icon
التغطية الحية

صراع الأصالة والحداثة في السينما الدينية التركية

2021.01.30 | 16:27 دمشق

hqdefault_0.jpg
محمد نور النمر
+A
حجم الخط
-A

فيلم الإمام نموذجاً

تعود بدايات السينما التركية إلى نهايات المرحلة العثمانية، وتحديداً في عام 1917م، مع فيلمي (المخلب، والجاسوس)، وقد تأثرت هذه السينما في العهد الجمهوري بالصبغة السياسية العلمانية الصُلبة، والتي تجلت في الابتعاد عن الموضوعات الدينية، وتصوير شخصياتها بصورة سلبية متخلّفة عن مستجدات العصر ومتطلباته.   

لم تكن ولادة السينما الدينية عام 1970م الذي شهد إنتاج أول فيلم سينمائي ديني (الطرق المتقاطعة) - ثم فيلم (زهرة 1972م) و(ابني عثمان 1973م) – بعيدة عن سياق التحولات السياسية اتجاه الإسلاميين، أهمها تأسيس (نجم الدين أربكان 1926 – 2011م) لـ حزب النظام الوطني، ولاحقاً حزب السلام الوطني، وما تلاهما من دخوله البرلمان التركي، وهو الأمر الذي حُرم منه التيار الإسلامي منذ بداية تأسيس الجمهورية حتى عام 1972م.  

شهد عقد التسعينيات نقلة نوعية في تاريخ السينما الدينية التركية ليس فقط في عدد الأفلام التي أنتجتها، إنما أيضاً في الموضوعات والشخصيات الدينية التي تناولتها أفلامها، مع بروز كُتّاب هذا التوجه، ولم تكن المتغيرات السياسية وحدها صاحبة الأثر في هذا التحول، بل أيضاً ثورة الإعلام الفضائي التلفزيوني، والتي تأسست خلالها بعض القنوات الدينية في تركيا.

فيلم الإمام

واحد من أشهر أفلام السينما الدينية التركية وأهمها في عام 2005م، وخصوصاً في الوسط التركي المحافظ، فهو من تأليف الكاتب المعروف (عمر لطفي متى) الذي تحول كثير من أعماله الأدبية إلى أفلام، منها: فيلم: (أويس القرني، أحمد البدوي)، أو مسلسلات مشهورة، منها: وادي الذئاب، آغا.

لا يمكن قراءة فيلم الإمام لمخرجه المبدع إسماعيل كونش - الذي يحمل في جعبته أكثر من عشرين فيلماً سينمائياً، نال عليها كثيرا من الجوائز المحلية والدولية - دون الغوص في المضامين الرمزية؛ الفكرية والدينية والاجتماعية والتاريخية والسياسية، عن حالة الصراع بين الأصالة والحداثة، فليس اسم الفيلم (The imam)-  أي كلمة إمام imam)) يحمل بعداً رمزياً يشير إلى الأصالة الإسلامية، وكلمة (The) إنكليزية لها دلالة حداثية غربية -  وحده ما يؤكد على هاتين المقولتين (الأصالة والحداثة)، بل هناك كثير من التفاصيل الفنية التي صورها الفيلم، منها شكل الممثلين، وملابسهم، وأسماؤهم، وحتى المهن التي يشتغلون بها.

لماذا تخلف المسلمون وتقدم غيرهم؟ وما السبيل إلى نهضة الأمة من تخلفها الأصالة أم الحداثة؟

يحاول الفيلم الإجابة عن السؤال الذي طرحته الأمة الإسلامية على نفسها في الفترة الأخيرة من الدولة العثمانية وما زال حاضراً ومشروعاً حتى الآن، وهو: لماذا تخلف المسلمون وتقدم غيرهم؟ وما السبيل إلى نهضة الأمة من تخلفها الأصالة أم الحداثة؟

يروي الفيلم حكاية صديقين درسا في مدارس الأئمة والخطباء الدينية في تركيا، الأول (محمد) الذي مثّل شخصيته الفنان (أمين كورصي)، وهو إمام القرية المريض بالسرطان، الذي يرمز إلى مرض الأمة في تأخرها الحضاري، والثاني (أمر الله) الذي غيّر اسمه إلى (آمره)، تعبيراً عن نسيانه لجذور الدينية، خصوصاً أنه سافر إلى إنكلترا لدراسة المعلوماتية، ويرمز إلى الحداثة أو المعاصرة في مقابل الأصالة التي مثّلتها شخصية الإمام محمد المريض.

يلبي (آمره) بشعره الطويل، وقمصيه المفتوح، رغبة صديقه بالذهاب إلى القرية ليكون إماماً مؤقتاً لها، راكباً دراجة نارية ترمز إلى الحداثة، بما تمثّله من آمال براقة ومستقبل مختلف لأمة لم تواكب الركب الحضاري منذ زمن بعيد

 بعد أن يزور الإمام (محمد) صديقه المهندس (آمره) في الشركة التي أخفى عن مديرها (مارت الذي يمثل التيار العلماني) دراسته للأئمة والخطباء في المرحلة الثانوية، وتهدديه بترك العمل في حال تكرار السخرية من دراسته بعد علمه بها. يرافق (آمره) صديق الدراسة إلى المشفى للعلاج، ويشكو المريض لصديقه قلقه على القرية - بسبب اقتراب شهر رمضان - من النجار (حجي فايز الدين) المعروف بقسوته وتعصبه كما يقول الإمام (محمد)، فحجي فايز الدين يرمز إلى الأصالة والتقليد، وهو صاحب لحية كثّة وطاقية على رأسه ووجه مكفهر دائماً.

يلبي (آمره) بشعره الطويل، وقمصيه المفتوح، رغبة صديقه بالذهاب إلى القرية ليكون إماماً مؤقتاً لها، راكباً دراجة نارية ترمز إلى الحداثة، بما تمثّله من آمال براقة ومستقبل مختلف لأمة لم تواكب الركب الحضاري منذ زمن بعيد.

مثّلت القرية حالة الصراع بين الأصالة التي مثّلها (حجي فايز الدين) بتعامله الخشن مع زوجته وطفله (طارق) الذي يمثل مستقبل الأمة، وإجباره على حفظ القرآن الكريم دون فهم وتدبر، وبين الحداثة أو المعاصرة التي مثّلها (آمره) بتعليم أطفال القرية القرآن في المسجد بأسلوب ليّن، والأهم أنه أضاف الحاسوب إلى المادة الدينية، وهذا يرمز إلى مدارس الأئمة والخطباء التي تدرّس المواد العلمية الفيزياء والكيمياء والرياضيات وغيرها، إلى جانب المواد الدينية كالفقه والتفسير وعلم الكلام وغيرها.

يتجاوز طارق (ابن حجي فايز الدين) - الذي يمثل جيل المستقبل - خوفه الدائم من أبيه، ويحقق حلمه بركوب الدراجة النارية التي كان يتحسّر على ركوبها، كما هو حال أطفال القرية الذين يُركبهم الإمام (آمره) في نهاية كل درس، ولم تفلح تحذيرات أبيه في ثنيه عن قيادة الدراجة النارية ذهاباً وإياباً في ساحة القرية، لكن فرحته بالانتصار لم تستمر طويلاً حتى اصطدم بكوم قش كبير، والذي ترمز إلى حواجز وهمية تمنعه من الاستمرار، وعلى إثرها فُقد (طارق) في كوم القش، ولم يجد أهل القرية الذين تعاونوا في البحث عنه أثراً له.

شكلت حادثة فقدان طارق - المؤقتة - لدى أبيه صدمة كبيرة، وحزناً عميقاً، فما كان من (حجي فايز الدين) إلا ركوب الدراجة النارية، التي كرهها كثيراً؛ ليبحث عن ابنه طارق، ولكنه يخاف أن يرفع أقدامه عن الأرض، خشية السقوط منها، خصوصاً أنه نذر طلاق زوجته إذا نزل من الدراجة، ولم يجد طارقاً، فأصيب بهستيريا شديدة، ولم تنفع جهود أهل القرية في إيقاف بحثه عن ابنه المختفي طارق.

أخيراً، يقفز إمام القرية الحداثي (آمره) ليركب على الدراجة النارية خلف (حجي فايز الدين)، بحثاً عن طارق (المستقبل)، برمزية جميلة تدل على أن الأمة لا بد لها من أن تجمع بين الأصالة والحداثة لتلحق بركب الحضارة المعاصرة التي مثّلتها الشجرة الخضراء بجانب القرية، وقتها ستجد الأمة طريقها إلى المستقبل الذي مثّله نزول طارق من الشجرة، وعناق (آمره) مع (حجي فايز الدين) تعبيراً عن التوفيق بين الأصالة والمعاصرةـ، حينها سيكون إمام القرية (محمد) المريض بالسرطان -  الذي أُعلن عن وفاته في لحظات العناق التاريخية  بينهما– مرتاحاً في قبره، ومطمئناً على مستقبل بلاده، بعد أن حمله صديقاه معاً وعلى كتف واحد إلى مثواه الأخير.      

لا يشكل فيلم الإمام تجاوزاً جذرياً للصورة النمطية السلبية التي درجت عليها السينما التركية لرجل الدين، وخريجي الأئمة والخطباء فحسب، بل أيضاً قدم استشرافاً موفقاً لما سارت عليه تركيا في بدايات القرن الواحد العشرين – وما زالت عليه حتى الآن - في تحقيق التوازن بين الأصالة والمعاصرة، عندما وحّدت بين أصالتها الحضارية ذات الجذور الإسلامية، وبين حداثتها السياسية المعاصرة، في إطار جديد (العلمانية اللينة) التي حققت لها نجاحاً كبيراً على المستوى الداخلي، وحضوراً واسعاً على الساحة الإقليمية والدولية على المستوى الخارجي.