icon
التغطية الحية

صراع السلفية الإبداعية السورية مع التغيير

2021.08.01 | 15:56 دمشق

thumbnail_20170405_nojustice.jpg
صورة لبشار الأسد في ساحة سعد الله الجابري بحلب، كانون الأول 2016 - رويترز
+A
حجم الخط
-A

بعد ثورة 25 يناير صدرت في مصر رواية تحمل عنواناً بليغاً "سلفيٌّ يكتب الروايات سرّاً"، يبيّن فيها الكاتب، ماجد شيحة، ما الذي دفعه لاعتزال الكتابة، بفعل فتاوى المشايخ التي تقرّر تحريم الخيال بذريعة أنه كذب. ومن بين تلك الفتاوى كانت فتوى أبو إسحق الحويني وغيره، عدا عن أن زوجته قبل نشر روايته همست في أذنه قائلة "لا نريد أن نرتكب حراماً بنشرها، اعرضها على شيخ ودعنا نرى ماذا سيقول". وقد وثّق شيحة تلك التجربة بحرارة مميزة في سياق من الأسئلة غير المباشرة التي لم يجرِ طرحها في المشهد السوري.

حسناً. التوثيق مهمة شاقة وضعها على عاتقه العديد من السوريين منذ أن اكتشفوا ضرورة إثبات ما يجري في بلادهم، لكن إلى جانب توثيق الجرائم والانتهاكات تبرز مشكلة توثيق ورصد تحوّلات المنتوجات الثقافية الإبداعية كمشكلة كبيرة، حاول البعض الاهتمام بها دون أن يحظى ذلك العمل برعاية كافية من أي جهة سياسية سورية معارضة، في مقابل حيازة نظام الأسد في دمشق على هياكل إدارية كاملة وناجزة التكوين تجسدها وزارة الثقافة السورية ومؤسساتها الموازية التي تقوم وبشكل آلي وبحكم عائديتها لتروس الدولة ومسنناتها بأرشفة وقياس كل ما تنتجه وفق معاييرها بالطبع.

العقد الإبداعي الماضي، منذ العام 2011 لم يكن مثل غيره من عشرات السنين التي شهدها التحقيب الثقافي السوري، إن كان قد شهد مثل هذا المنهج من التأريخ ولا أعتقد أن أحداً من النقاد السوريين قبل بفكرة التحقيب العقدي على أهميتها، الاعتبارات التي تقف وراء ذلك عديدة، أبرزها أن الزمنَ زمنُ تمرّدٍ وتوقٍ إلى الحريّة والتجديد في نمط الحياة، ومن المفترض أن يواكبه تمرّد موازٍ يعادل ذلك التوق بتجديد الخطاب واللغة والتصوير معاً، وإلا ما فائدة ثقافة مهترئة إلى جانب روح سورية متوثّبة؟ إلا أن ذلك التقابل، بين القديم والجديد في عشر سنين ملتهبة، لم يكن طيلة الوقت كما يمكن لنا أن نتخيل. فالعتيق تشبّث بوجوده وإنجازه رافضاً منح الجديد فرصته. وهكذا نشأ صراعٌ فكري وإبداعي، يُجيز لنا أن نتساءل هل كان التعثر في الأداء السياسي السوري انعكاساً له أم أنه يجب الاستسلام لفكرة أن السياسة لا تتوقف على المستوى المعرفي وعلى الإبداع والخلق؟ الجواب من جهتي بالطبع يقول العكس. فالنتاج الإبداعي كان الأساس، وفي البدء كانت الكلمة حقاً في الثورة السورية لا البندقية، وقد تمثّل ذلك بدءاً من لغة الهتافات واللافتات في المظاهرات السلمية، ولم يتوقف عند الشعارات السياسية والعسكرية التي أُطلقتْ واعتمدت خلال السنوات الماضية.

السلفية الإبداعية لا علاقة لها بالإيديولوجيا أو بالجذور الثقافية والدينية للمبدعين، هي المنسوب الذي وصلت إليه مياه أمواجهم، فثبّتوا اللقطة عندها، خوفاً من التغيير.

ولئن قوبلت الهبّة الشعبية من أيامها الأولى بالترحيب من بعض المبدعين، إلا أنها واجهت سلفيةً صارمة من لدُن كثيرين منهم، فلن يسمح الكتاب والفنانون "الشيوخ"، مزاجاً لا عمراً، للشباب بالتقدّم أكثر في المشهد. أمرٌ كهذا قد يهدّد مكاناتهم التي حقّقوها من قبل. قليلون نجوا من ذلك، بينما حافظت الغالبية منهم على تلك السلفية في التفكير والقوالب، فتم خلق مشهد لا يمكن القول، بأي صورة، إنه على مستوى الراهن السوري المتفجّر.

السلفية الإبداعية لا علاقة لها بالإيديولوجيا أو بالجذور الثقافية والدينية للمبدعين، هي المنسوب الذي وصلت إليه مياه أمواجهم، فثبّتوا اللقطة عندها، خوفاً من التغيير. والتغيير أساس العلمية الإبداعية وإلا فإن كل ما سيُنتَج سيكون عبارة عن نسخ من التكرار والمراوحة في المكان، فالجمود نقيض الإبداع الذي يعني ببساطة استيلاد الحديث.

يعتقد البعض أن ما يجري في قارّة الإبداع لا علاقة له بما يدور في ساحات المعارك والأروقة السياسية، وأن صفحات الروايات والقصائد واللوحات التشكيلية وأفلام السينما وقطع الموسيقى أمورٌ ثانوية ليس هذا وقتها. ولكنها عشر سنين انقضت، ولم يأت ذلك الوقت، منذ أن قرّر الساسة أن الأولويات هي لقضايا أخرى غير تلك الحقول؛ شعراء قصيدة نثر يعتقدون أن مجرّد انتمائهم إلى الشكل الأحدث للكتابة كفيل بجعلهم مواكبين للحظة السورية، وكتاب روايات من طراز ذات قالب تقليدي، صور ولوحات تعتمد المعايير القديمة، وموسيقى جامدة، وكلها أنماط لم تتزحزح خطوة عن زمن ستينيات القرن العشرين، مهلاً، ستينيات القرن العشرين! تماماً، تلك اللحظة التي جمد بها الزمن السوري سياسياً بعد ثورة آذار التي أحكم الجيش قبضته فيها على السطلة، فجمّد المجتمع أرحامه عن ولادة الجديد، حالات محدودة نجت، لنعود بعد لحظة اندلاع الثورة إلى القحط ذاته ولتسهم شخصية الضحية التي تولْه بها المبدعون بتكريس ذلك الجمود والتأوه والتلوي عوضاً عن الخلق وتقديم الرؤى أمام العقل.

ولعلّ القارئ الكريم لا يفوته لزوم توفر القدر الكافي من الشجاعة ليقتنع الشيوخ بالتنحّي جانباً وترك المجال أمام الشباب لتقديم رؤاهم عن الغد، فالغد ملكهم هم لا ملك الغابرين أوالذين يستعدون لمغادرة العالم. كثيراً ما قيل مثل هذا الكلام عن الحُكم، لكن أليس الحُكم فنّاً وجزءاً من تلك العملية الإبداعية الفكرية التي عليها أن تكون متجدّدة وإلا استحال الحُكم استبداداً وديكتاتورية؟

من جهة أخرى، لا يفكّر النقاد الحاليون، في ظلّ انعدام ظهور نقّاد سوريين جدد، بجيلٍ من المبدعين قضى عشر سنين من عمره وسط أتون الحرب والتمزّق الاجتماعي وانهيار البلاد والشتات، كيف يمكن لشكل الكتابة، على سبيل المثال، أن يكون بعيداً عن التأثر بما يجري؟، وهل يكفي أن يسوح السوريون في المنافي ودول اللجوء ساعين إلى نقل إنتاجهم إلى اللغات الأخرى وفتح الآفاق التي كانت مغلقة أمامهم في الماضي، بدلاً عن الاشتغال على إبداعاتهم وتطويرها؟ ثم ما الذي تحتوي عليه تلك الأعمال من تقدمة مختلفة ينتظرها العالم من السوريين وهو يتابع أخبارهم على رأس القائمة في نشرات الأنباء؟

الإلغاء وشطب السجلات ليس من القيم التي نادى بها السوريون المنتفضون ضد الاستبداد، ما طالبوا به هو الشراكة والتغيير. لكن مهلاً، ليس هذا ما حدث. بل إن الخطاب الذي عُمّم بين السوريين كان قائماً على الثأر والإلغاء والتحريم والعزل. ما جعل من تلك الأفعال عادات تسرّبت إلى النتاجات الإبداعية عابرةً حدود السياسة. وبالمزيد من التشديد على الإلغاء، نشأت حالات إبداعية "بقعية" تدور في سواقي الإنتاج دون أن تلتفت إلى المستوى والجودة بمعيار مقبول على الأقل. ومُحرّك ذلك كلّه ومولّد شرارته، التشبثُ بسلفية إبداعية متمنعّة لا تقبل مجرّد التفكير بأي تغيير محتمل. وإن كان من البدهي أن النخبة هي من يقود المجتمع إلى المستقبل، في السلم أو الحرب، نخبةٌ فكرية، أو سياسية أو عسكرية أو اقتصادية، أو ما شئت في مختلف الظروف والأنظمة، فإنه من العبث أن ننتظر خطاباً جديداً من نخب لا تؤمن بالتجديد في الإبداع.