافية اكتسبت شرعيتها العرفية بحكم الأمر الواقع، وبالتساوق مع هذا الطرح فإنه لا تقوم قائمة لهذه الطبقة إلا على اندماج عضوي بين السلطة السياسية وبين مافيات تسطو على مفاتيح البلاد بآليات عمل حكوميّة رسميّة، عبر برامج ومشاريع وهمية، وأشكال من التستّر على سرقات المال العام. في ذات الوقت تفرض على طبقة "المتضورين جوعاً" دفع الفاتورة كاملة، فاتورة الخطل السياسي الذي دمر مجتمعاً بأكمله وترك الثقل كله فوق أكتاف شعب يحمل أوزاراً لم يرتكبها.