icon
التغطية الحية

ضابط ألماني تظاهر بأنه لاجئ سوري لتنفيذ سلسلة اغتيالات

2020.12.31 | 14:06 دمشق

merlin_174579345_8e370db7-d6b2-46c0-bfcb-608a651646d4-superjumbo.jpg
نيويورك تايمز- ترجمة: ربى خدام الجامع
+A
حجم الخط
-A

في أوج أزمة الهجرة إلى أوروبا، دخل رجل ملتح يرتدي بنطالاً رياضياً إلى مخفر شرطة. كانت جيوبه خالية إلّا من هاتف خلوي قديم وبعض العملات المعدنية الأجنبية.

وبإنكليزية مكسرة، قدم نفسه على أنه لاجئ سوري، وذكر بأنه عبر نصف القارة سيراً على الأقدام وبأنه فقد أوراقه الثبوتية وهو في طريقه إلى هنا، فما كان من الضباط إلا أن قاموا بتصويره وأخذ بصماته. وخلال السنة التي أعقبت ذلك، حصل ذلك الشاب على مأوى كما حضر جلسة استماع بشأن طلب اللجوء الذي قدمه، وبذلك أصبح مؤهلاً للحصول على معونات شهرية.

أما اسمه الذي قدم نفسه به فهو ديفيد بنيامين.

إلا أنه في الواقع كان ملازماً في الجيش الألماني، لكنه لطخ وجهه ويديه بمساحيق التجميل التي لدى أمه وسود لحيته بملمع الأحذية، وبدلاً من قطع العبور إلى أوروبا، سار لمدة عشر دقائق من البيت الذي عاش فيه طفولته في مدينة أوفينباخ الغربية إلى مخفر الشرطة.

 

لقطة ثابتة من فيديو قدمه فرانكو ويظهر فيه كيف تنكر بهيئة لاجئ

 

كانت تلك الحيلة وفقاً لما ذكرت النيابة جزءاً من خطة اليمين المتطرف لتنفيذ سلسلة من الاغتيالات التي يمكن تحميلها لشخصيته البديلة التي تمثل اللاجئ، ولنشر حالة من الاضطراب على المستوى المدني تكفي للدفع نحو إسقاط الجمهورية الفيدرالية في ألمانيا.

بيد أن الضابط الذي أطلق عليه اسم فرانكو في وثائق المحكمة تماشياً من قوانين السرية والخصوصية في ألمانيا، أنكر كل ذلك، وقال بإنه كان يحاول أن يفضح الثغرات الموجودة في نظام اللجوء. إلا أن الازدواجية الكبيرة في حياته بتلك الطريقة، والتي استمرت لمدة سنة وأربعة أشهر لم يكشفها أي أحد إلا بعدما أمسكت به الشرطة وهو يحاول أن يحضر مسدساً محشواً بالطلقات أثناء اختبائه في مرحاض المطار بفيينا.

وحول ذلك تقول النائب آيدان أوزوغوز التي عملت كمفوضة عن اللاجئين وفي لجنة الدمج في ذلك الحين: "لقد كانت لحظة صادمة حقاً، إذ يتعين على نظام طلب اللجوء أن يتعرف على هوية المدلسين، هذا أمر مفروغ منه، إلا أن القضية الأكبر هي كيف يمكن لشخص مثل هذا أن يكون جندياً في ألمانيا؟".

لقد أصاب اعتقال فرانكو في نيسان من عام 2017 ألمانيا بصدمة كبيرة، ومنذ ذلك الحين غابت قضيته عن الأضواء، إلا أن هذا سيتغير على الأرجح عندما سيخضع للمحاكمة في مطلع السنة المقبلة.

وذلك لأن خضوعه للمحاكمة يعني خضوع ألمانيا بأسرها للمحاكمة معه، ليس فقط بسبب الفشل الإداري الذي سمح لضابط ألماني لا يتكلم العربية بتقديم نفسه كلاجئ لفترة طويلة من الزمن، بل أيضاً بسبب تراخي ألمانيا لفترة طويلة وتقاعسها عن محاربة تطرف اليمين.

فلقد تمخض عن قضية فرانكو تحقيق موسع دفع بالسلطات الألمانية نحو متاهة من الشبكات المتطرفة السرية الموجودة على كل مستويات الأجهزة الأمنية في تلك الدولة، إذ تبين لهم بعد اعترافهم خلال هذه السنة فقط بأن هذا الخطر كان أوسع بكثير مما كانوا يتصورون.

فلقد قامت إحدى المجموعات التي يديرها ضابط سابق وقناص في جهاز الشرطة وتعمل في شمال ألمانيا بتخزين الأسلحة، وحفظ قوائم بأسماء الأعداء إلى جانب قيامها بطلب أكياس للجثث. فيما قامت مجموعة أخرى يديرها جندي في القوات الخاصة اسمه الحركي هانيبال بتسليط الضوء على قيادة القوات الخاصة بألمانيا (KSK) التي تعتبر قوات النخبة في البلاد. إذ خلال هذا الصيف، وبعد العثور على متفجرات وتذكارات خاصة بالقوات المسلحة الألمانية (SS) في شقة رقيب أول، تم حل كامل فرقة القوات الخاصة تلك.

كنت قد أجريت مقابلات مع عدة أعضاء ينتمون لتلك الشبكات خلال العام المنصرم، بينهم فرانكو. إلا أن قصة حياته المزدوجة وتطوره من شخص رأى فيه قادته ضابطاً سيكون أمامه مستقبل واعد، إلى رجل ترجح النيابة بأنه إرهابي، تشبه حكاية الألمانيتين اليوم من نواحي عدة.

إذ ولدت إحدى الألمانيتين من رحم هزيمتها في الحرب العالمية الثانية، وترعرعت على يد إجماع ليبرالي رفض التعصب للقومية على مدار عقود، وربى مواطنيه على عقدة الذنب. وهذه الألمانيا فسحت المجال لظهور أمة غير مستقرة مع انحسار تاريخ الحروب فيها، ليخترق اليمين المتطرف الذي ظل هاجعاً لفترة طويلة صفوف المعارضة ويقف في وجه فكرة تنوع المجتمع. ما يعني بأن حالة الإجماع في ألمانيا بعد الحرب بقيت تتأرجح.

عندما التقيت بفرانكو قبل أكثر من سنة في أحد مطاعم برلين، أتى حاملاً معه وثائقه التي يضم بعضها رسائل، وبعضها الآخر مقاطع من ملفات شرطة كتبت ضده. بدا واثقاً من نفسه حينها، بعدما رفضت محكمة بفرانكفورت تهمة الإرهاب التي ألصقت به في تلك القضية لعدم وجود أدلة تثبت ذلك.

ولكن بعد مرور بضعة أشهر، عادت المحكمة العليا للنظر في القضية بعدما قدمت النيابة طلباً بذلك، وعندها اتصل فرانكو بي على هاتفي الخلوي. كان يرتجف، لأنه في حال صدر حكم بحقه فلابد وأن يسجن لفترة تصل إلى عشر سنوات.

البزات العسكرية في قبو ببيت فرانكو

وحتى خلال الفترة التي بقيت فيها محاكمته معلقة، وافق فرانكو على إجراء سلسلة من المقابلات الحصرية المسجلة، بل ودعاني مع منتجين من نيويورك تايمز إلى البيت الذي أمضى فيه طفولته ومايزال يعيش فيه ليحدثنا عن حياته وآرائه وجوانب قضيته. فذهبت إلى هناك عدة مرات خلال السنة الماضية، كان آخرها خلال الأسبوع الذي سبق عيد الميلاد.

في بعض الأحيان كان فرانكو يعرض علينا مقاطع فيديو يظهر فيها وهو يتنكر بهيئة لاجئ، وفي إحدى المرات قادنا إلى الطابق السفلي عبر درج متداع، ثم عبرنا باباً معدنياً يشبه باب خزنة، لنصل إلى القبو الذي يجهز فيه كل شيء، إذ هناك خبأ الذخيرة ونسخة من كتاب هتلر: (كفاحي) قبل أن يقوم رجال الشرطة بمصادرة كل شيء.

بيد أن فرانكو أنكر ضلوعه بأي مؤامرة إرهابية، وقال بإنه تنكر بهيئة لاجئ ليفضح فشل قرار المستشارة أنجيلا ميركل الذي سمح لأكثر من مليون لاجئ بدخول ألمانيا، لأنه يعتبر كل ذلك خطراً يهدد الأمن القومي والهوية الوطنية للبلاد. وعلق على ذلك بالقول: "لقد كان النظام غارقاً بحل تلك المشكلة لأبعد الحدود لدرجة أنه يمكن لأي شخص حينها أن يدخل البلاد".

والأفظع من ذلك أنه أصر على تمسكه بالدستور في ذلك الحين، لا العمل على تقويضه، إذ ذكر أنه لم يخطط البتة للقيام بأي شيء ينطوي على عنف، وهو أصلاً لم يفعل ذلك، إذ قال لي بعد ذلك: "لو أردت فعل ذلك، فلماذا أقوم بكل هذا؟"

بيد أن النيابة لم تدلي بتصريحاتها حتى يتم تسجيلها، إلا أن اتهاماتها وردت في قرار المحكمة العليا، كونها أشارت إلى المسدس المحشو بالرصاص الذي أخفاه فرانكو في مطار فيينا، ولبندقية حربية احتفظ بها بشكل غير قانوني، وبتوجهه نحو مرآب السيارات الخاص بهدف محتمل.

ثم هنالك الكثير من المذكرات الصوتية والمذكرات التي احتفظ بها فرانكو طيلة سنوات عديدة والتي استخدمتها النيابة كخارطة طريق لملاحقته. وقد قرأت تلك النصوص في محاضر الشرطة وفي ملفات الأدلة، فوجدت أنه كان يثني على هتلر في تلك المذكرات، ويشكك في توبة ألمانيا وذنبها بالنسبة للمحرقة، وانخراطها في المؤامرات العالمية ضد اليهود، وأعرب من خلالها بأن الهجرة قد دمرت صفاء الهوية العرقية لألمانيا، وامتدح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لكونه نموذجاً يحتذى، كما دافع عن أفكاره الساعية لتدمير الدولة.

فيما يرى فرانكو الذي أصبح عمره اليوم 31 عاماً بأن كل ذلك مجرد أفكار خاصة لا يمكن محاكمته عليها. بيد أن الأفكار المتطرفة التي تعرضها تسجيلاته تعبر بلاريب عن فكر النازيين الجدد وهي رائجة بين أوساط اليمين المتطرف. إلا أن شكواه الأساسية من الهجرة والهوية الوطنية قد انتشرت بشكل متزايد في ألمانيا اليوم، بالإضافة إلى انتشارها في كامل أوروبا وفي الولايات المتحدة أيضاً.

وبالنسبة لجيل فرانكو الذي أتى بعد أحداث 11/9 وفي ظل الحروب التي نشأت بسبب تلك الأحداث، وفي حقبة الأزمة الاقتصادية العالمية، والتشكيك بالحكومات وفقدان الثقة فيها، لم تصل الرسائل التي يرسلها اليمين المتطرف، واعتناق نظريات المؤامرة إلى زوايا الأجهزة الأمنية، بل وصلت إلى توجهات عامة الناس كذلك.

وفي مقابلة أجريتها مع توماس هولدينوانغ رئيس وكالة الاستخبارات المحلية ومكتب حماية الدستور قال لي: "لقد وصلت الرسائل المتطرفة التي ينشرها اليمين المتطرف وانتشرت بين أوساط الطبقة الوسطى في المجتمع"

كما أصبحت تلك الرسائل تسمع في قاعات البرلمان، حيث يترأس حزب البديل لألمانيا اليميني المتطرف المعارضة ويقودها.

ولهذا تعتبر وكالة السيد هولدينوانغ ذلك الحزب حزباً غاية في الخطورة بشكل قد يعرض سائر الأعضاء في ذلك الحزب للمراقبة مع بداية شهر كانون الثاني، حتى ولو كان هذا الحزب كما يدعي فرانكو يدافع بحق عن الدستور. وتلك هي لعبة شد حبل الحرب التي تتعرض لها الديمقراطية في ألمانيا.

وخلال الفترة التي أجريت فيها مقابلات مع فرانكو، تحول مسؤولون كبار في مجال الدفاع من موقف مسايرة استفساراتي حول الشبكات الإرهابية إلى موقف إطلاق صفارة الإنذار. ففي شهر آذار من العام 2019، سألت أحد المسؤولين في وزارة الدفاع وللمرة الأولى عن عدد المتطرفين من اليمين المتطرف الذين تم تحديدهم في الجيش، فأجابني: "أربعة"... أربعة!! أجل، أربعة"، إذ قال: "لم نلحظ وجود أي شبكات". إذ حتى هذه السنة، بقيت السلطات الألمانية تغض الطرف عن تلك المشكلة، بل إن رؤساء فرانكو شجعوه حتى بعدما طرح أفكاره المتطرفة في أطروحة لنيل شهادة الماجستير، ثم أصبح عضواً في شبكة متطرفة تضم العشرات من الجنود وضباط الشرطة. وقد خطب علناً في مناسبة واحدة على الأقل أقامها اليمين المتطرف تحت سمع ونظر الأجهزة الأمنية، بل إن كل ذلك لم يقف في طريقه كما فعل أحد المستخدمين الذين يعملون في مطار فيينا.

مؤامرة غامضة

كان ذلك المستخدم هو من اكتشف المسدس الأسود المحشو بست طلقات والذي تم إخفاؤه داخل جدار استنادي مخصص للصيانة في مرحاض للعجزة بمطار فيينا.

لم يكن الضباط النمساويون قد رأوا مسدساً بهذا الشكل، من عيار 7.65 ماركة يونيك نموذج 17 صنع في معمل فرنسي لصناعة الأسلحة لم يعد موجوداً اليوم، وذلك خلال الفترة الواقعة ما بين 1928-1944. وتبين بأنه المسدس الذي اختاره الضباط الألمان خلال الاحتلال النازي لفرنسا.

وللتعرف على هوية الشخص الذي أخفاه، نصبت الشرطة فخاً إلكترونياً، وهكذا وبعد مرور أسبوعين، وتحديداً في الثالث من شباط عام 2017، وقع الشخص الذي وضعه هناك بين أيديهم.

إذ خلال الدقائق العشر التي أمضاها فرانكو وهو يحاول فتح الباب على محور الجدار عبر استخدام النهاية المسطحة لعبوة مثبت الشعر، احتشد أكثر من عشرة ضباط شرطة خارج باب المرحاض، وقد اتخذت بنادقهم وضعية الجاهزية.

كما دخل ضابطان بملابس مدنية إلى المكان وسألاه عما كان يفعله.

وهنا يتذكر فرانكو تلك اللحظات فيقول: "قلت: أجل، أخفيت سلاحاً هنا"، ثم أخبرهم أنه أتى ليستعيده وليقدمه للشرطة، ويعلق على ذلك بالقول: "أخال أن أحدهم بدأ بالضحك".

فالقصة التي رواها للشرطة النمساوية في تلك الليلة أثناء التحقيق معه لم تكن منطقية نهائياً، ولهذا تردد في سردها عندما التقينا، لكنه سردها في نهاية الأمر.

كان موسم الحفلات الموسيقية قد بدأ وقتها في فيينا، فأخبرهم فرانكو أنه وصل إلى هناك قبل أسبوعين ليحضر حفلة الضابط السنوية، وبينما كان ينتقل من حانة إلى حانة برفقه حبيبته وزملائه من الجنود، وجد المسدس عندما توجه لقضاء الحاجة في الغابة، فوضعه في جيب معطفه، ولم يتذكر ذلك إلا على الشريط الأمني في المطار، ولهذا أخفاه حتى لا تفوته الطائرة، ثم قرر العودة ليسلمه للشرطة، وقد علق على ذلك بالقول: "أحسست بأني سخيف وأنا أتفوه بذلك، وأدركت أن أحداً منهم لم يصدقني فيما قلت".

إلا أنه تم إطلاق سراح فرانكو في تلك الليلة، بعدما احتجز رجال الشرطة هاتفه والفلاشة التي وجدوها في حقيبة ظهره، ثم أخذوا بصماته وأرسلوه إلى الشرطة الألمانية لتحقق بأمره.

بيد أن التطابق الذي وصل بعد أسابيع من تلك الحادثة أذهل الضباط الذين ظنوا أنهم يقومون بعملية تحقق عادية من هوية فرانكو، لكنهم اكتشفوا بأن لديه هويتين!

فبطاقته الشخصية تذكر أنه ضابط ألماني من اللواء الفرنسي-الألماني في إيلكيرخ، بالقرب من ستراتسبورغ، إلا أن بصماته تعود لمهاجر مسجل بالقرب من ميونخ.

وهذا ما أثار رعب المحققين الذين تساءلوا: هل قام فرانكو بإخفاء المسدس ليقوم بهجوم فيما بعد؟

وهكذا ألقي القبض عليه في ليلة حفلة الأخوة السنوية التي يقيمها حزب الحرية اليميني المتطرف في النمسا، والتي كان الهدف منها استقطاب مناضلين للخروج في مظاهرات مضادة. وترى إحدى النظريات بأن فرانكو خطط لإطلاق النار على أحدهم في تلك الليلة عندما تظاهر بأنه يساري.

احتجاج خرج في عام 2018 ضد حضور حزب الحرية اليميني المتطرف في الحفلة الموسيقية للأكاديمية في فيينا

 

وبمجرد أن تولت السلطات الألمانية التحقيق في الأمر، عثرت على ملفين في الفلاشة التي كانت مع فرانكو وهما: "كتيب متفجرات المجاهدين" و"المقاومة الشاملة" وهو دليل يعود لحقبة الحرب الباردة ويدور حول حرب العصابات في المدن.

كما أرشدهم هاتفه النقال لشبكة أوسع من مجموعات اليمين المتطرف وذلك عبر محادثات أجريت عبر تطبيق تيليغرام، وتضم تلك المجموعات عشرات الجنود ورجال الشرطة وغيرهم ممن يعدون العدة لانهيار النظام الاجتماعي فيما أطلقوا عليه اسم: اليوم X

كما وجدوا في جواله ساعات من المذكرات الصوتية التي سجلها فرانكو حول أفكاره على مدار سنين عديدة.

وفي 26 نيسان من عام 2017، وفي خضم تدريب عسكري في غابة بافارية، تم اعتقال فرانكو من جديد، حيث رافقه عشر رجال من الشرطة الفيدرالية خارج ذلك الموقع. فيما نفذ تسعون رجل شرطة اقتحامات في الوقت ذاته في أنحاء متفرقة من ألمانيا والنمسا وفرنسا.

وقد عثر رجال الشرطة خلال تلك الاقتحامات على أكثر من 1000 طلقة ضمن الذخيرة، كما اكتشفوا عشرات الرسائل المكتوبة بخط اليد وكذلك المذكرات، وعندما شرعوا بالقراءة، اكتشفوا بأن تلك الأفكار الراديكالية بدأت تراود ذلك الرجل منذ أن كان مراهقاً.

ففي المقابلات التي أجريتها مع فرانكو، عاد بالزمن إلى الوراء أبعد من ذلك، حيث روى لي عن طفولته وتاريخ عائلته المطعم بالتاريخ الألماني بشكل كامل.

أصداء التاريخ

كان فرانكو في الثانية عشرة أو الثالثة عشرة من عمره عندما أحضر أول علم ألماني وكان عبارة عن راية صغيرة على شكل غطاء للطاولة جلبها من متجر يبيع التذكارات بينما كانت أسرته تقضي العطلة في بافاريا.

قد تبدو عملية الشراء هذه بريئة في أي دولة أخرى، ولكن في ألمانيا بعد الحرب، حيث أصبح الغرور والتباهي بالقومية الألمانية سمة اتسم بها الشعب الألماني لفترة طويلة من الزمن بسبب التاريخ النازي لهذه الدولة، يعتبر هذا الفعل الصغير عملاً ثورياً.

وحول ذلك يقول فرانكو وهو يعرض علينا صوراً تظهر غرفة نومه أيام الطفولة وتظهر فيها تلك الراية في المقدمة: "كانت ألمانيا على الدوام مهمة بالنسبة لي".

لم يكن فرانكو يشاهد أعلام ألمانيا عندما كان يترعرع في ذلك الحي الذي تسكنه الطبقة العاملة، والذي استقبل موجات متعاقبة من العاملين الوافدين من جنوبي أوروبا ومن تركيا والذين أسهموا في إعادة بناء ألمانيا بعد الحرب، وتغيير المجتمع الألماني أيضاً.

وتتذكر والدة فرانكو وهي امرأة تتحدث بلطافة وتعيش في الطابق الذي يعلو طابق ابنها كيف كان هناك عدد قليل من أبناء المهاجرين في صفها عندما كانت طالبة خلال ستينيات القرن الماضي.

وعندما أصبح فرانكو يرتاد المدرسة، تخبرنا أمه بأن الأطفال المولودين لأبوين ألمانيين صاروا أقلية.

وبالنسبة لوالد فرانكو فقد كان عاملاً إيطالياً وافداً ترك أسرته عندما كان فرانكو صغيراً، ولهذا يصفه فرانكو بكلمة: "المنتج"، ويعلق على ذلك بالقول: "لن أقول إنه أبي".

وفي إحدى مذكراته الصوتية التي تعود لكانون الثاني من عام 2016، وصف فرانكو برنامج العمال الوافدين بأنه استراتيجية متعمدة لتمييع العرق الألماني، وذكر بأنه هو نفسه "نتاج لهذه الكراهية العرقية الفاسدة".

ولقد أخبرني فرانكو بأن جده ولد في عام 1919، أي في السنة التي وقعت فيها معاهدة فيرساي التي حكمت على ألمانيا بالهزيمة في الحرب العالمية الأولى.

وقد دفعت تلك المعاهدة إلى ظهور شعار: "طعنة في الظهر"، والمقصود بذلك أن ألمانيا كسبت الحرب، لكنها تعرضت للخيانة جراء تآمر اليساريين واليهود في الطبقة الحاكمة.

مقبرة قديمة في أوفينباخ تشتمل على قبور للجنود الذين قضوا في الحرب العالمية الأولى

 

وقد أسمهت الدعاية في إذكاء مشاعر الخلايا المناهضة للديمقراطية داخل الجيش الذي أخذ يخزن الأسلحة ويخطط لانقلابات، ما أدى في نهاية الأمر لدعم ظهور النازية، ومعظم تلك الأمور تتهم النيابة بها فرانكو حالياً.

وقد أخبرني فرانكو بأن جديه كانا يعتنيان به في أغلب الأحيان، إذ كانا يقدمان له الحساء بعد عودته من المدرسة ويحكيان له قصصاً عن الحرب. إذ كان جده يسليه بسرد مغامراته ضمن صفوف شبيبة هتلر، كما أن نسخة كتاب كفاحي لهتلر التي صادرها رجال الشرطة تعود لجد فرانكو.

وأضاف فرانكو بأن جدته كانت في العشرين من عمرها عندما هربت هي وشقيقتها عند تقدم الجيش الأحمر نحو ما يعرف اليوم ببولندا. وقد حكت لفرانكو عندما كان صبياً قصة تعطل العربة الخشبية التي استقلتاها، مما أجبرهما على الاستراحة في حقل خارج دريسدن.

وفي تلك الليلة، رأت الفتاتان الشقيقتان المدينة وهي تحترق بوابل مدمر من القنابل التي قتل بسببها حوالي 25 ألف مدني، وتحولت تلك الحادثة منذ ذلك الحين إلى قصة ظلم رمزية بالنسبة لليمين المتطرف.

وبعد مرور سنوات على ذلك، سجل فرانكو لنفسه تمثيلية لمحادثة متخيلة تطرق فيها لطرح فكرة: "رعب القصف في دريسدن" وتساءل إن كان يحق لليهود أن ينتظروا الندم من الألمان والإحساس بالذنب الذي لن يفارقهم إلى الأبد.

كما شجعه أساتذته على تحدي السلطة والتفكير بطريقته، فقد بلغ هؤلاء رشدهم خلال الحركة الطلابية في عام 1968 ولهذا سعوا لنقل القيم الليبرالية التي انبثقت عن تلك الحركة، والتي تقوم على التشكيك بالقومية والتكفير عن الحرب.

إلا أن أياً من أساتذته الذين تحدث إليهم لم يعر أي انتباه إلى أية إرهاصات مبكرة للتطرف لديه، بل كل ما تذكروه عنه هو طبيعته المنضبطة والفضولية.

لكنهم لم يدركوا أنه في تلك الأثناء دخل عالماً لا يحده شيء وهو عالم نظرية المؤامرة عبر الشابكة، وهذا ما أثر على تفكيره طيلة السنوات التالية. فقد بدأت تلك الأفكار تتشكل لديه بالسر وذلك في يومياته التي كتبها أيام مراهقته.

إلا أن فرانكو وصف تلك المفردات بأنها محاولة لاختبار الأفكار وتجريبها، أي أنها ليست دليلاً على أيديولوجية متشددة أو أية نية أو مخطط يعتمد على تلك الأفكار، بيد أنها تشتمل على تأملات حول الطرق التي بوسعه أن يتخذها لتغيير مسار التاريخ الألماني.

لقد كتب فرانكو في كانون الثاني من عام 2007 ما يلي: "يتعين على المرء أن يصبح جندياً وأن يتبوأ منصباً مؤثراً في الجيش حتى يتمكن من قيادة القوات المسلحة الألمانية، يأتي بعد ذلك انقلاب عسكري".

تحذيرات لم يلتفت إليها أحد

في عام 2008، مع انهيار بنك ليمان إخوان وانزلاق العالم نحو أكبر أزمة مالية منذ فترة الكساد الكبير، انضم فرانكو إلى الجيش، وكان حينها في التاسعة عشرة من عمره.

وخلال فترة قصيرة، وقع الاختيار عليه هو وثلة صغيرة من طلاب الكلية العسكرية من الضباط الألمان ليرتادوا أكاديمية سان- سير العسكرية الراقية في فرنسا التي تأسست في عام 1802 على يد نابوليون.

وهكذا اشتملت السنوات الخمس التي أمضاها خارج البلاد على فصول دراسية في Sciences Po بباريس وكلية كينغ بلندن بالإضافة إلى دراسته في ستاندهيرست التي تعتبر من أهم كليات تدريب الضباط العسكرية في بريطانيا، فضلاً عن ارتياده لفصل صيفي في جامعة كامبردج.

وفي عام 2013، كتب فرانكو أطروحة لنيل شهادة الماجستير تحت عنوان: "التغيير السياسي واستراتيجية التخريب".

وهكذا ناقش فرانكو عبر 169 صفحة كيف سقطت الحضارات الكبرى على الدوام بسبب الهجرة وبسبب محو حالة الصفاء العرقية على يد الأقليات المخربة، وعليه فإن أوروبا والدول الغربية تنتظر دورها في السقوط في حال لم تدافع عن نفسها حسب قوله.

ولقد كتب بأن المجتمعات المتنوعة عرقياً لم تكن مستقرة، وبأن الدول التي تسمح بالهجرة ترتكب شكلاً من أشكال المجازر حسب وصفه.

وفي القسم الأخير من أطروحته يذكر بأن العهد القديم هو أساس كل أنواع التخريب، كونه يشتمل على مخطط وضع من أجل اليهود حتى يهيمنوا على العالم بأسره، وذلك بحد ذاته يمكن أن يكون: "أكبر مؤامرة في تاريخ الإنسانية" حسب تعبيره.

وهذا ما أدهش قائد الأكاديمية العسكرية الفرنسية، فقام على الفور بإبلاغ رؤساء فرانكو من الألمان عما ورد في تلك الأطروحة.

 

صورة لفرانكو في حفل لأكاديمية سان-سير العسكرية في فرنسا

 

فقد أخبرهم ذلك القائد حينها حسبما ورد في تقارير إخبارية ألمانية بأنه: "في حال كانت هذه الأطروحة مقدمة من طالب فرنسي، فإننا سنقوم بفصله"

ولهذا قام الجيش الألماني بتكليف مؤرخ وهو يورغ إيختيرنكامب ليقوم بتقييم تلك الأطروحة. وبعد ثلاثة أيام فقط، خلص ذلك المؤرخ إلى أنها تمثل: "دعوة عنصرية قومية راديكالية"، لكنها أيضاً تشتمل على: "انعدام الإحساس بالأمان بسبب العولمة"، وهذا ما يجعلها مقبولة على المستوى الاجتماعي حسب وصف المؤرخ، ولهذا تعتبر تلك الأطروحة "خطيرة".

غير أن فرانكو لم يفصل من الخدمة، كما لم يتم إبلاغ وكالة مكافحة التجسس العسكرية الألمانية بأمره، تلك الوكالة المختصة بمراقبة التطرف ضمن صفوف القوات المسلحة، بل تم استدعاؤه في 22 كانون الثاني من عام 2014 من قبل مكتب فرع الجيش الألماني في فاونتينبلو بالقرب من باريس. وهناك أخبره ضابط من وحدة الانضباط الداخلي في الجيش بأن أطروحته "لا تتوافق" مع قيم ألمانيا بحسب ما ورد في المحاضر.

فما كان من فرانكو إلا أن دافع عن نفسه بالقول بما أنه الطالب الثاني على دفعته لهذا أحس بضغط كبير ودافع شديد ليقوم بكتابة شيء "رائع" ويبدو أنه شط بأفكاره.

وحول هذه النقطة يحدثنا فرانكو فيقول في إحدى مقابلاته: "لقد عزلت نفسي تماماً في عالم الأفكار الذي خلقته مؤخراً فلم أعد أرى أي شيء خارجه".

وبعد تحقيق امتد لثلاث ساعات، خلص الضابط الأرفع رتبة إلى أن فرانكو "ضحية لإمكانياته الفكرية".

وعليه تم توبيخه وطلب منه تقديم أطروحة جديدة.

وعندما عاد فرانكو إلى ألمانيا بعد ذلك في عام 2014، بدا وكأن شيئاً لم يحدث، فقد وصفه رئيسه في دريسدن بأنه نموذج للجندي الألماني، وذلك عندما قال: "إنه مواطن يرتدي بزة عسكرية".

وفي تشرين الثاني من عام 2015، تلقى تقريراً براقاً آخر، ورد فيه كيف تمت ترقيته ليصبح مسؤولاً عن الذخيرة، تلك المسؤولية التي تحملها بمتعة وطاقة كبيرة حسب وصفه.

الاستعداد للتحرك

يظهر من بين الكتب التي رصها فرانكو على رف الكتب لديه كتاب: (العين السحرية) بكل وضوح، وهو كتاب يشتمل على صور ملونة إذا حدقت فيها لفترة طويلة فلابد وأن تتغير إلى صور مختلفة تماماً.

وشخصية فرانكو تشبه تلك الصور تماماً، إذ طيلة المقابلات التي أجريتها معه، قدم نفسه كمفكر نقدي يعشق السلام لكنه تحول إلى ضحية للمناخ السياسي الذي يعاقب أي معارض. بيد أن التسجيلات والمقابلات التي أجريت مع المحققين وغيرهم من الناس الذين اطلعوا على قضيته ترسم لنا صورة شخص مختلف تماماً عن ذلك.

إذ بعد عودته من فرنسا، تقرب فرانكو من الجنود الذين يشاركونه الآراء والأفكار ذاتها، إذ لم يكن من الصعب العثور عليهم كما تبين فيما بعد.

وهكذا قدمه ضابط زميل وصديق له إلى شبكة منتشرة في أنحاء البلاد تضم عشرات الجنود وضباط الشرطة الذين أقلقهم موضوع الهجرة فكانت تلك المجموعة تجري محادثات عبر الشابكة.

وقد خدم الضابط الذي أسس تلك الشبكة في القوات الخاصة الألمانية التي تعتبر قوات النخبة في البلاد ومقرها في كالو، ولهذا أطلق على نفسه اسم هانيبال.

كما كان هانيبال يدير منظمة أخرى تعرف باسم الموحد والتي كانت توفر تدريباً عسكرياً خارج إطار الجيش النظامي، ومنذ ذلك الحين تم وضع تلك المنظمة تحت مراقبة وكالة الاستخبارات المحلية.

وقد حضر فرانكو اجتماعين على الأقل لتلك المنظمة، كما تم العثور على شارات تلك الجماعة بين متعلقاته الشخصية، بالرغم من أنه كان يعرف باسم الذكي في قاعدة القوات الخاصة الألمانية بحسب ما ورد في محاضر الشرطة، إذ يقول أحد الجنود الذي أدلى بشهادته حول ذلك: "العديد من الجنود كانوا يعرفونه".

فرانكو وهو يحضر اجتماعات لمنظمة الموحد وهي شبكة سرية تنظم ورشات تدريب دفاعي تكتيكي

 

والكثير من الأعضاء المشاركين في تلك المحادثات كانوا مستعدين بل ويتوقعون انهيار النظام الاجتماعي في ألمانيا بحسب ما يعتقدونه.

وفرانكو نفسه بدأ بتخزين المؤن الغذائية وغيرها من اللوازم في قبو الاستعداد لديه، كما بدأ باقتناء الأسلحة والذخائر بطريقة غير قانونية حسبما أوردت النيابة.

كانت روسيا قد غزت أوكرانيا في تلك الفترة، ولهذا بدأت فترة الإرهاب الإسلاموي المحمومة في أوروبا حينها.

وفي شهر آب، استقبلت السيدة ميركل الآلاف من طالبي اللجوء، وغالبيتهم مسلمون، وذلك بسبب الحروب الدائرة في كل من سوريا والعراق وأفغانستان. وهنا يتذكر فرانكو كيف أصبح خطر الحرب أو الاضطرابات المدنية داخل ألمانيا ملموساً بشكل واقعي.

وفي تلك الفترة ذكرت النيابة بأن فرانكو بدأ بالتفكير بالعنف، إذ ذكر بأن حرب الدولة ضد الإرهاب كان "حرباً علينا" وذلك بحسب ما ورد في لائحة الاتهامات الموجهة ضده.

إلا أن "هدية الحقيقة" كان لابد من "تغليفها بشكل جيد"، وليتوجه الناس إليها لابد من قيام "حدث محرض". وقد كان ذلك عندما بدأ البحث عن عدد من المحرضين المحتملين أو الأهداف المحتملة بحسب ما ذكرته النيابة.

بيد أنه أنكر كل ذلك، إذ بنهاية عطلة عيد الميلاد في عام 2015، أي قبل عشرة أيام على توليه لمهمته الأولى ضمن اللواء الفرنسي-الألماني بالقرب من ستراسبورغ، تنكر فرانكو بهيئة لاجئ.

اللاجئ المزيف

خلال الفترة التي جلس فيها ينتظر في قسم الشرطة حتى يتم إجراء أول مقابلة معه باسم ديفيد بنيامين، ذلك الاسم الذي اتخذه لشخصية اللاجئ التي انتحلها، درس فرانكو خارطة العالم التي علقت على الجدار المقابل له. إذ كان يحاول أن يقرر أيهما أفضل دمشق أم حلب لتكون مسقط رأسه.

وبمرور الوقت اخترع فرانكو تاريخ عائلة ممتدة. وبما أنه أصبح يتكلم الفرنسية بطلاقة بعد التدريب العسكري الذي تلقاه في فرنسا، لذا فإنه أخبر من أجروا المقابلة معه بأنه مسيحي سوري من أصول فرنسية.

كما أخبرهم أنه ارتاد ثانوية فرنسية ثم عمل في زراعة الفواكه بقرية تل حاصل وهي قرية صغيرة قريبة من حلب.

ويتذكر فرانكو ما قاله يومها فيخبرنا: "حاولت أن أستعد قدر الإمكان، لكن كل ذلك لم يكن ضرورياً في نهاية الأمر".

فقد ذكر بأن قصته لم يشكك بها أحد من السلطات الألمانية التي كانت غارقة بحل المشكلات ومشغولة جداً في ذلك الحين. وبعد مرور يومين على دخوله لمخفر الشرطة، قام فرانكو بتسجيل طلب لجوء ثم تم نقله بالحافلة إلى سلسلة من البيوت الجماعية المؤقتة.

وفي النهاية حصل على بيت صغير في بوستارينغ وهي قرية بافارية تبعد 250 ميلاً غرب القاعدة العسكرية التي كان فيها.

 

قرية بوستارينغ التي أمضى فيها فرانكو وقتاً عندما تنكر بهيئة طالب لجوء

 

وهكذا قام فرانكو بتصوير عدة مقاطع فيديو من البيوت التي سكنها وذلك بواسطة هاتفه الخلوي، وبدا فيها غير مقتنع تماماً بمدى حاجة طالبي اللجوء لذلك، فالكثير من السوريين على وجه الخصوص هربوا من حياتهم ضمن الطبقة الوسطى في مدن دمرت بسبب القتال الدائر، ولهذا بدوا كسياح أكثر من كونهم لاجئين حسب وصفه.

وحول ذلك يخبرنا فيقول: "قررت أن آخذ معي هاتفاً سيئاً، لأنني لم أكن أريد أن أظهر وأنا أحمل هاتفاً جيداً، فاكتشفت في نهاية الأمر أنني أحمل أسوأ هاتف بينهم".

لقد كان النظام سخياً للغاية ومتسامحاً بشكل واضح حسب وصفه، إذ حتى بعد رفضه لعروض العمل، ظل يحصل على راتبه الشهري، كما كان يأتي إلى المأوى مرة واحدة في الشهر، ويتغيب عن موعدين متتاليين.

وبرأي فرانكو، فإن حكومة السيدة ميركل ساهمت في خلق أزمة إنسانية في ألمانيا عبر الانضمام إلى الحروب الدائرة في الشرق الأوسط. وهكذا بدا الأمر وكأنه دراسة حالة ضمن أطروحة الماجستير المخزية التي قدمها والتي تحققت على أرض الواقع أمام ناظريه.

ويعلق على ذلك بالقول: "ملايين من الناس أتوا من منطقة غير مستقرة بالرغم من أنها يمكن أن تصبح مستقرة برأيي".

ولقد شهدت المترجمة المغربية التي ترجمت له خلال جلسة الاستماع لتقديم طلب لجوء بأنها شكت بقدرته على تكلم العربية، لكنها لم تجرؤ على طرح الموضوع بسبب اسمه الذي بدا لها يهودياً، إذ خشيت أن تظهر بمظهر من يعادي السامية لكونها مسلمة.

وفي نهاية المطاف منح فرانكو وضع الحماية الثانوية الذي يتيح لطالبي اللجوء الذين لم يحملوا معهم أي أوراق ثبوتية أن يقيموا في ألمانيا ويعملوا فيها.

 

لقطة ثابتة تظهر اللاجئين خارج مركز التسجيل، مأخوذة من مقطع فيديو صوره فرانكو عندما ادعى بأنه مهاجر

 

وبالتوازي مع حياته كلاجئ، تنامت سمعته وشهرته بين أوساط اليمين المتطرف، إذ ذكر فرانكو أنه حضر مناظرات في حانات، وبعد مناظرة من تلك المناظرات تم توجيه دعوة له ليخطب بأتباعه.

وفي 15 كانون الأول من عام 2016، ألقى خطبة في "الأمسية البروسية" وهي مناسبة نظمها في فندق ريجينت بميونخ صاحب دار نشر ينكر وقوع المحرقة، وقد كان موضوع خطبته في تلك الليلة حول: "المحافظون الألمان: مشردون في بلدهم".

وطيلة ذلك العام، بدت مذكراته الصوتية ملحة بشكل متزايد، إذ ذكر في إحدى تلك المذكرات بتاريخ كانون الثاني 2016 بأن من تجرأ وأعلن عن معارضته تعرض للقتل والاغتيال، أي أن هذه المذكرة سجلت بعد ثلاثة أسابيع من تسجيله كلاجئ، وقد ورد فيها قوله: "يجب ألا نتردد، إذ يجب علينا ألا نغتال بل أن نقتل". ثم أضاف: "أعرف أنكم ستغتالونني، ولهذا سأغتالكم أولاً".

هدف محتمل

كان فرانكو قد أمضى سبعة أشهر في حياته المزدوجة عندما سافر إلى برلين في صيف عام 2016 بحسب ما أوردته النيابة.

وفي شارع فرعي بالقرب من الحي اليهودي، توجه لالتقاط أربع صور للوحات رخصة سيارة موجودة في مرآب تحت الأرض، وقد تمكن المحققون فيما بعد من استرجاع تلك الصور على هاتفه النقال.

وهذا البناء يشتمل على مكاتب مؤسسة آماديو أنطونيو وهي منظمة أسستها آنيتا كاهاني التي تعتبر ناشطة يهودية بارزة وتقوم بإدارتها بنفسها، وبما أنها ابنة ناجين من المحرقة، لهذا أصبحت هدفاً لكراهية اليمين المتطرف على مدار عقود.

وبناء على الرسائل التي قامت النيابة بمصادرتها، يعتقد بأن السيدة كاهاني التي أصبح عمرها اليوم 66 عاماً كانت هدفاً محتملاً من بين أهداف أخرى حددها فرانكو وذلك بحكم مواقفهم المدافعة عن اللاجئين.

 

الناشطة اليهودية البارزة آنيتا كاهاني في المرآب التابع لمكاتب مؤسستها في برلين

 

وقد شملت بقية الأهداف وزير الخارجية هايكو ماس الذي كان وزير العدل حينها، وكلاوديا روث النائب المدافعة عن البيئة والتي كانت تشغل حينها منصب نائب رئيس البرلمان.

إلا أن اسم السيدة كاهاني ظهر مرتين على الأقل في تلك الرسائل، مرة بنهاية قائمة تعدد عناصر قد تبدو عادية مثل الثلاجة، مع تذكير بالاتصال بالمصرف الذي تم فتح حساب له فيه عندما انتحل صفة اللاجئ. وقد قدم فرانكو لي تلك القوائم، وذكر لي بأنها مجرد قائمة عادية.

ولكن في إحدى الصفحات أشار فرانكو إلى خلفية السيدة كاهاني، وعمرها وعنوان عملها. كما رسم خارطة تفصيلية لموقع مرآب السيارات التابع لمؤسستها. وعلى الورقة ذاتها كتب: "بلغنا مرحلة لم يعد بوسعنا معها أن نتصرف كما نريد".

وقبل توجهه إلى برلين، وبعد أيام من زيارته لها، اشترى فرانكو قاعدة لمنظار وقطعاً لمسدس يدوي، وشوهد في ميدان الرماية وهو يجرب تلك الملحقات التي تضاف لبندقية تستخدم في حالات الهجوم.

كما سافر إلى باريس حيث التقى برئيس مركز أبحاث روسي موال لبوتين، وله ارتباطاته باليمين المتطرف الذي ينتمي إليه فرانكو، ويعتقد أنه اشترى من هناك المسدس الفرنسي الذي عثر عليه فيما بعد في فيينا.

وبالنهاية خلصت النيابة إلى وجود سبب محتمل لدى فرانكو ليقوم بالتجهيز لعملية قتل.

غير أن فرانكو دحض بصورة عملية كل تلك الاتهامات التي لا يرقى أي منها حسب زعمه إلى وجود نية لإيذاء السيدة كاهاني كما أوردت النيابة، إذ يقول في مقابلة سادها التوتر وامتدت لست ساعات خلال ليلة واحدة: "ثمة صور موجودة على هاتفي، إلا أن ذلك لا يثبت أني كنت هناك".

وبالنسبة لمحاكمته يقول: " لا يمكنني أن أتحدث عن ذلك مطلقاً"، لكنه فعل على أية حال عبر استخدام مصطلحات افتراضية.

ويذكر لنا فرانكو أنه لو ذهب إلى هناك لكان هناك محادثة حول هذا الموضوع، ولكان رن الجرس ثم اكتشف بأن السيدة كاهاني لم تكن موجودة. وبعد ذلك قد يتوجه إلى المرآب وهو يفكر: "حسناً، قد تجدون شيئاً ما يتعلق بالسيارة، ثم قد تكتشفون في ظل ظروف مواتية ذلك الشخص"، هذا ما قاله لنا حول هذا الأمر.

 

ترى النيابة أن هنالك سببا محتملا قد دفع فرانكو للتحضير لعملية قتل لكنه دحض كل تلك الاتهامات

 

إذ حتى لو خطط لقتل السيدة كاهاني، وهو أمر أكد بأنه غير حقيقي بالقطع، وحتى لو توجه إلى المرآب "سيكون ذلك في أسوأ الأحوال استعداداً لعملية اغتيال"، وليس إرهاباً حسب زعمه.

وهنا يتساءل: كيف يمكن لذلك أن يشكل خطراً على الدولة؟ ويضيف: "هذا الشخص ليس بسياسي".

زرت السيدة كاهاني لأسألها عن رأيها بالموضوع، وفي اليوم الذي التقينا فيه، وصلها تهديد من النازيين الجدد عبر بريدها الإلكتروني، وقد ذكرت لي أنها تتلقى تلك التهديدات بشكل دائم، فقد ورد في تلك الرسالة التي وصلتها: "سنرسم الصليب المعقوف على وجهك بواسطة فأس حادة، ثم سنقطع عمودك الفقري وسنتركك حتى تموتي في شارع فرعي".

إلا أن ما يخيف أكثر من تلك التهديدات حسب قولها هو سذاجة السلطات الألمانية.

وهنا تتذكر عندما أتت الشرطة لتخبرها بأنهم ألقوا القبض على جندي من النازيين الجدد وعلى جنديين آخرين خططوا لقتلها، حيث كانوا يشيرون إلى فرانكو واثنين من أتباعه ومرافقيه.

فضحكت وهي تقول: "إذن قبضتم عليهم جميعاً، ثلاثتهم؟"

وتعلق اليوم على ذلك بقولها: "إنهم يعتقدون دوماً أن هنالك فقط نازي واحد أو اثنين أو ثلاثة".

دستور من؟

هنالك بند في الدستور الألماني ضمن المادة 20.4 منه والتي تبيح المقاومة، إذ ظهر هذا القانون ليمحو القانون الذي مكن هتلر في عام 1933 من إلغاء الديمقراطية في البلاد بعد انتخابه رئيساً لها، ولهذا يبيح ذلك القانون للمواطنين أن يقوموا باتخاذ إجراءات عندما تتعرض الديمقراطية للخطر.

 وقد لاقى هذا القانون رواجاً بين المتشددين في اليمن المتطرف الذين يستنكرون إدارة السيدة ميركل بوصفها معادية للدستور، ذلك الدستور الذي يحتل مكانة رفيعة في مكتبة فرانكو، بل إنه يقتبس منه المواد ويستشهد بها في معظم الأحيان.

نسخة من الدستور الألماني تظهر وسط مكتبة فرانكو

 

وقبل حلول عيد الميلاد بأسبوع، توجهت للقاء فرانكو مرة أخرى، وقد ساءه أن يرى بحوزتي نسخة مكتوبة من مذكراته الصوتية، إلا أني واجهته ببعض الأمور التي ذكرها فيها، مثل ذكره أنه هتلر كان فوق كل شيء حسب وصفه.

إذ كيف له أن يشرح ذلك؟

لكنه قال لي إنه ذكر ذلك بطريقة ساخرة، وأخذ يكرر ويمثل ذلك الجزء من التسجيل أمامي، ثم إن نبرة صوته في التسجيل لم تكن رسمية وكانت أقرب للمزاح والهزل، وتسمع فيه صوتين آخرين يضحكان.

إلا أنه لم يكن واضحاً بأن كل ما جرى كان نكتة.

ولهذا سألته عن تسجيل آخر يعود لشهر كانون الثاني من عام 2016، والذي يقول فيه فرانكو بإن كل من يسهم بتدمير الدولة فإنه يفعل خيراً، وذلك لأن القوانين معطلة وباطلة، إذ كيف له أن يقول ذلك وأن يدعي في الوقت ذاته دفاعه عن الدستور؟!

ساد صمت طويل، ثم نظر فرانكو إلى النسخة المكتوبة من كلامه، وبعدها أخذ يتصفح مذكرات محاميه دون أن يجيب على سؤالي.

المصدر: نيويورك تايمز