طبقات المخبرين السوريين

2020.01.13 | 16:51 دمشق

57cd8d57b899a-1.jpg
+A
حجم الخط
-A

تختلف النظرةُ إلى المُخْبر من شخص إلى آخر، ومن طرف إلى آخر. فمعارضو الأنظمة الديكتاتورية يكرهون المخبر، ويحتقرونه، ويتحاشون مجالستَه، وإذا جالسوه -اضطراراً- سرعان ما يتسلحون بالتقية، ويصبح واحدُهم مثالاً يحتذى في المقدرة على التهرب، والتمويه، وتصدير الأفكار المغلوطة، وإخفاء القناعات الحقيقية.

الشاعر بدر شاكر السياب كتب قصيدة في هجاء المخبر لا نظير لها في الروعة، قال فيها:

أنا ما تشاءُ، أنا الحقير

صَبَّاغُ أحذية الطغاة وبائعُ الدمِ والضمير

للظالمينَ أنا الغراب

يقتات من جثث الفراخ

أنا الدمار أنا الخراب

وأما الطغاةُ الذين يمثلون النظام الديكتاتوري المخابراتي فيرون أن وجود المخبرين (في هذا البلد المعطاء) نعمة يجب أن تُبَاسَ اليدُ لأجلها وتوضع على الرأس، يُحبونهم، ويُقربونهم، ويَشعرون نحوهم بالامتنان، لأنهم يزودونهم برأس الخيط الذي يساعدهم على إيذاء المواطن، ووضع حجر الأساس في إضبارته حتى (إذا صار ما صار) يكون في مقدورهم شحطه من بين أفراد أسرته مع الضرب والسباب والسؤال الاستنكاري الغريب (بدكِنْ حريييي؟).. ولو كان عند المخابرات شاعر يساوي ربع حجم بدر شاكر السياب لجعلوه يرد عليه بقصيدة مديح للمخبر مُفْلِقَة.  

يميز مديرو فروع المخابرات ورؤساء مكاتب التحقيق الفرعية بين شرائح متنوعة من المخبرين، فهناك المخبر "التشتوش" الذي يحسب ألف حساب لردود أفعال أهالي الضحية فيما لو عَرَفُوا أنه كتب تقريراً بحق ولدهم، ولذلك تأتي تقاريره حذرة، ملتبسة، تحتاج إلى مَن يفك طلاسمها، مثل كتابات الأدباء الذين يمتلكون نَفَساً معارضاً ولكنهم لا يجرؤون على إظهاره، فترى واحدَهم يلف ويدور ويَتَطَعْوَج في التعبير كما لو أنه مكلف بإخراج روح القارئ دون استخدام "البنج".

وهناك المُخبر "الهَضيلة" الذي لا يخاف من أحد، ولا يحسب حساباً لمخلوق، ولكنه جحش، حاشاكم، يكتب كل ما يخطر بباله، فيأتي تقريره -كما يقولون-  (بِعَرَبُه بِعَجَمُه)، فيضطر الضابط الذي يُقَدَّمُ إليه لقراءة الكثير من اللت والعجن واللعي، وفي النتيجة قد يَحْصَل من التقرير على تهمة يبل بها ريقه، أو يخرج من هذا المولد العامر بلا حمص.

وهناك المخبر الشايلوكي الذي لا يكتب تقريراً بحجم راحة الكف إذا لم يحصل قبل ذلك، أو أثناء ذلك، على منفعة ما مهما تكن صغيرة، حتى إنني سمعت عن طبيب (نَعَم، طبيب، والله) كان يعمل مخبراً لدى فرع أمن الدولة بإدلب، أنه كان لا يسلم التقرير لموظف الديوان قبل أن يتسلبط عليه بـ بطارية موبايل، أو شاحن نوكيا، أو حمالة مفاتيح، أو دفتر مذكرات خاص بالسنة الجارية، أو حتى قرص كومبيوتر مدمج "دي في دي" فارغ، قيمته في السوق خمس ليرات سورية فقط. 

يميز مديرو فروع المخابرات ورؤساء مكاتب التحقيق الفرعية بين شرائح متنوعة من المخبرين، فهناك المخبر "التشتوش" الذي يحسب ألف حساب لردود أفعال أهالي الضحية

وأما بطلُ سيرتنا، المخبر أبو فستوك، فقد استطاع أن يحصل، بجدارة، على تصنيف "المخبر اللورد" أو "المخبر الخَوَاجا"، ولو أن كتاب التقارير يحصلون على شهادات علمية لما رضي بأقل من مرتبة "البورد".. وهذا يعود في الواقع إلى أسبابٍ عديدةٍ، أولُها نشاطُه الاستثنائي الذي يخلق لديه مقدرة خارقة على المتابعة والحضور في الأماكن التي يُعَبّرُ فيها الناس عن مكنوناتهم فنياً أو أدبياً، كالمراكز الثقافية، ومدرجات الجامعة، وصالة الخنساء.. وثانيها أنه لا يتقن اللغة العربية، مما يضطره لأن يهرب إلى الإيجاز، فيقع، إذذاك، في أقل ما يمكن من الأخطاء.. وثالثها أن حماسَهُ المفرط لنظام الأسد، وكراهيته لخصومه المُحْتملين، يجعلانه يباشر القول دون تقديم، يكتب، على سبيل المثال:

سيدي رئيس الفرع، أحيطكم علماً أن المدعو خطيب بدلة هو ضد السيد الرئيس بشار الأسد!

وإذ يكتشف أن الجملة ليست مثيرة بما يكفي لإفراغ ما يحمله تجاهنا نحن أدباء إدلب من غل وكراهية، يعيد صياغتها لتصبح شبيهة بتراكيب الجملة غير العربية: ضد السيد الرئيس، خطيب بدلة، أحيطكم علماً، سيدي العميد، رئيس الفرع!

أنا والله لا أمزح معكم، ولا أستعرض أمامكم مقدرتي على إنشاء المبالغة التي تخدم الطبيعة التهكمية (المزعومة) لكتاباتي، ولكن ما كتبتُه أعلاه هو أقل بكثير مما حصل على أرض الواقع بيننا وبين أبي فستوك خلال الفترة الممتدة بين أواسط التسعينات، وأوائل سنة 2011، وهي أكثر فترة عانينا فيها من هذا الرجل العتليت..

أصدقائي الأدباء الذين رحلوا لا يستطيعون –الآن- التأكيد على صحة كلامي أو نفيه، وأما الأحياء منهم فيعرفون من فصول أبي فستوك الكثير، ولديهم فكرة وافية عن افتتاحياته (الإخبارية)، فقد كان يُقَسِّمُنا بين ماسوني، ورجعي، وضد السيد الرئيس، ومتعاطف مع الصهيونية، ويزور السفارات، ومن جماعة كوبنهاجن.. إلخ.

ذكرت لكم، في الحديث السابق، أن أبا فستوك قبَّ، واستنفر، و(عَنْطَزَ)، وأقام الكون ولم يقعده احتجاجاً على فكرة تسمية قاعة في المركز الثقافي باسم الأديب الكبير الراحل حسيب كيالي، ولم يكتف بأن كتب بحقه تقريراً بعد عشر سنوات من رحيله، بل كان يصرح أمام أهله وأصحابه والموظفين الذين أجبرهم قدرهم أحمقُ الخطى على التواجد معه في مكان واحد، بأن إحدى قاعات المركز الثقافي العربي بإدلب يمكن أن تسمى باسم حسيب كيالي بعد وفاته، ولكن إذا كان فيه عِرق ينبض، ونَفَسٌ يدخل ويخرج، فإن هذا لن يتم.

وتشاء مصادفةٌ (غير سارّة بالنسبة لأبي فستوك) أن يصبح الدكتور رياض نعسان آغا وزيراً للثقافة، وتأتي مصادفة أسوأ منها وهي أن يقرر رياض إقامة ندوة كبيرة عن الأديب الراحل حسيب كيالي في إدلب، شارك فيها أدباء ونقاد وباحثون من مختلف أنحاء سوريا.. هذه الندوة خرجت بتوصيات مهمة، كأن تبادر وزارة الثقافة إلى طباعة الكتب المخطوطة التي وجدت في حوزة حسيب، وإعادة طباعة أعماله السابقة، وأن تسمى القاعة الرئيسية في المركز الثقافي العربي باسمه. وقد نفذ الاقتراح فعلاً، ودخلت القضية الإخبارية الفستوكية في مسار آخر.