صراع طبقي من نوع آخر يسود العالم اليوم

2023.05.30 | 07:01 دمشق

آخر تحديث: 30.05.2023 | 07:01 دمشق

صراع طبقي من نوع آخر يسود العالم اليوم
+A
حجم الخط
-A

في كتاب "المؤمن الصادق" يقول "إيريك هوفر": "إن أكثر الناس صراخا في سبيل الحرية كثيرا ما يكونون أقل الناس سعادة في مجتمع حر. إن المحبطين، الذين تحاصرهم عيوبهم، يعزون فشلهم إلى القيود والمعوقات الخارجية إلا أنهم، في حقيقة الأمر، يتمنون أن يزول مناخ الحرية المتاحة للجميع ويودون إلغاء المناقشة الحرة، وما ينتج عنها من امتحان دائم للفرد في المجتمع المفتوح".

ربما يكون "إيريك هوفر" آخر من تحدث حول كون الحرية مسؤولية هناك كثيرون ممن يرفضونها، فقد سبقه كثير من العلماء والمفكرين الكبار من أمثال "فرويد" و"فيكتور هيغو" و"روسو" وآخرين. ولعل في تجارب بعض الشعوب براهين واضحة على ذلك. تقول الكاتبة الروسية "أيرينا شيرباكوفا" في أحد مقالاتها: "تميزت سنة 1989 بتوقعات كبيرة؛ إذ غنّى فريق الروك الروسي "كينو" أغنية "نحن ننتظر التغيير!"، وطالبت جموع المتظاهرين المليونية المحتشدة في شوارع موسكو بالحرية والديمقراطية".

اعتقد بعض الروس وقتها بأنه لنجاح التجربة الديمقراطية لا بد من نبش الماضي وتعرية الظلم والفساد الذي ميز النظام السوفييتي المنهار، وأُسست في روسيا جمعية "ميموريال"، وهي مجموعة عالمية لحقوق الإنسان، أُسست للدراسة والوقوف على واقع حقوق الإنسان في الاتحاد السوفييتي وغيرها من الجرائم التي ارتكبت في عهد "جوزيف ستالين"، والتي كانت من الفظاعة لدرجة لم يعد الشعب الروسي يرغب في التفكير بها على حد تعبير "شيرباكوفا".

عادت تماثيل ستالين للظهور في بعض المدن الروسية بمبادرات شخصية من قبل بعض المواطنين الروس توجت أخيرا بتمثال نصبته الحكومة الروسية بشكل رسمي

عُرف "جوزيف ستالين" القائد الثاني للاتحاد السوفييتي، أو الرجل الحديدي كما يلقبونه بقسوته المفرطة، فقد حكم الاتحاد السوفييتي بالحديد والنار كما يقال. ونتيجة لتاريخه الدموي؛ بعد وفاته عام 1953 أزيلت تماثيله من الأماكن العامة بعد أن اتهمته القيادة السوفييتية بتكريس عبادة الشخصية. أما الآن وبعد نصف قرن على وفاة ستالين أغلقت جمعية "ميموريال" كمقدمة لرد الاعتبار لتلك الشخصية الجدلية، والتي يراد منها إشاعة بيئة من الهوس بالقوة وبكل ما هو عسكري بتغذية من النخبة السياسية الروسية. وهكذا لم يعد مدح "ستالين" من المحظورات، وعادت تماثيل ستالين للظهور في بعض المدن الروسية بمبادرات شخصية من قبل بعض المواطنين الروس توجت أخيرا بتمثال نصبته الحكومة الروسية بشكل رسمي.

ظن البعض أن حقبة الأنظمة "الستالينية"، وهو الوصف الذي يفضل بعض المنظرين السياسيين إطلاقه على الأنظمة المعروفة بقمعها العنيف لمعارضيها، والتي تكرس عبادة الشخصية قد انقرضت ولم يعد لها وجود سوى في بعض زوايا العالم النائية والمعزولة ككوريا الشمالية مثلا، لكن ما يحدث في روسيا من إعادة الاعتبار لشخصية "ستالين"، والدفع نحو التطبيع مع النظام السوري الذي أثبت تفوقه على نظام "ستالين" ذاته بالإجرام والوحشية أرخى ظلالا من الشك حول مقولة "إن حقبة الأنظمة الستالينية قد ولت من غير رجعة".

الروس حتى يومنا هذا لا يزالون منقسمين بشأن دور "ستالين" بين من يراه دكتاتورا أزهق ملايين الأرواح وشرد ملايين أخرى، وبين من يراه الرجل المناسب لتلك المرحلة والذي أوصل روسيا إلى مصاف الدول العظمى

بكل تأكيد؛ لم يكن حضور رأس النظام السوري اجتماع زعماء الكيانات السياسية العربية حدثا طبيعيا، أو حدثا عابرا؛ فهو يعني الكثير. ولعل أهم معنى لهذا الحضور: تأكيد عودة الستالينية كأنظمة حكم معترف بها، ذلك أن "ستالين" عندما كان يحكم الاتحاد السوفييتي لم يكن معزولا كما هو النظام الكوري الشمالي اليوم والنظام السوري بالأمس، بل كان يعامل كرئيس لدولة؛ بقي أن تفك العزلة عن النظام الكوري والنظام الكوبي لنقول إن الستالينية السياسية قد عادت وإن عجلة التاريخ بدأت بالدوران نحو الخلف.

عندما تنتهي الحرب التي شنها "بوتين" على أوكرانيا؛ أحد أهم التوقعات أن يتحول "بوتين" إلى "ستالين الثاني" إن لم يسقط. وما يجعل هذا الاحتمال واردا هو أن الروس حتى يومنا هذا لا يزالون منقسمين بشأن دور "ستالين" بين من يراه دكتاتورا أزهق ملايين الأرواح وشرد ملايين أخرى، وبين من يراه الرجل المناسب لتلك المرحلة والذي أوصل روسيا إلى مصاف الدول العظمى وصنع انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية.

بتعبير آخر؛ تستند الأنظمة القمعية إلى طبقة من الجماهير تمنحها الشرعية وإمكانية الاستمرار، بل وتصنعها أحيانا. تتكون هذه الطبقة من جموع المحبطين والفاشلين الغير قادرين على تحمل المسؤولية والأعباء التي تفرضها أجواء الحرية، وتتكون من بعض المناضلين الذين هم بالأصل يناضلون من أجل تحسين شروط العبودية على حد تعبير مصطفى محمود.

يبدو أننا أمام نظرية طبقية جديدة تقسم المجتمع إلى طبقتين متصارعتين ليستا كما صورهما "ماركس" على أنهما البروليتاريا والبرجوازية، وإنما طبقتين أو حزبين بتعبير أدق؛ أحد هذين الحزبين يمثل جموع المناهضين للحرية والمناضلين دفاعا عن الاستبداد. أما الحزب الآخر فهو المكون من أولئك المطالبين بالحريات العامة. وينضوي تحت راية كل حزب من الحزبين أناس من الطبقة البرجوازية وطبقة البروليتاريا وما بينهما. ونتيجة الصراع والتنافس بين هذين الحزبين هي التي تحدد طبيعة الوحدة السياسية؛ أهي دولة أم مجرد كيان سياسي.

حتى الآن لا أحد يستطيع الجزم إن كان حزب العبيد قد أصبح أكثر قوة وتماسكا لكي يتمكن من كسب جولة تثبت للعالم أجمع أن عجلة التاريخ قدر تدور نحو الخلف. أم أن ما يحصل مجرد إطلالة بالرأس للستالينية السياسة قبل أن تلفظ أنفاسها الأخيرة.