شركة لافارج وأخواتها: عالَمٌ تسكنه الوحوش

2022.11.14 | 06:32 دمشق

شركة لافارج الفرنسية
+A
حجم الخط
-A

في أواخر عام 2013 وعندما كان كثيرٌ من السوريين يهجرون مدنهم وقراهم في شمالي وشرقي سوريا هرباً من تنظيم داعش كانت شركة لافارج الفرنسية للإسمنت تدفع مبالغ مالية للتنظيم تقدّر بمليون دولار شهرياً على امتداد أكثر من سنة. وبينما وصل مئات آلاف السوريين كلاجئين إلى أوروبا افتُضح أمر الشركة مؤخراً وأقرّت بدعمها المالي للتنظيم بحجّة حماية معمل الإسمنت الذي تمتلكه الشركة شمالي حلب. فقد اعترفت الشركة "بالذنب بتهمة التآمر لتقديم دعم مالي لمنظمات إرهابية أجنبية محددة في سوريا منذ أغسطس/ آب 2013 حتى أكتوبر/ تشرين الأول 2014،" كما نقل موقع الجزيرة نت.
والغريب في الموضوع أن الشركة أُجبرت بعد الإقرار بالذنب على دفع تعويضات للحكومة الأميركية بقيمة 778 مليون دولار، وكان الأجدر بهذه التعويضات أن تذهب للسوريين والعراقيين الذين تضرّر الملايين منهم بسبب هذا التواطؤ بين الرأسمالية المتوحشة و"الجهاد الاستخباري" الذي مثّله تنظيم داعش الذي لا يمتّ بجرائمه وموبقاته إلى الإسلام بصلةٍ لا من قريب ولا من بعيد.
إن شركة لافارج لم تكن الوحيدة التي اكتُشف أمرُها ويبدو أنها لن تكون الأخيرة. فالشركة نفسها مندمجةٌ مع شركةٍ سويسرية اسمها "هوسليم." وعلى الأرض في سوريا تعاونت لافارج مع شركةٍ أمنية نرويجيّة. وقد كُشف مؤخراً أن شركة إيريكسون السويدية قامت من جانبها بالدفع بالملايين أيضاً لتنظيم داعش- الفرع العراقي. كما أن الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان كشف بدوره أن شركة لافارج دعمت لوجستياً تنظيم بي كي كي المصنّف إرهابياً عن طريق المساعدة في بناء شبكات من الأنفاق استخدمها التنظيم في هجماته على الجيش السوري الحر وضدّ الجارة تركيا.  
يذكّرنا تواطؤ الشركات الغربية مع تنظيم داعش وجماعة البي كي كي بتواطئها مع نظام الأسد من قبل حيث كشفت تقارير عن بيع شركاتٍ ألمانية وبلجيكية موادّ كيميائية لنظام الأسد استخدمها في القصف الكيماوي الذي قتل آلاف السوريين وما زالت آثاره ظاهرةً على شكل تشوّهاتٍ وسرطانات انتشرت بكثرة بين السوريين بعد الحرب.  
وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن والي داعش على سوريا، وهو الملازم علي موسى الشوّاخ من الأمن العسكري التابع لنظام الأسد، هو من كان الوكيل التجاري لأعمال شركة لافارج في سوريا، وأن تنظيم بي كي كي كان وما يزال يتلقّى دعماً سخيّاً من نظام الأسد، فإن الصورة تصبح واضحة لدينا عن طبيعة تلك العلاقة التي ربطت الأضلع الثلاثة لمثلّث الشرّ في سوريا: الشركات العالمية ونظام الأسد والمنظمات الإرهابية.

الشركة أُجبرت بعد الإقرار بالذنب على دفع تعويضات للحكومة الأميركية بقيمة 778 مليون دولار، وكان الأجدر بهذه التعويضات أن تذهب للسوريين والعراقيين الذين تضرّر الملايين منهم بسبب هذا التواطؤ بين الرأسمالية المتوحشة و"الجهاد الاستخباري"

وهكذا فعندما يتشكّى اليمين الأوروبي اليوم من أن شوارع بعض المدن الأوروبية صارت تعجّ بالوجوه الغريبة من اللاجئين والهاربين والمرتحلين إلى هذه القارّة العجوز الباردة، فعليه أن يتساءل في الوقت نفسه عن اللعنة التي حلّت ببلاد هؤلاء وحملتهم إلى هذه الأصقاع النائية. ولسوف يكتشف سريعاً أن العالم صغيرٌ جداً، وأن ما يحصل في البلاد التي تصدّر اللاجئين ليس ببعيدٍ عمّا يحصل في أوروبا نفسها من تغوّل للشركات الكبرى وجشعها الذي لم يكتف بالاحتكارات والهيمنة على الأسواق والأرباح في الغرب فحسب، بل امتد تأثيرها المدمّر إلى الشرق الأوسط وإفريقيا وكل بقاع الأرض، حيث تنصّب حكاماً وتسقط آخرين، تستثمر بالفوضى، وتحتضن مافيات جهادية أو علمانية –حسب الطلب- وتعبث بمصائر ملايين البشر من أجل رفع الإيرادات التي تصبّ في جيوب حفنةٍ صغيرةٍ من الأشخاص.
كم هو محبِط أن نعلم مثلاً أن الدول الكبرى هي أيضاً مصانعُ وأسواقٌ كبرى للأسلحة التي تبيعها شركات عملاقة تنشر الموت والدمار من خلال الاستثمار في الحروب في مختلف بقاع العالم، وحيث تغيب الحروب تنشط تلك الشركات لإيجادها فهي تعيش على الفوضى، وتزدهر بالخراب. وهناك -كما هو الحال مع شركة لافارج- من يسيل لعابه مع بداية الحرب وينتظر وجبته بنهايتها، حيث يزداد الطلب على الإسمنت والمواد والخدمات اللازمة في عمليات إعادة الإعمار بعد انقضاء الكارثة.  
كم هو مرعبٌ هذا العالم الذي نعيش فيه، حيث إن ظاهره حقوق الإنسان والشعارات البرّاقة وباطنه لافارج وأخواتها من الشركات العملاقة المالكة لأسواق العالم والتي تسند -من أجل مزيدٍ من الأرباح- نُظم إبادةٍ كنظام الأسد وتوظّف -حين يقتضي الأمر- منظماتٍ إرهابية كتنظيم داعش والبي كي كي. إنه عالمٌ تسكنه الوحوش رغم كلّ ما فيه من مظاهر الحضارة والتمدّن.