شوط إضافي للأسد

2024.11.29 | 06:46 دمشق

آخر تحديث: 29.11.2024 | 06:46 دمشق

545454
+A
حجم الخط
-A

ليست المرة الأولى التي يُمنح فيها الأسد شوطاً إضافياً في مونديال السياسة، رغم أدائه المهترئ وارتكابه كل الأخطاء التي تستوجب ليس فقط طرده من ذلك الملعب ومنعه من الاقتراب منه، بل ومحاسبته أيضاً.

ورغم الجرائم التي أغرق من خلالها أرض الملعب بالدماء، فإن حكم الساحة لم يطلق صافرة النهاية بعد، ولم يتحرك حكام التماس لرفع أية راية اعتراض على عمليات التسلل المتكررة والواضحة التي يرتكبها فريق الأسد على الهواء مباشرة في اللعبة الدموية المفتوحة منذ أكثر من ثلاثة عشر عاماً.

ينتظر السوريون، ومعهم أحرار العالم، لحظة العدالة التي تأخرت كثيراً إلى درجة أوحت بأن جرائم الأسد قد طوتها التطورات المتلاحقة في المشهد السياسي العالمي. فقد استطاع الأسد حتى الآن ليس فقط الإفلات من العقاب، بل أيضاً تحويل جرائمه إلى فضائل، بحكم فساد المنظومة الدولية وتراخي الضمير العالمي وتواطئه، وتركيزه على المصالح البحتة بعيداً عن الواجب الأخلاقي والإنساني.

في الواقع، ليست هذه المرة الأولى التي يفلت فيها الأسد من العقاب. فبعد أقل من خمس سنوات على اغتصابه السلطة في سوريا، تعرض الوارث لأول محنة كادت تعصف بوجوده، وذلك بعد مشاركته في اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري في شباط 2005. دفع الأسد بدل العقاب من خلال استجابته لمطلب أميركا حينها بالخروج ذليلاً من لبنان، وكان ذلك بمنزلة عربون عمالة وقعه الأسد على بياض، ليثبت للأميركان جاهزيته لتنفيذ الأوامر ومرونته في الاستجابة لأي مطلب أميركي يبقيه في السلطة. رغم أنه تجاهل مظاهرات اللبنانيين حينها، التي استمرت لفترة طويلة مطالبة بخروج "الاحتلال السوري". لكن الأسد لا يفهم سوى لغة القوة، ولو أنه استجاب لمطالب اللبنانيين حينها، لكان ذلك نقطة بيضاء في ملفه الأسود. لكنه لا يقدم أي تنازل للشعب مهما كان محقاً، في حين لا يتردد في تقديم كل التنازلات للقوى المؤثرة مهما كانت ثقيلة وموجعة.

أفلت الأسد من العقاب فيما يتعلق بكل جرائم الحرب التي ارتكبها، وأفلت أيضاً من العقاب الجنائي فيما يتعلق بتجارة المخدرات وتصنيع وتهريب الكبتاغون.

أفلت الأسد أيضاً من العقاب مرة أخرى حين بدأ بقمع المظاهرات وقتل السوريين. وأفلت مرة ثالثة بعد المجازر الجماعية المروعة التي ارتكبها في بانياس والحولة وغيرهما من المناطق الثائرة. أفلت أيضاً من العقاب بعد استخدامه البراميل المتفجرة التي استفزت العالم حينها، بحكم بشاعة أداة الجريمة وحجمها وطريقة تنفيذها، وكذلك جريمة قتل المعتقلين تحت التعذيب، التي تم إثباتها من خلال وثائق قيصر، فضلاً عن مئات الجرائم الأخرى التي تكفي واحدة منها لجره إلى المحاكم الدولية.

وربما كان الإفلات من العقاب بعد جريمة استخدام السلاح الكيماوي هو أقسى صفعة تلقتها الإنسانية، لا سيما حين تراجعت أميركا "أوباما" عن وعيدها رغم إعلانها عن نوع العقوبة فيما لو تم ارتكاب تلك الجريمة. وذلك رغم اعتراف الأسد بجريمته من خلال القبول بتسليم السلاح الكيماوي، تماماً كما اعترف بجريمة اغتيال الحريري من خلال موافقته على الخروج من لبنان بسبب اتهامه بارتكاب تلك الجريمة.

أفلت الأسد من العقاب فيما يتعلق بكل جرائم الحرب التي ارتكبها، وأفلت أيضاً من العقاب الجنائي فيما يتعلق بتجارة المخدرات وتصنيع وتهريب الكبتاغون. بل وراح يعلن النصر على أوروبا وأميركا، وعلى شعبه، رغم كل الدمار الذي حدث في سوريا، باعتباره الناجي الوحيد من طوفان الربيع العربي الذي أغرق كل زملائه الطغاة، سواء سلماً (كما حدث في تونس ومصر)، أو حرباً (كما حدث في ليبيا واليمن). وخرج الأسد سالماً بحكم الدعم الذي تلقاه من قبل من استثمروه كعميل شديد الوفاء.

ظن الأسد أنه لاعب مميز يستطيع أن يخدع العالم، وأن يرضي القوى الدولية والإقليمية بالاستجابة الذليلة لكل مطالبهم. ذلك الذل كان البضاعة الوحيدة التي تاجر بها، وكانت بضاعة رائجة في زمن تخلت فيه القوى الكبرى عن القيم والمبادئ، حتى في حدودها الدنيا.

في ضوء التطورات الدراماتيكية والخطيرة التي شهدتها المنطقة، وتحديداً بعد اندلاع الحرب بين إسرائيل وحزب الله، ومقتل كثير من قيادات الحزب بمن فيهم الأمين العام حسن نصر الله ذاته، حوصر الأسد بقوتين لا يقدر على مواجهة إحداهما ولا الهروب منهما. أولاهما الضيف الثقيل الذي استدعاه منذ العام 2011 وطلب مساعدته في قتال السوريين، وهو حزب الله وإيران. وثانيهما إسرائيل.

ربما شكلت الأشهر الأخيرة التهديد الحقيقي للأسد. فهو هنا لا يواجه الشعب السوري، ولا يواجه خصماً ضعيفاً، ولا يمكنه التلاعب مع خصم مزعوم (إسرائيل) يعرف الأسد جيداً أنه لا يحتمل اللعب معه، ولا مع حليف سابق (إيران)، ذلك الحليف الذي تحول إلى مصدر أساسي للخطر، وإلى تهديد يقبع في قصر الرئيس نفسه بحكم سلطته الواسعة ومعرفته بتفاصيل ذلك القصر.

في هذه الفترة، عاد السوريون للحديث بلغة اليقين عن حتمية سقوط الأسد، ولم يكن ذلك الحديث مجرد أمنيات أو أحلام، بل كان مؤسساً على كل تلك الوقائع التي تكفي كل واحدة منها لتكون سبباً لذلك السقوط. فضلاً عن انكشاف الأسد أمام أتباعه بعد تخليه عن حليفيه الأساسيين "حزب الله" و"إيران"، وتخليه عن القضية الفلسطينية التي تعيّش عليها سنوات طوال، وحتى قضية الجولان التي أصبحت مجرد ذكرى عقائدية، بالإضافة إلى الأزمة الاقتصادية الخانقة التي أوصلت سوريي الداخل إلى مشارف الانفجار، بمن فيهم حاضنته التي شهدت تململاً غير مسبوق في الفترة الأخيرة، فضلاً عن الثورة المستمرة في محافظة السويداء التي يتظاهر أهلها منذ أكثر من عام. أسباب لا حصر لها أعادت فكرة رحيل الأسد إلى الواجهة.

وفي الواقع، فإن المباراة السياسية التي دخلها بشار الأسد قسراً وبالقوة كلاعب ضعيف تم فرضه في ميدان السياسة بقوة الوساطة من دون أي مؤهلات خاصة، قد انتهت منذ العام 2011. وبعد اندلاع الاحتجاجات في سوريا، كانت صرخات المحتجين ومطالبتهم بإسقاط الأسد ونظامه بمنزلة صافرة الحكم الأخيرة التي أعلنت نهاية لعبة التوريث فعلياً. إذ لم يكن نظام بشار الأسد لاعباً أساسياً في السياسة الدولية والإقليمية، ولا حتى لاعب احتياط. فقد انتهى فعلياً الدور السياسي لسوريا بمجرد دخول عملية التوريث حيز التنفيذ، لأن كل ما حرص عليه الأسد الابن وحاشيته وأجهزته الأمنية بعد استلامه الحكم في سوريا هو حماية عملية التوريث غير الدستورية وغير الشرعية. ولأن الأسد الابن كان يعي ذلك تماماً، ويعي أن وجوده تجاوز كبير، فقد حدد هدفه منذ استلامه بالحرص على حماية ذلك التجاوز وذلك الاختراق الدستوري وحماية وجوده غير الشرعي. حدد لنفسه تلك المهمة الوحيدة التي لم يفعل شيئاً غيرها خلال أربع وعشرين عاماً من اغتصاب السلطة.

كيف فشل الغرب حتى الآن في اتخاذ قرار بإدانة مجرم حرب آخر هو بشار الأسد، رغم حجم جرائمه الذي لا يقل عن ارتكابات نتنياهو؟

ومن وقتها لا يزال الأسد يلعب في الوقت المستقطع الذي فرضته القوى الداعمة له، وبالتحديد روسيا وإيران، واستطاع أن يمدد الوقت المستقطع لسنوات طويلة، وراح يتابع اللعبة الدموية وهو يقف على أرجل مستعارة، محتفظاً بمخالبه لاستخدامها ضد السوريين فقط.

الخطر الوحيد الذي كاد أن يحكم حبل المشنقة على رقبة الأسد تمثل في الاشتعال الأخير في لهيب المنطقة، والذي خاف الأسد من تطاير شرره إلى داخل قصره. غير أن اتفاق وقف إطلاق النار الذي تم توقيعه بالأمس بين إسرائيل وحزب الله أثلج صدر الأسد، ليس تعاطفاً مع الضحايا ورغبة في تجنيب اللبنانيين المزيد من الدماء، بل لأن هدوء المنطقة سيعطي الأسد فرصة جديدة للإفلات من أي خطر طائش قد يودي به. ورغم تهديدات نتنياهو للأسد عقب إعلان الهدنة، إلا أن ذلك التهديد لا يمكن أن يؤخذ على محمل الجدية، ولا يمكن أن يتم تجاهله في وقت واحد. وربما يمنح الأسد فرصة شوط إضافي جديد قد يكون الفصل النهائي في اللعبة المعقدة، فهل سيبقى الأسد قادراً على تمديد اللعب في الوقت المستقطع؟

منذ أيام، قامت محكمة العدل الدولية في لاهاي بإدانة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بجرائم ضد الإنسانية، وطالبت بالقبض عليه في حال سفره إلى أية دولة أوروبية. وأعلنت تلك الدول استعدادها لتنفيذ ذلك القرار والالتزام به، في خطوة أثارت استغراب السوريين، فقد قام الغرب أخيراً بخطوة شديدة الأهمية على طريق العدالة من خلال إدانة نتنياهو، الصديق المقرب للغرب. فكيف فشل الغرب حتى الآن في اتخاذ قرار بإدانة مجرم حرب آخر هو بشار الأسد، رغم حجم جرائمه الذي لا يقل عن ارتكابات نتنياهو، إذا لم نقل إنه أكثر؟ وهل ستكون نهاية الأسد كمجرم حرب على يد مجرم حرب آخر إن كان نتنياهو جدياً في تهديداته؟