صورتا الإسلام.. والخروج من الاستقطاب

2020.02.03 | 23:11 دمشق

brit_1.jpg
+A
حجم الخط
-A

لا شكّ أن الإسلام لم يعد أمراً يخصُّ المسلمين وحدهم، فهو موضوع يتحدّث عنه البشر في مشارق الأرض ومغاربها، ومن مختلف الأعمار ودرجاتِ التعلُّم والثقافة. ولا شكّ أن هذا الحال غير طبيعي، بل مُصنَّعٌ ومركّب، وناجم عن أسباب تاريخية واقتصادية وسياسية وثقافية عديدة.

في الفضاءات التي تتوفّر فيها حريةُ الكلام النسبيّة عن الإسلام، كما في الإعلام الغربيّ أو وسائل التواصل أو الكتب المنشورة في بلدانٍ لا تشدّد الرقابة؛ يبدو الإسلام محاصَراً بين تيّارين متعارضين تعارُضاً قُطبياً. التيار الأول يرى في الإسلام انبعاثاً سلفياً للهمجيّة البدائيّة، ويمثّل تهديداً للبلاد التي يوجد فيها مسلمون، وللعالم أجمع. وينظر أصحابُ هذا التيار إلى المسلمين ككتلةٍ واحدة متجانسة، لا فوارقَ مذهبية أو فكرية أو شخصية فيما بينهم، وينظرون إلى الإسلام كشيءٍ ثابتٍ ومستمرّ منذ اليوم الأول لنزول الوحي وحتى يومنا هذا. ويجهدُ أصحابُ هذا التيار في البحث عن النقاط السود في تاريخ الإسلام والمسلمين، كالتركيز على نزاعات وحروب وجرائم معينة.. ثم تعميمها على المسلمين في كل زمان ومكان وُجدوا فيه، لتغدو مثل دمغةٍ أبدية أو وصمةِ عارٍ لا تزول. وهكذا يصبحُ مسلمو اليومَ مُتّهمين بأشياء فعلَها مسلمون آخرون قبل قرون سالفة، ومُدَانين بها بحُكم ولادتهم في أُسَرٍ مُسلمة، ويصير من واجبهم إنكارُها والتبرّؤ منها، بوصفهم مُتّـهَمين مُدانين حتى تثبتَ براءتُهم. 

في مواجهة هذا التيار المناهض للإسلام؛ يبرز التيّارُ الذي يربأُ بالإسلام عن أنْ يُوصَف بتلك الصفات، فيركّزون على النقاط البيض فيه، كالاستشهاد بنصوص تتحدث عن المحبة والتسامح، واستذكار وقائع تاريخية مضيئة في عهد الرسول والصحابة والخلفاء والسلاطين.. ويغلب على خطاب هذا التيار الطابعُ التبريري الاعتذاري، وكأنهم يشعرون بأنهم مُتَّـهمون مُدانُون حتى تثبت براءتهم.

عندما يتطرّف التيار المناهض للإسلام؛ فإنه يساوي بين المسلمين جميعاً وإحدى السلطات أو التنظيمات الإسلامية، كأنْ يُقال إنّ المسلمينَ جميعهم دواعش، أو إنهم متطابقون تماماً مع النظام الإيراني أو السعودي. وعندما يتطرّف التيار المدافع عن الإسلام بالعاطفة، ومن دون امتلاك رؤية تاريخية وعِلمية، فإنهم يتحوّلون إلى متطرفين إسلاميين يحتكرون المعرفة الحقّة بالإسلام لهم وحدهم، ويرمُون الآخرين المختلفين عنهم بصفاتِ الباطل والكُفر. أي أنهم يحقّقون الصُورة التي وَصَفهم بها التيارُ الأوّل خيرَ تحقيق.

عندما يتطرّف التيار المناهض للإسلام؛ فإنه يساوي بين المسلمين جميعاً وإحدى السلطات أو التنظيمات الإسلامية، كأنْ يُقال إنّ المسلمينَ جميعهم دواعش، أو إنهم متطابقون تماماً مع النظام الإيراني أو السعودي

وأعتقدُ أنّ كُلّا من هذين التيارين يُنتج الآخر ويغذّيه، فكلما تطرّف الأول بخطابه زادَ ذلك في تطرّف خطاب الثاني، والعكس بالعكس، وصولاً إلى حالة استقطاب حادّة تنعدم فيها الـمُشتَركات. وفي الغالب، لا يستند طرفٌ منهما إلى علمٍ من العلوم أو منهج من المناهج أثناء مقاربته لتلك الظواهر المركّبة والمعقدة. والخطأ الأكبرُ هو نظرتُهما اللاتاريخية للإسلام، فكلاهما يتحدث عن إسلامٍ مجرّد، يقع خارج الزمان والمكان والإنسان واللغة، فيستمدّ هذا "الإسلام" مكوّناته جميعها من ذاته فقط، ويُقدَّم وكأنه هو المتحكّم بالتاريخ منذ ظهوره وحتى اليوم، والـمُتحكّم بجميع من وُلدوا في أُسَرٍ مسلمة، وكأنّ البشرَ من دون أهواء ورغبات ومصالح، واتجاهاتٍ مختلفة من الاعتقاد والتفكير.

للخروج من هذا الاستقطاب الثنائي بين مناهضي الإسلام والمدافعين عنه بالعاطفة؛ لا حلَّ -في رأيي- سوى النظر إلى الإسلام نظرة تاريخية، أي القول بتاريخيّة الإسلام. إنّ معظم الوقائع التي يحاول مناهضُو الإسلام إدانتَهُ بها، مثل حروب الردّة والفتوحات ونظام الرقّ ووضع المرأة.. هي تنتمي -في جوهرها- إلى التاريخ البشري في القرون الوسطى، أكثرَ مما تنتمي إلى الإسلام بكثير، فهي وُجدتْ قبل الإسلام وظلّتْ بعدَه، والإسلام أخذَ بما هو قائمٌ ومناسبٌ لطبيعة المجتمع ومصالحه آنذاك، ولم يقُم الإسلام باختراع ذلك من عدم.

للخروج من هذا الاستقطاب الثنائي بين مناهضي الإسلام والمدافعين عنه بالعاطفة؛ لا حلَّ -في رأيي- سوى النظر إلى الإسلام نظرة تاريخية، أي القول بتاريخيّة الإسلام

حينما نتبنّى النظرة التاريخية للوقائع؛ لا يصحّ قول الكثيرين إنّ "الإسلام انتشر بحدّ السيف"، ولا يصحّ الردُّ عليه بالقول إنّ "الإسلام انتشر بالهداية والمحبة". بل بالقول إنّ الدين هو الذي كان يجمعُ البشرَ أو يفرّق بينهم في العصر الوسيط، وكانت العصبية الدينية هي الرابط الموحّد للقبائل والدول والامبراطوريات، ولذلك كانت الأديانُ تأخذ طابعاً قومياً. وفي زمن حياة الرسول، كان الإمبراطور الروماني جوستنيان الأوّل يجتاح الشرق والغرب ويُرغم المهزومين أمامه على اعتناق المسيحية. وقُبيل دخول المسلمين إلى الشام، كان الإمبراطور هرقل قد وضعَ اليهود بين خيارين؛ إما اعتناق المسيحية أو الموت. وقُبيل دخولهم إلى مصر، كان المقوقس يقتلُ كل مَن لا يوافق على قائمة الحرمان الكنسي التي أعدَّها بنفسه.

إذاً، هذه الظاهرة سمةٌ للعصر، وليست سمةً للإسلام أو المسيحية، وينبغي أنْ تُدرس تحت عنوان "دور العصبية الدينية في توحيد الأمة-الدولة في العصر الوسيط"، لا تحت عنوان "نشر الإسلام بالسيف" أو "العنف الإسلامي". وكما أنه لا يصحّ نزع تلك الأحداث من سياقها التاريخي وإلصاقها بالمسيحية، واعتبارها جزءاً من العقيدة، ثم اتّهام كل مسيحي بأنه يُحلّل قتلَ مَن لا يعتنق المسيحية؛ فإنه لا يجوز -بالقياس ذاته- نزعُ حروب المسلمين من سياقها التاريخي وإلصاقها بالإسلام، واعتبارها جزءاً من العقيدة، ثم اتّهام كل مسلم بأنه يُحلّل قتلَ مَن لا يعتنق الإسلام.

لقد قامت دولة الرسول والخلفاء والسلاطين عن طريق الحروب، ليس لأن الإسلام يحبّ العنف ويتّخذ منه وسيلة للحكم، بل لأن الحرب والغلَبة هي الوسيلة المتّبعة والمعروفة لإقامة الدول في القرون الوسطى. بل هي الوسيلة الشرعيّة لإقامة الدولة والوصُول إلى السلطة وتوطيد الحكم في معظم مراحل التاريخ البشري، أي إلى حين بُزوغ فكرة العقد الاجتماعي عند هوبز. ولذلك يوجد في الفقه الإسلامي ما يُسمى "ولاية المتغلّب"، لأنّ الحكم بالغَلَبة من طبيعة العصر. وبالتالي، فإن صراعات الحكّام المسلمين على السلطة؛ تمثّل سلوكهم وإرادتهم ورغباتهم، والظروف التاريخية التي عاشوا فيها، أكثرَ مما تمثّل الإسلام أو تنتمي إليه.

وكذلك، تجدُ من يتحدث عن "العبودية في الإسلام" وكأنه أمسكَ الإسلام من مقتل. متجاهلاً أن النظام العبودي ظاهرة امتدتْ لآلاف السنوات وشملتْ بقاع الأرض، وهي ليست من اختراع الإسلام حتى نلصقها به. وقد استمرّتْ بعدَ الإسلام ولم تُلغَ، لأنّ الحضارات كانت تقوم على طبقة العبيد حينذاك، فهو نظامٌ لا يمكن إلغاؤه بقرار، لأنه محكوم بالشروط التاريخية الاقتصادية ودرجة تطوُّرها. وأظنّ أنّ فكرة إلغاء العبودية في القرن السابع هي مثل الاستغناء عن الكهرباء اليوم، أي التخلّي عن مقومات الحضارة. وكذلك الأمر حينما يتحدّث بعضُهم عن "وضع المرأة في الإسلام"، فهذه المسألة لا يصحّ أنْ تُدرس من هذا المنطلَق، بل من "وضع المرأة في القرن الفلاني في المكان الفلاني"، وأنْ يُقارن وضعُها بأوضاع النساء في الدولة الفارسية والبيزنطية، وبما للمرأة من حقوقٍ في القانون الروماني المسيحي ولدى القبائل الجرمانية آنذاك.

إن اعتماد النظرة اللاتاريخية للإسلام، يُخرج الأحداثَ من سياقها ويلصقها بكيانٍ مفهوميّ مجرّد اسمه "الإسلام"، يقع خارج الزمان والمكان ومصالح البشر. وهذه النظرة هي حصان طروادة الذي تعبر من خلاله معظمُ النزعاتِ الطائفية والمواقف العنصرية المعادية للمسلمين، وهو الحصان الذي تستخدمه الجماعاتُ الإسلامية المتطرفة، لتمرير أفكارها ودعواها المعادية لمفاهيم الديمقراطية والمواطنة وحقوق الإنسان.

كلمات مفتاحية