شفافيّة "أبو حَسِن".. بروباغاندا الأسد

2020.11.14 | 23:04 دمشق

unnamed.jpg
+A
حجم الخط
-A

من خلف الباب، سمع السجان أحدنا، نحن نزلاء المهجع 9 في فرع فلسطين عام 1988، يشتم حافظ الأسد. إن لم تخنّي الذاكرة كان مُطلق الشتيمة صديقنا المرحوم عبد الكريم كرديّة... سريعاً فتح الباب وعيناه تدوران وراح يسأل بذهول: "مين عم يحكي على سيادة الرئيس ولااا؟". بعد تكرار السؤال عدة مرات دون تلقي أية إجابة، أغلق الباب وغادر مسرعاً وأرسل بطلب مدير السجن عبر الصراخ عليه من القبو: "يا أبو حسِن.. يا أبو حسِن"، وكانت غرفة مدير السجن "أبو حسن" في أعلى الدرج. كان من الواضح أن السجان القادم حديثاً لقضاء خدمته العسكرية في الفرع، من بيئة مغلقة تعتبر حافظ الأسد واجب التقديس، وهو في مرتبة ومصاف الآلهة، وأقلّه من مرتبة الأئمة الأبرار، لم يكن يتوقع في جيلهِ الحالي، أن يسمع من يتجرأ على شتمه بمثل هذا الاستسهال، وكأن شتيمته جزء من لغو الكلام المعتاد للسجناء.

قطع مدير السجن عمله، ونزل مسرعاً تلبية للصراخ المتكرر، وعند وصوله كان السجان قد أعاد فتح باب المهجع. أبو حسن الذي سيُسجَن في سجن المزّة بعد سنوات بتهمة السرقة، بادَرَ وهو يتلصص بنظره داخل المهجع، بالسؤال عما يجري.. أجاب السجان الغرّ وهو يلهث وكل عضلات جسده تنتفض من جسامة الموقف: "سيدي.. سيدي.. ما يسبّو سيادة الرئيس!". المدير المزمن لسجن فرع فلسطين، الذي كان قد احتكًّ وقابل في حياته من المعارضين للسلطة أضعاف ما قابل من باقي البشر، التفت إليه بغضب وأجابه بازدراء: "ولاك، لَكَن نحنا ليش حابسينهم يا جحش؟!".

تذكرت هذه الحادثة اليوم بعد مضي اثنين وثلاثين عاماً، وأنا أستمع إلى كلمة بشار الأسد التي تم بثها مُسجّلةً أمام المشاركين في المؤتمر "الدولي" حول عودة اللاجئين السوريين، ولكم أن تتصوروا قساوة الاضطرار إلى سماعها. لم يكن الأسد غرّاً كسجان فرع فلسطين حين قال ما قاله، من أن الإرهاب هو من دمّر البنية التحتية في سوريا، متجاهلاً براميله وصواريخ السكود والقصف بالأسلحة الكيماوية ومتجاهلاً القصف اليومي لطيرانه الحربي وطيران حليفه وولي نعمته بوتين الذي طال معظم الجغرافيا السورية. الأسد كان يكذب وهو يعرف ذلك، كما نعرفه نحن والعالم أجمع بما فيهم حلفاؤه بطبيعة الحال. وحين سرّبت موسكو التعليقات الجانبية لبعض المشاركين في المؤتمر واستخفافهم بالمؤتمر وبالكذب المتداول فيه وبشعاراته، تذكرتُ مدير السجن "أبو حسن"، فلو قُيِّض له أن يجلس أمام الكاميرا، لقال ربما ما يشبه الذي قاله الأسد، ولو أني أجزم بأن "أبو حسن" أكثر حصافة من بشار حين يتعلق الأمر بالبديهيات المعلنة لعموم الناس. على الأقل لم يكن ليقول ما ذكره الأسد في إحدى المرات، دون أن يدرك إلى ماذا سيودي قوله بأن "موضوع اللاجئين في سوريا هو قضية مفتعلة، فتاريخ سوريا ولقرون مضت يخلو من أية حالة لجوء جماعية بالرغم من أن سوريا عانت عبر تاريخها الحديث والقديم من احتلالات متتالية واضطرابات مستمرة حتى نهايات ستينيّات القرن الماضي" مشيراً إلى أن وصول أبيه إلى الحكم عام 1970 قد أوقف الاضطرابات لتتحول سوريا إلى "دولة ميّتة" أريد لمواطنيها أن يتحولوا جميعاً إلى "مواطنين أموات"، ومؤكداً في الوقت ذاته، أن شيئاً في تاريخ السوريين القديم والحديث لم يحدث لهم ليجبرهم على ترك وطنهم، إلا همجية ردّه الدموي والمدمّر على مطالبتهم بأبسط حقوق البشر عام 2011.

 ولكن ماذا كان لص فرع فلسطين الشهير الذي سرق طعام ومال المعتقلين "أبو حسن" ليقول للأسد لو اجتمع به في قبو فرع فلسطين. وكما يعلم كلّ من مرّ بها من سوريين و"أشقاء عرب"، ففي أقبية المخابرات السورية تبدو الأمور والأحاديث واللغة والأفعال بالغة الوضوح، وعلى الأغلب فإنها المكان الأمثل لاكتشاف سوريا الأسد بمنتهى الشفافيّة، ودون أية تذويقات كلاميّة. "أبو حسن" لو تحدث بوضوحِ وفصاحةِ أقبية فرع فلسطين لكانَ ردَّ على كلمة الأسد، وهو يطالب بالدعم لتسهيل عودة اللاجئين السوريين من أربع جهات الأرض إلى وطنهم، بذات السؤال الذي باغتَ به ذاك السجان المسكين بعقله المُغلق والمحدود، وبذات اللهجة المستغرِبة: "لكان نحنا ليش قصفناهم وقتلناهم وهجّرناهم واعتقلناهم وموّتناهم تحت التعذيب وخنقناهم بالكيماوي يا ..... أسد؟".