شعوب مرئية وطغاة حمقى

2022.03.03 | 05:26 دمشق

thumbnail_4.jpg
+A
حجم الخط
-A

لا نعلم فعلياً إن كان الشعب الأوكراني يؤيد بأغلبيته الرئيس الحالي فولوديمير زيلينسكي، ويدعم توجهه والنخبة السياسية الحاكمة للانضمام إلى حلف الناتو، رغم أن هؤلاء جميعاً وصلوا إلى مواقعهم عبر الانتخابات الديموقراطية.

لكننا، وبحسب ما نشاهد من أفلام مصورة من هذا البلد، نعلم علم اليقين بأن الأوكرانيين مثلهم مثل كل شعوب الأرض يحبون وطنهم، ويرفضون حرباً دخلت حياتهم وبيوتهم رغماً عنهم، وفي الوقت نفسه يقاومون المحتلين، لأن هؤلاء الذي يدخلون البلاد على ظهور الدبابات وعبر قصف الطائرات، لن يكتفوا بإزالة وجوه السلطة الحالية، وتعيين عملائهم بدلاً عنها، بل سيستعبدونهم، كما فعلوا مع كل الشعوب التي سيطروا عليها خلال زمن القيصرية.

وفي الوقت نفسه، نعرف أن جزءاً كبيراً من الشعب الروسي يرفض ديكتاتورية بوتين المافيوية، وأن المعارضة السياسية في هذا البلد تعيش قمعاً مرعباً، وأن غالبية معارضي "الأوليغاركية" الحاكمة باتوا سجناء أو قتلى أو هاربين. وإذا كان لنا أن نبحث عن عدالة ما في دوافع رأس الكرملين المدعاة للحرب على أوكرانيا، أي مناصرته لمطالب جمهوريتي لوغانسك ودونيتسك الشعبيتين اللتين لا يعترف بهما أحد غيره سوى بشار الأسد، بحجة حقهما في الاستقلال، فإننا لن نبذل جهداً كي نعثر على قائمة طويلة من الممارسات الدموية للدولة الروسية في عهدها البوتيني بحق شعوب حاولت الخروج من تحت سيطرتها.

جزء كبير من الشعب الروسي يرفض ديكتاتورية بوتين المافيوية، والمعارضة السياسية في هذا البلد تعيش قمعاً مرعباً

تدوين هذه التفاصيل والمقارنات، والعودة إلى التاريخ ووقائعه، أفعال يحتاج المرء إلى القيام بها، من أجل مناقشة ومجادلة قومجيين ويسارويين سوريين وعرب يؤيدون بوتين، ويرون فيه مصححاً للتاريخ بحسب قول رأس النظام السوري. لكن وقبل أي شيء، أولئك الذين يعيشون في الماضي، ولا يرون في حاضر الشعوب وهي تتوق إلى حريتها، سوى مؤامرة، فيندفعون في تأييد الطغاة والمجرمين القتلة المحليين، ويغبطون أفعال ميليشيات إيران الطائفية، هل يستحقون الالتفات إليهم، والتعاطي مع أفكارهم البائسة بجدية؟ طالما أنهم مجرد صدى محلي لأفكار فاشية دموية، تتجول في عقول طغاة لا يرون وجوداً فعلياً لشعوبهم؟!

لكن، خارج حصن الممانعة الحصين، وبعيداً عن جنة المقاومة ذات أنهار العسل المسموم، هناك عالم مختلف، يحاول سكانهما عدم رؤيته، إذ رغم كل القمع الروسي، واستحالة القيام بنشاط سياسي مناهض للسلطة، وإلى تاريخ كتابة هذه السطور، فقد سجلت الوسائل الإعلامية، منذ انطلاق العملية العسكرية، خروج مئات التظاهرات، من سيبيريا إلى موسكو وسان بطرسبورغ وغيرهما، ترفض الحرب، وتدين خيار بوتين، وبحسب المنظمات الحقوقية فإن أكثر من 6000 شخص قد اعتقلوا من قبل القوى الأمنية، لكن هذا لا يمنع المحتجين من معاودة الكرّة، رغم معرفتهم بأنهم سيدفعون الأثمان المترتبة عليهم في مواجهة أزلام الطاغية.

لا يمكن لأي عاقل أن يعتبر الاختلال النفسي الذي يجعل الديكتاتوريين لا يرون شعوبهم، علامة على القوة والبطولة، والتاريخ يثبت فعلياً أن من يدعمون هؤلاء هم مرضى أيضاً، لا يحتاجون لدخول المصحات النفسية فقط، بل تحري أثرهم وأفعالهم في أمكنتهم، كي لا يترك المجال للأفكار الغبية والسامة أن تنتشر في عقول البسطاء ممن حولهم!

منذ انطلاق العملية العسكرية، خروج مئات التظاهرات، من سيبيريا إلى موسكو وسان بطرسبورغ وغيرهما، ترفض الحرب، وتدين خيار بوتين

هنا، وعلى هذه الأرضية، أي وجود تيار يعارض ما يجري، لا بد من رصد تحولات أو إعلانات النخب السياسية والثقافية والاقتصادية والمجتمعية عن موقفها، فالشخصيات التي تطمس نفسها ضمن الحراك المعارض، خشية الوقوع في مرمى الاستهداف الأمني، ستجد نفسها في وقت ما مضطرة لأن تعلن موقفاً صريحاً وواضحاً، وهذا ما فعلته بوقت مبكر الفنانة المسرحية إيلينا كوفالسكايا مديرة مسرح "موسكو الحكومي" و"مركز مايرخولد الثقافي"، حين استقالت من منصبها عبر منشور في فيس بوك، قالت فيه: "أصدقائي، كإشارة للاحتجاج على الغزو الروسي لأوكرانيا، سأستقيل من منصبي كمديرة لمسرح الدولة، من المستحيل أن تعمل مع قاتل وتتقاضى أجراً".

وهو أيضاً ما فعله مدير فرقة الباليه في "مسرح ستانيسلافسكي" النجم السابق لأوبرا باريس، الفرنسي، لوران إيلير، عندما أعلن عن استقالته من منصبه ومغادرته موسكو.

الأصوات والوجوه التي نسمعها، ونراها، تقول لنا إن أصحابها هم جزء من شعوب حاضرة، وستبقى، رغماً عن بقايا سلالة نيرون البائدة

وعلى وقع مثل هذه الإعلانات، يمكن توقع وجود عشرات ومئات الحالات المشابهة، لا يعلن عنها أصحابها خشية القمع والتهديد الأمني، بانتظار فرص التحرر والخروج من الحالة الجهنمية التي تعيشها النخب الروسية، وبما يذكرنا بالحالة السورية، ولا سيما في العامين 2011 و2012، حين وقف عدد غير قليل من النخب السورية، في وجه الحل الأمني الذي مضى فيه النظام، ضد التظاهرات المطالبة بإسقاطه، ما قاد البلاد إلى كارثة تعيشها منذ 11 سنة.

الأصوات والوجوه التي نسمعها، ونراها، تقول لنا إن أصحابها هم جزء من شعوب حاضرة، وستبقى، رغماً عن بقايا سلالة نيرون البائدة.