صراعات الخاسرين

2018.08.20 | 00:08 دمشق

+A
حجم الخط
-A

إذا قمنا بوضع جردة بالخاسرين، في الصراعات الدائرة في إقليمنا الملتهب، لوجدنا أنه ليس هناك رابحون. فالجميع قد خسروا، ويواصلون الخسارة، بشكل من الأشكال، وبدرجات متفاوتة.

خذ أولاً الحركات الشعبية الاحتجاجية التي أطلق عليها اسم ثورات الربيع العربي، تلك التي بدأت من تونس حين أشعل محمد بوعزيزي النار في جسده، ليمتد الحريق الكبير إلى بلدان كثيرة، قبل أن يتركز في خمس "جملوكيات" هي مصر وليبيا واليمن وسوريا، إضافة إلى تونس التي نجت وحدها من تحول الثورة السلمية فيها إلى صراعات مسلحة وتدخلات إقليمية ودولية، وما نتج عنهما من دمار واستعصاء الحل. هذا ما لم نعتبر "استقرار" نظام السيسي في مصر حلاً، فهو في حقيقته استقرار الخراب.

خسرت ثورات الشعوب، إذن، فكانت أكبر الخاسرين، بالنظر إلى الكلفة البشرية الباهظة التي دفعتها تلك الشعوب، وإلى روح الهزيمة التي أرادت دول قوية بثها لتكون تلك الثورات أخيرة في نوعها، ولإحكام إغلاق الأبواب أمام أي تغيير مستقبلي.

على هامش تلك الثورات ومآلاتها المأساوية، رأت مظلوميات تاريخية فرصتها لاقتحام التاريخ، أبرزها المظلومية الكردية

على هامش تلك الثورات ومآلاتها المأساوية، رأت مظلوميات تاريخية فرصتها لاقتحام التاريخ، أبرزها المظلومية الكردية التي تعود إلى بدايات القرن العشرين، لحظة تفكك الإمبراطورية العثمانية، حين نشأت دول جديدة من تركة "الرجل المريض" لم تكن كردستان واحدة منها. وفي غضون القرن الذي مضى على تلك اللحظة، فشلت الدول حديثة النشأة، سوريا والعراق والجمهورية التركية (ومعها إيران بطوريها الشاهنشاهي والإسلامي)، في استثمار تلك الفرصة التاريخية من خلال دمج كردها في هوية وطنية جامعة قائمة على المواطنة المتساوية، بل قابلت كل تعبير للكرد عن هويتهم المتمايزة بالقمع والإبادة الثقافية والسياسية والجسدية، الأمر الذي فاقم المظلومية الأصلية بدلاً من كبحها. وكما كان الأمر في بلدان الربيع العربي أن الثورة على أنظمتها أمر لا بد منه لفتح أي أفق للتقدم والتغيير، كذلك كانت الحال مع الكرد في الدول التي وضعتهم المشيئة الاستعمارية تحت سيادتها: ما لم يحدث التغيير المأمول اليوم، فهو لا بد أن يحدث في فرصة أخرى. ذلك لأنه، في الحالتين، ما كان ممكناً استمرار الوضع على ما هو عليه من انعدام العدالة والحرية إلى الأبد. فكما انهار نظام الأبد، في بلدان الربيع العربي، تحت ضربات ثورات الشعوب، كذلك انهار نظام الأبد في خرائط الإقليم التي استتبعت الكرد للأمم المجاورة.

غير أن تطلعات الكرد الاستقلالية اصطدمت، مرة أخرى، بشروط إقليمية – دولية غير مؤاتية، كحال جميع المحاولات السابقة. كان المآل الذي انتهى إليه الاستفتاء على استقلال إقليم كردستان عن الدولة المركزية في العراق، ذروة الخسارة الكردية وتسجيلاً رسمياً لها. من المحتمل أن مآل "فيدرالية شمال سوريا" التي كان حزب الاتحاد الديموقراطي قد أعلنه قبل سنوات، ثم تراجع عنه لمصلحة "إدارة ذاتية"، لن يختلف كثيراً عما حدث في كركوك العام الماضي. مع ضرورة التمييز بين الحالتين بالنظر إلى الفاعل السياسي في كل منهما. فحزب الاتحاد الديموقراطي لا يرتقي، بأي شكل من الأشكال، إلى سوية قيادة إقليم كردستان، ومن الظلم لهذه الأخيرة إقامة تماثل بينهما، سواء من حيث تبعية "الاتحاد" لحزب العمال الكردستاني في تركيا، أو من حيث ممارساته الفاشية بحق السكان حيثما أحكم سيطرته العسكرية، أو من حيث دوره الوظيفي في خدمة أجندات دول وأجهزة استخبارات. ولكن برغم كل ذلك يبقى هو ممثل الأمر الواقع لكرد سوريا، وهنا مكمن أخذه على محمل الأهمية.

الخاسر الثالث هو تيار الإخوان المسلمين الذي راهن على استثمار ثورات الشعوب للقفز إلى السلطة التي طالما اشتهاها

الخاسر الثالث هو تيار الإخوان المسلمين الذي راهن على استثمار ثورات الشعوب للقفز إلى السلطة التي طالما اشتهاها. فقد خسر حين فشل في رهانه، كما فشل حين وصل إلى السلطة في مصر (وغزة)، ثم تحول، منذ انقلاب السيسي، إلى طريدة في صيد ساحرات تقوده دول خليجية، وليست حاله بأفضل من ذلك في دول أخرى. كما خسر، في ميدانه الإسلاموي الداخلي، أمام صعود التيار السلفي الجهادي. ولنا عودة، بعد قليل، إلى سلسلة الخسارات الأخوانية، حين يأتي دور تركيا.

الخاسر الرابع هي إيران التي استثمرت موارد مادية ومعنوية وبشرية هائلة في كبح جماح الثورة السورية والحفاظ على عميلها بشار الأسد، إضافة إلى استثمارها في الانقلاب الحوثي في اليمن وحزب الله في لبنان والشيعية السياسية في العراق والبحرين. فها هي كل تلك الجهود وقد باتت مهددة بالتبدد، سواء من خلال خطف روسيا بوتين لدور الوصاية على النظام الكيماوي، وتفردها بتقرير مستقبل سوريا ككل، أو من خلال الضربات الإسرائيلية الموجعة على مواقعها في سوريا، بما في ذلك مواقع حزبها اللبناني، أو من خلال الضغوط الأميركية المندفعة نحو عزل إيران داخل حصار خانق. وها هي الاحتجاجات الشعبية داخل إيران تتواصل وتتصاعد بما ينذر بإطباق فكي الكماشة على حكم الملالي، من خارج ومن داخل.

قائمة الخاسرين المذكورة أعلاه ليست كاملة، بل تضم أبرزهم وحسب. اللافت في الأمر هو أن الصراعات الدموية المستمرة هي جميعاً بين الخاسرين أنفسهم

الخاسر الخامس هو تركيا التي استثمرت بدورها في ثورات الربيع العربي، وبخاصة في سوريا. ما الذي لم يحدث لتركيا منذ انخرطت بفاعلية في الثورة السورية، مدفوعة بحافز استعادة نفوذها العثماني في "حديقتها الخلفية" أي العالم العربي؟ فقد دفعها الخذلان الأميركي في عهد باراك أوباما إلى الانضواء تحت جناح روسيا، بعد توتر كلفها الكثير مع موسكو بسبب إسقاط الطائرة الروسية. وكانت خلاصة الضغوط الهائلة على أنقرة، من واشنطن وموسكو، أن أنقرة تخلت عن هدف إسقاط النظام، وحصرت اهتمامها  في الشمال السوري ذي الكثافة السكانية الكردية. وأثرت هذه التحولات الخارجية على وضع تركيا الداخلي، فاندفع الحكم نحو نظام سلطوي شطب على كل ما حققه من إنجازات سياسية واقتصادية في السنوات الأولى لحكم العدالة والتنمية. وصولاً إلى اللحظة الراهنة حيث نرى كيف تحولت حالة قضائية عادية (قضية القس الأميركي برونسون) إلى مفجر لتوتر غير مسبوق مع واشنطن، وما قد يترتب على ذلك من أكلاف باهظة، تتراوح بين الخضوع للإملاءات الأميركية أو الخروج من حلف الناتو!

كل التطورات السابقة أدت، أيضاً، إلى خسارة تيار الإسلام السياسي (الإخواني) في تركيا، وهو المتمثل أساساً في حزب العدالة والتنمية. صحيح أنه احتفظ بالسلطة، بعد انتخابات حزيران، لكنه تحول من حزب جماهيري له قضية، إلى "حزب الرئيس" بكل ما يحمله هذا التعبير من معانٍ. 

هل من داع لنذكر في قائمة الخاسرين، أيضاً، ما سمي بـ"الدولة الإسلامية" لصاحبها "الخليفة" أبو بكر البغدادي؟ قد يجادل البعض بالقول إن انتهاء "الدولة" جغرافياً لا يعني انتهائها كمنظمة عابرة لحدود الدول، وأنه من المحتمل أن تعود إلى الظهور والنشاط في أطر جديدة وبوسائل جديدة. لكن خسارة دولة طالبان في أفغانستان ودولة البغدادي في العراق وسوريا، على التوالي، من شأنها أن تدفع التيار الجهادي العالمي إلى الكف عن محاولاته لإقامة دول على الأرض، ولا نعرف ما يمكنه أن يفعل، في المرحلة المقبلة، غير تفجيرات إرهابية هنا وهناك، محكوم عليها بالعقم.

قائمة الخاسرين المذكورة أعلاه ليست كاملة، بل تضم أبرزهم وحسب. اللافت في الأمر هو أن الصراعات الدموية المستمرة هي جميعاً بين الخاسرين أنفسهم. وهذا سبب كافٍ لكي لا تفعل القوى الدولية القادرة شيئاً لوقفها، ما دامت هي نفسها بمنأى عن الخسارات.