صفقة القرن... مسلسل جديد لقرن جديد

2020.02.01 | 23:01 دمشق

deal-of-the-century-or-the-devils-deal-640x336-1.jpg
+A
حجم الخط
-A

مرة أخرى يقفز ترمب قفزة بهلوانية في فضاء هذا السيرك الذي افتتحه منذ حملته الانتخابية باتجاه الرئاسة الأميركية. عرض متواصل يعيش العالم فصوله المتتالية منذ أربع سنوات: من سور المكسيك إلى "جون بايدن" وقصته مع أوكرانيا، إلى إيران وأرامكو والسليماني، إلى القدس وإعلانها عاصمة لإسرائيل، والموافقة على اعتبار الجولان جزءاً من إسرائيل...، باختصار: إنه فيلم أمريكي طويل، يقوم ببطولته رئيس يتقن المقامرة واللعب بأسواق المال والأعمال والمفاجآت والإدهاش، أكثر بكثير من إتقانه السياسة.

على إيقاع جلسات مناقشة مجلس الشيوخ لعزله، أي ترمب، أقدم الرئيس الأمريكي إياه على إطلاق ما يسمى "صفقة القرن"، الصفقة التي استعجلها ترمب؛ بهدف الاستفادة منها في معركة عزله التي تحتدم هذه الفترة، وهو يريد منها إضعاف من يحاولون عزله وتقوية الجبهة المدافعة عنه، أكثر بكثير من أن يريد توظيفها في قضايا أخرى. ومع هذا، فإنها صفقة قد جاءت "كالصفعة" على وجوه كثيرين، لا يزالون يكذبون على أنفسهم وعلى الآخرين، وما يزالون يدفنون رؤوسهم في رمال الوقت، محاولين تأجيل فضيحتهم قدر الإمكان. أما ترمب فلم يحاول أن يخفف في صفقته، ولو قليلاً، الظلم والجور والإجحاف الذي سيصيبهم من آثار استعراضاته المتحررة من أي مسؤولية.

بعيداً عن ترمب، وعن مشروع عزله، وعن مقامراته السياسية، وبعيداً عن الالتباسات التي دفعت إلى الإعلان في هذا التوقيت عما يدعى صفقة القرن، فإن هناك أموراً، يتم تجاهلها عمداً؛ فمن هذا الذي يظن للحظة: أن أي مشروع بخصوص منطقتنا، قد جرى تحديد استراتيجياته في أميركا، أو في روسيا، أو في تركيا، أو في أوربا على العموم... يمكن أن يكون منصفاً للشعوب أو للأطراف المستضعفة والضعيفة، أو يمكن أن يتوخى حداً أدنى من العدل والحقوق. إن من يظن هذا أحمق واهم، وإن من يتوقع أن ترمب يريد فعلاً، أن تكون صفقة قرنه مشروع حل، فهو واهم وأحمق أيضاً.

أما إذا رغبنا في مسايرة الوهم، وتحامقنا، فلابد من السؤال: لماذا يستعجل ترمب، ومعه قادة الكيان الصهيوني، الوصول إلى حل للصراع الفلسطيني الإسرائيلي؟ ألم ينطو قرن كامل على هذا الصراع دون بشائر حل؟ ألم تكن فرص عديدة ممكنة لحله، ولم يحل؟ لماذا؟ ألم تتعايش إسرائيل قرناً كاملاً مع جوار قد أعلن دائماً أنه يرفضها! ألم تتعايش مع داخل في حالة غليان دائمة؟ ألم تتعايش مع رأي عام

لم تعد فلسطين الآن هي العقدة الأهم، ثمة ما هو أكثر أهمية بكثير: سوريا، والعراق، وإيران والخليج، واليمن... إلى آخر ما هنالك من "صفقات قرن" فائقة الأهمية

عالمي قد كان رافضاً لها أضعاف رفضه الآن لها؟ فلماذا إذاً تمضي الآن إلى إنهاء ما كانت قد احتملته طويلاً، وما ظلت تحتمله- كأنها ما زالت تتمناه- وهي التي لا تزال تربح معاركه كلها بالدعم وبالتواطؤ؛ كأنها بؤرة تصريف قيح هذا العالم؟ وعلى كل حال، لقد مر الصعب، فلماذا تستكين إلى الحل مع الهيّن؟

لم تعد فلسطين الآن هي العقدة الأهم، ثمة ما هو أكثر أهمية بكثير: سوريا، والعراق، وإيران والخليج، واليمن... إلى آخر ما هنالك من "صفقات قرن" فائقة الأهمية، وهناك بلاد سيعاد صياغة معادلات نهبها، وهناك صناعة لأنظمة جديدة أكثر حيوية وقدرة على استيعاب  المناهج الجديدة في القمع وإخضاع الشعوب، وأكثر حيوية وقدرة على تمثلها، وهناك محاور مقاومة وممانعة أكثر حداثة وعصرية، إضافة إلى أنها مصنعة وفق معايير الجودة العالمية وبعمائم عصرية، وهناك الكثير مما تعجز العقول عن حصره...إذاً، ما الذي يريده الآن مروجو صفقة القرن منها؟

لعل الأخطر على هذه المنطقة في قادم الأيام، هو: أن لا حلول قادمة، ولا حلول ممكنة... غير أن هناك عرضاً آخر، هناك فصل جديد في صفقة القرن، هو فصل من فصول إخضاع هذه المنطقة، ونهبها، واستنزافها.

وهناك إخراج جديد، وفروق جوهرية بالإضاءة وبالمؤثرات الصوتية وبالعروض وبأدوار الممثلين؛ إذ إن إسرائيل لن تلعب في العرض القادم دور العدو الذي سيملأ الحكام العرب صدورهم بالنياشين في معاركهم المتوهمة معه، ولن تكون إسرائيل دولة محاصرة من جوار يرفضها... أبداً؛ لأنها قد أصبحت في الفصل الجديد دولة مبدعة ومتطورة وديمقراطية ورحيمة ومن صلب المنطقة؛ فلا يجوز العيش من دونها، ولا يمكن العيش معها إلا بحسن جوار أولاً، وبصداقتها ثانياً، وصولاً إلى تسليمها المنطقة بما فيها من بشر وحجر وثروات؛ لأنها الأكثر إمكانات وعلماً وخبرة... ولأنها الأكثر رهبة ورهافة وحناناً!

ولهذا، يمكن لإسرائيل أن تتخفف من عبء قطاع غزة، ويمكنها أن ترميه على عاتق أشقائها العرب؛ إذ لا شاغل يشغلهم... وما دامت النخوة العربية- على كل حال- تفور كما يفور المارد من قمقمه عندما تحتاجها أمريكا أو إسرائيل... إضافة إلى أن ما ستخسره إسرائيل من أراض قليلة لحل موضوع الدولة الفلسطينية، يمكنها تعويضه من سوريا؛ فالنظام السوري جاهز لأي صفقة مهما تكن مذلة؛ شرط أن تلصقه على كرسيه. لكنها- يا لأسفهم! - ستنتظر، ولن تحل أي مشكلة مع الفلسطينيين؛ فهي ليست مضطرة إلى أي حل للقضية الفلسطينية؛ فلم يعد يقلقها أمر الفلسطينيين، وقد أصبحت قادرة على التعايش مع كل تعقيدات هذا الأمر، تماماً كما فعلت على مدى العقود الماضية؛ لكن الفلسطينيين هم من يريد الحل، وهم من يستميت لأجله، هم وكل حكام ولايات: لبنان، وسوريا، والعراق، والأردن، والخليج، واليمن....

نعم، إن الحكومة الوحيدة، والشعب الوحيد الذي يمكن القول، إنه آمن، ويعيش حياته الطبيعية، ولا يخاف، هو الشعب: الإسرائيلي، بينما تلهث كل الشعوب المحيطة بها من أجل الوصول إلى لقمة الخبز، وإلى الحد الأدنى من الأمان.

إنه السيرك الذي نعيش فيه منذ أكثر من قرن، هذا السيرك

مع لعنة العسكر ورجال الدين: ما الذي يجبر إسرائيل على أي حل طالما أن هذه المنطقة بكل ما فيها ماضية إلى خراب عميم؟؟؟

الذي لا نكاد نسترد فيه أنفاسنا من مشهد رعب، حتى يداهمنا مشهد أشد رعباً ولعنة، وما إن يرحل طاغية بعناية إلهية حتى يُستبدل بطاغية ألعن وأدق رقبة، ولا من نافذة ضوء تفتح في ليل هذه الشعوب الطويل حتى يسارع إلى إغلاقها ذوو العمائم المدعومين بمشيئة من له المشيئة.

إذاً مع لعنة العسكر ورجال الدين: ما الذي يجبر إسرائيل على أي حل طالما أن هذه المنطقة بكل ما فيها ماضية إلى خراب عميم؟؟؟

لذلك، صفقة القرن لن تكون حلاً لأي شيء؛ لأنها إعادة إنتاج الصراعات على أسس جديدة وبرؤى جديدة وبعناصر جديدة، إنها لزج المنطقة بكاملها في عرض جديد ... وما يجري اليوم هو استنفاد آخر قدرة للفعل لدى شعوب هذه المنطقة، إنه قتل لإمكانية نهوض هذه الشعوب وتدمير لعناصر قوتها حتى قادم غير معلوم.