شعلة لا تنطفئ

2019.03.17 | 23:03 دمشق

+A
حجم الخط
-A

في الذكرى السنوية لثورة سوريا، سألته صحفية مستعجلة: "ماذا نقول للسوريين في الذكرى الثامنة لثورتهم؟" قال: ليتهم كتلة واحدة لنطلب أو نتوقّع منهم شيئا واحدا. هم أكثر من فريق، ولكن رغم ذلك لابد أن يتيقنوا أنه مهما اختلفت أهواؤهم فإن ثورة حقيقية قد قامت في سوريا رافضة الاستبداد ومصممة على هزيمته؛ وهذه الصرخة- مهما تعرضت لانتكاسات- لا شبيه لها إلا الطلقة التي تخرج من فوهة بندقية، ولا تعود لغرفة النار أو تتراجع، حتى تصل هدفها.

يا سيدتي، ليس فقط أهل الثورة كالقابض على الجمر لثمانٍ عجاف في التشرد والاعتقال والاغتصاب في حضرة عالمٍ أغلق الكثير من بوابات عقله وغرف ضميره- ووقِف إلى جانب هذا الشعب بحياء ومن باب رفع العتب فقط- بل إن مَن بقي تحت رحمة منظومة الاستبداد لم يكن بأحسن حال؛ فها هي تلك الذرائع من "مؤامرة كونية إلى داعش إلى الإرهاب" قد بدأت تتكشف له؛ والتي من خلالها قتل إخوتهم السوريين واعتقلهم وشردهم في أربع أصقاع الأرض. وكل ذلك لمجرد قولهم /لا/ للاستبداد. 

من هنا، على مَن ثار أن يزيد جرعة صبره قليلا؛ فمن شَرِبَ البحر، لا يغصُّ بالساقية؛ وحتماً، لن يرى أو يعيش ما رأى أو عاش في ظل الإجرام. وعلى من لا زال مضطراً أو خائفاً أو خانعاً أو قانعاً في ضفة منظومة الاستبداد أن ينظر فقط في سجل يوم واحد من حياته وما فيه من عوز وخوف وإهانة واستكانة؛ والأهم حالة العدمية في كل شيء حوله، ليعرف ما حلَّ به.

وليعرف الجانبان أن هذه المنظومة على درجة من الهشاشة والخواء والاعتمادية على احتلالين أساسيين أضحيا في حالة تنازع على الصلاحيات؛ وإن هما غابا فجأة، فنهايته محتمة بساعات

وليعرف الجانبان أن هذه المنظومة على درجة من الهشاشة والخواء والاعتمادية على احتلالين أساسيين أضحيا في حالة تنازع على الصلاحيات؛ وإن هما غابا فجأة، فنهايته محتمة بساعات. يكفي أن يرى السوري مشهد "رئيسه" في قاعدة حميميم مهانا بلا قيمة، والأرض سورية. ويكفي أن يراه مشحوناً بصحبة القاتل "قاسم سليماني" إلى آلهته في طهران، لسحبه من البراثن الروسية؛ ليقتنع أن السيادة أضحت في خبر كان، والكرامة وقيم أخرى أمور لا عهد له بها. حتى وإن استمر أيٌ من الحضورين الروسي أو الإيراني؛ فإن فاعليتهما ستضمحل لمجرد أن تأخذ العملية السياسية أبعادها الحقيقية.

مأخوذة بالخطاب "الغوبلزي" للنظام وأعوانه عن /الانتصار/، قالت الصحفية المجتهدة إنه بسيطرته على الجغرافيا وبإعادة الإعمار وعودة اللاجئين يستطيع النظام أن يعلن نصره المبين على ما سماه المؤامرة الكونية، ناسية أن هذه الأمور بالذات يستخدمهما النظام كجزء أساسي من عدة النصب المتعلقة بإعادة تأهيله؛ وكأن شيئاَ لم يكن أو حدث في سوريا. بداية الجغرافيا إنسان قبل أن تكون ترابا وحجرا؛ وهذا الإنسان لم يعد تحت السيطرة. ثانياً ليس هو من يسيطر على الجغرافيا بل أجانب ومحتلون. وبخصوص إعادة الإعمار واللاجئين، نسيت الصحفية أنه يسعى ويدفع بداعميه من أجل إعادة الإعمار فقط بطريقته ليرضي جشعه ومصالحهم في استرداد ما أنفقوا من ثمن أسلحة ورواتب عصابات وميليشيات استقدموها لذبح السوريين. فالروس يريدون استيفاء بعض الديون وأجرة طائراتهم وثلاثمئة نوع من الأسلحة جربوها على الأرض والإنسان السوري؛ وهكذا الإيرانيون الذين يقولون على الملأ الآن بأن ديونهم على دمشق يجب أن توثق قانونيا. فأي إعادة إعمار هذه التي تفسح في المجال لمن دمَّر مرة أن يعيد الكرة، متى قيل له: "لا"؟؟!!

أما عن عودة اللاجئين- والتي يركز عليها الروس خاصة؛ فهي بالنسبة لمنظومة الاستبداد عبء لا يُطاق. وإن كان "نتنياهو" يريد لفلسطينيٍّ أن يعود إلى فلسطين، يمكن أن يصدِّق أحدٌ أن نظام الأسد يريد لسوريٍّ خرج من سوريا أن يعود. لقد كان أحد ضباط الأسد صادقا وساذجاً عندما نصح السوريين بعدم العودة؛ ليدفع حياته إثر ذلك. معروف أن قلة من السوريين قد خرجوا من سوريا بمحض إرادتهم، وقلة بسبب داعشي. خرج السوريون مرعوبين، مهانين؛ وفضلوا أحياناً الموت في عرض البحر على ألا يبقوا تحت ربقة ظلم وإجرام النظام ووحشيته.

فالروس يريدون استيفاء بعض الديون وأجرة طائراتهم وثلاثمئة نوع من الأسلحة جربوها على الأرض والإنسان السوري؛ وهكذا الإيرانيون الذين يقولون على الملأ الآن بأن ديونهم على دمشق يجب أن توثق قانونيا

كثيرون بدؤوا حياة في الخارج أثبتوا فيها أنهم حالات وظواهر إنسانية ومجتمعية وثقافية واقتصادية فاعلة حيثما حلوا. باختصار ازدهرت أو تردّت حياتهم في الخارج، لا يمكن أن يعودوا، وهذا النظام موجود أو كما هو. لا زال هؤلاء يذكرون ما حلَّ بهم؛ وكذلك يذكرون عبارة رأس النظام عندما تحدث عن "مجتمع متجانس". إضافة إلى ذلك، لا ينفك المجتمع الدولي عن الحديث عن بيئة آمنة محايدة؛ وهذا ما لا يمكن لهذا النظام أن يوفره. إن مجرد وجوده هو نفي لتلك البيئة بالمطلق.

في عيدها الثامن، تستمر ثورة سوريا بتفردها؛ ما فكّر أحدٌ يوماً بإمكانية ولادتها، ولكنها وُلدت من دم ودموع ووجع يملأ المحيطات؛ وبلا معين؛ فلا ترى نورها يخبو قليلا حتى يعود ويتوهج؛ وكأنها صناعة سماوية؛ إنها شعلة لا تنطفئ، وهكذا خلق يصعب هزيمته.