شهيد القادسية.. حلب 2013

2020.06.10 | 00:01 دمشق

602733_217330691754934_1895406020_n.jpg
+A
حجم الخط
-A

أواسط عام 2013 أعلن نظام الأسد هزيمته رسمياً في سوريا، بعد طلبه من إيران التدخل المباشر إلى جانبه في حربه على الشعب السوري، الذي باتت كتائب ثواره تبسط سيطرتها على مساحات واسعة من البلاد، متحركة من الأطراف إلى المركز، ومجبرة النظام على التحول إلى الدفاع منكفئاً على نفسه في مناطق حصّنها، ليأتي التدخل الإيراني بداية عبر ميليشيا حزب الله اللبناني في معركة القصير على الحدود السورية اللبنانية، ثم عبر عشرات الميليشيات الشيعية الطائفية متعدّدة الجنسيات، التي استقدمَتها إيران إلى سوريا من أفغانستان وإيران والعراق ولبنان...إلخ، إنقاذاً لنظام الأسد الذي أصبح لاحقاً يعتمد بشكل كلي على هذه الميليشيات كرأس حربة في المواجهة.

 

 

صورة مرفقة - الميليشيات الشيعية المقاتلة في سوريا حتى بدايات 2016.png
(الميليشيات الشيعية المقاتلة في سوريا حتى بدايات 2016)

 

رحلة إلى الشرق 

سمح تحرير مدينة الرقة في مارس \ آذار عام 2013 بوصل المناطق المحررة شمال سوريا وشرقها، متحوِّلة إلى منطقة واحدة ممتدّة تملك حدوداً مع دولتين (العراق – تركيا)، وفّرَت لها المواد الغذائية والطبية إضافة إلى شحنات السلاح والذخائر.. أما بالنسبة لأبو يزيد فقد كان لهذا الاتصال أهمية أخرى!

فمنذ أن عاد أبو يزيد (مالك العيسى من أبناء بصرى الشام في محافظة درعا) من منطقته إلى مدينة حلب لاستكمال دراسته في كلية العمارة في أبريل \ نيسان عام 2011، بعد الإفراج عنه على خلفية اعتقاله لمشاركته في بداية مظاهرات مهد الثورة السورية، وفكرةٌ واحدة هي ما تسيطر عليه: "إسقاط النظام".

رغم ذلك تمكن أبو يزيد من التخرج من الكلية مهندساً أواخر عام 2012، ليلتحق مباشرة بالجيش السوري الحر في مدينة حلب، مع كتيبة أبو أيوب الأنصاري التي كانت تضم عدداً من زملائه من طلاب وخريجي كلية العمارة

لذلك انخرط مبكراً في الحراك الثوري في مدينة حلب، مشاركاً في معظم مظاهراتها في الأشهر الأولى للثورة، ومتعرّضاً للاعتقال غير مرة حتى بات نزيلاً دورياً لدى فروع الأمن المختلفة في المدينة، وواحداً من الأسماء التي تُستَدعى لـ "التحقيق" بعد أي حراك ثوري في الجامعة.

رغم ذلك تمكن أبو يزيد من التخرج من الكلية مهندساً أواخر عام 2012، ليلتحق مباشرة بالجيش السوري الحر في مدينة حلب، مع كتيبة أبو أيوب الأنصاري التي كانت تضم عدداً من زملائه من طلاب وخريجي كلية العمارة.

اقرأ أيضاً مقالا سابقا للكاتب "سقط الليث شهيداً.. شارع 15 في حلب

افتقد الجيش الحر في البدايات إلى كثير من طواقم الاختصاص في عدد من المجالات العسكرية، التي كانت تطلُبُها زيادة شراسة المعارك الآخذة بالتوسّع بدايات عام 2013، وهو ما دفع أبو يزيد للتفكير في تشكيل أول سرية قناصين متخصّصة في المدينة، مع ترديده الدائم مقولة "القناص نصف المعركة".

وبعد عدد من الاتصالات تمكن من إيجاد مكان لنفسه كمتدرب عند أحد القناصين المحترفين ضمن صفوف الثوار في ديرالزور، فانطلق إلى الشرق في أبريل \ نيسان عام 2013 لبدء معسكر تدريبي على جبهات المدينة الفراتية، التي كان الثوار وقوات النظام يتقاسمون السيطرة عليها آنذاك.

بدأت نداءات الإغاثة تخرج من بلدة القصير مطلع مايو \ أيار عام 2013 متحدّثة عن حشود لميليشيا حزب الله اللبناني تتحرك لتدخل سوريا للمرة الأولى باتجاه القصير، لينظِّم لواء التوحيد في الشمال مع فصائل أخرى مؤازرة انطلقَت إلى القصير جنوباً بقيادة "حجي مارع" وقائد المجلس العسكري في حلب وريفها "العقيد عبدالجبار عكيدي".

أما في الشرق فقد كان أبو يزيد -مع اقتراب انتهاء معسكره- يحاول شراء خمس بندقيات قنص بعد أن حصل من بعض معارفه على مبلغ مالي لتأسيس سرية قنص في حلب، عندما بدأَت تتوارد أخبار القصير ودخول ميليشيا الحزب إلى سوريا، فبدأ مع ثوار المنطقة التجهيز لمؤازرة تنطلق باتجاه القصير من أبناء الشرقية دون أن تكون تابعة لفصيل محدد، حيث استخدموا إذاعات المساجد آنذاك لدعوة الناس للتطوّع بالنفس والمال للمشاركة ضمن المؤازرة، وكان صوت أبو يزيد أوّل دعوة للفزعة في مدينة الميادين (أكثر مدن المحافظة سكاناً آنذاك)، عندما أعلن الفزعة من مسجد الغرب فيها منادياً: "حيّ على الجهاد".

 

 

(مالك العيسى يدعو لنصرة القصير من جامع الغرب في مدينة الميادين – أيار 2013)
 

رغم وصول مؤازرات الشمال والشرق إلى القصير وتمكنهم من دخول المدينة المحاصرة، إلا أن الحزب حسم المعركة لصالحه مستفيداً من الكثافة النارية التي وفرتها المدفعية الثقيلة وأسراب طيران نظام الأسد، لتصبح منذ ذاك الحين الميليشيات الشيعية الطائفية متعددة الجنسيات وعلى رأسها الحزب الفاعل الأبرز ضمن صفوف النظام، دافعة إلى تزايد استحضار المواجهة السنية الشيعية في الثورة السورية، التي بات كثير من ثوارها ينظرون إلى دور إيران وميليشياتها امتداداً لإمبراطورية فارس، متأثّرين بالخطاب الطائفيّ الذي كان شائعاً قبيل انطلاق الربيع العربي.

قادسيّة حلب

بعد احتلال القصير أواسط عام 2013 زجَّت إيران بميليشياتها في مناطق مختلفة على جبهات حلب، ليبدأ الثوار ثلاث معارك كبيرة بشكل متزامن على محورين أساسيين، الأول في ريف حلب الجنوبي مستهدفين قطع طريق إمداد قوات النظام إلى مدينة حلب ضمن معركة "رصّ الصفوف"، والثاني في ريف حلب الغربي على تخوم المدينة ضمن معركتين، كانت أولاهما المرحلة الخامسة من معركة "فالمغيرات صبحاً" التي أطلقها الثوار منذ أواخر عام 2012، أما الثانية فهي المعركة التي اختاروا لها اسم "معركة القادسية"، تيمّناً بالمعركة الشهيرة التي هزَمَت فيها طلائع الفتح الإسلامي في العراق جيش الفرس عام 15هـ \ 636م، في إشارة إلى تحول المواجهة إلى معركة مباشرة ضد إيران.

 

 

(بيان معركة القادسية وتحرير حي الراشدين غربي حلب – حزيران 2013)
 

شملَت جبهات معركة القادسية حي الراشدين ومنطقة البحوث العلمية إضافة إلى جبل معارة غربي حلب، وشارك في المعركة نحوٌ من 13 فصيلاً من حلب وريفها كان بينهم "تجمع فاستقم" وكتيبة أبو أيوب الأنصاري التابعة له، لتكون هذه المعركة هي المشاركة الأولى لأبو يزيد كقنّاص محترف.

أما الثانية فهي المعركة التي اختاروا لها اسم "معركة القادسية"، تيمّناً بالمعركة الشهيرة التي هزَمَت فيها طلائع الفتح الإسلامي في العراق جيش الفرس عام 15هـ \ 636م، في إشارة إلى تحول المواجهة إلى معركة مباشرة ضد إيران.

وهناك على جبهة الراشدين بعد تحرير الثوار للحي، ثم اضطرارهم للدفاع عنه أمام هجمات شرسة متلاحقة شنّتها ميليشيا حزب الله اللبناني بشكل أساسي، وفي الثالث والعشرين من شهر يوليو \ تموز، وبعد سؤاله رفاق سلاحه ممازِحاً "أين طريق الجنة؟!" يقصد خط الجبهة، توجّه "أبو يزيد" إلى إحدى مرابض القنص التي أنشأها سابقاً لرصد العدو، وضع بندقيته.. جال ببصره في الجبهة المقابلة.. ثم نظر إلى رفيقه قربه يريد أن يحدّثه.. لتخترق رصاصة قناص للعدوّ رأسه.. ويسقط "أبو يزيد" شهيداً على ثرى الشهباء قبل أن يكمل تأسيس سريّته، التي أكمل شباب الكتيبة ممّن تدربوا على يده تشكيلها.

شيّعنا أبو يزيد إلى قرية زيتان في ريف حلب الجنوبي، ودفنّاه في مقبرة شهداء الكتيبة في القرية التي انتمى إليها عدد من شبابها.. ولا أستطيع حتى اليوم نسيان ابتسامته الجميلة التي لم تفارقه حتى بعد استشهاده!

 


(الشهيد مالك العيسى أبو يزيد – تموز 2013)
 

أكمل الثوار في محيط حلب معاركهم الثلاثة مكبّدين النظام وميليشيات إيران الطائفية القذرة خسائر فادحة في الأرواح والعتاد، ومتمكِّنين من تحرير بلدة "خان العسل" الاستراتيجية على مشارف المدينة، ليصبح واضحاً لحزب الله وأقرانه أن دخولهم سوريا لن يكون نزهة كما تصوروا، وأن طريق القدس الذي أعادوا رسمه ليمر من حلب سيكلفهم كثيراً..

كثيراً جداً..