شرف التضامن مع المظلومين

2022.07.29 | 07:15 دمشق

لاجئون
+A
حجم الخط
-A

أيّ شرف يحوزه القادرون من الأفراد والجماعات على التضامن مع المظلومين، وأيّة رفعة في النفسِ وسموٍّ في الأخلاق هذا الذي جبلوا عليه! تثور الأسئلة بكلّ جديّة عند مقارنة موقف الشعوب الأوروبية وحكوماتها من أزمة اللاجئين الأوكرانيين، مع موقف الشعوب العربية وحكوماتها من أزمات اللاجئين العراقيين والسوريين واليمنيين. لن نقارب مسألة تعامل الحكومات والشعوب العربية مع اللاجئين الفلسطينيين، فهذه قضيّة معقدة ولها سياقات تاريخية منفصلة عن الوضع الراهن. أمّا المقارنة بين ما حصل في الشرق الأوسط بعد ثورات الربيع العربي وما يحصل في أوكرانيا الآن فهي ممكنة بحكم تقارب الظروف بين الواقعين نوعاً ما.

أولاً، لا بدّ من إيضاح الطريقة التي تعاملت بها الحكومات الأوروبية مع أزمة اللاجئين من أوكرانيا، فعلى الرغم من كون الأخيرة ليست عضواً في الاتحاد الأوروبي، إلا أنّ مواطنيها تلقوا معاملة مميّزة بالسماح لهم بالدخول دون أي تدقيق، وللأمانة فقد شمل ذلك أيضاً حَمَلَةُ الإقامات الدائمة والمؤقتة من غير المواطنين الأوكرانيين. كذلك حصل هؤلاء جميعاً على الإقامات المؤقتة في أغلب البلدان التي انتقلوا إليها، ففي ألمانيا على سبيل المثال تم منحهم الإقامة المبدئية لعام واحد قابل للتجديد التلقائي، مع دراسة إمكانية تمديد الفترة لثلاثة أعوام. كما تم منح القادمين تسهيلات كبيرة من حيث تلقيهم معونات خاصّة بالسكن والرعاية الصحية والتعليم والإدماج المباشر في سوق العمل من الاعتراف بشهاداتهم، وتم إقرار حصولهم على المعونات الاجتماعية التي يحصل عليها العاطلون عن العمل واللاجئون دون أن يتقدموا حتى بطلبات اللجوء تلك.

ثانياً، اشتغل الإعلام بجميع مستوياته على تغطية هذه الأزمة، فتراجعت مقاربات مشاكل جائحة كورونا وانحسرت لأبعد الأولويات، وتعاظمت حالات التصعيد مع روسيا لدرجة جعلت المواطنين الأوروبيين يبدؤون عمليات التكيّف الطوعي مع تحديات الحاجة للطاقة القادمة من روسيا. فعلى سبيل المثال باشر الكثير منهم تحويل مصادر الطاقة المنزلية، التي تعتمد في غالبيتها على الغاز، بحيث تصبح على الكهرباء التي يمكن توليدها عبر الطاقة الشمسية أو عبر طاقة الرياح. وساهمت بعض الحكومات بتشجيع ذلك عبر منح إعفاءات ضريبية، وصلت في ألمانيا مثلاً إلى حدّ 40% من قيمة التكاليف بالنسبة للطاقة البديلة النظيفة والملائمة للبيئة.

ثالثاً، تفاعل الناسُ العاديون بطريقة مختلفة نوعاً ما عما رأيناه في العام 2015 عند قدوم الموجات الكبرى من البشر الشرق أوسطيين عبر تركيا. لقد كانت التهيئة النفسيّة عبر الإعلام ووسائل التواصل عاملاً مكمّلاً لتقارب الثقافات والقيم المشتركة وأساليب العيش وطرائق التفكير ما بين الأوروبيين عموماً والأوكرانيين الذين هم منهم بكل حال. لقد شعر الناسُ في أوروبا بأزمة حقيقية لم يعهدوها منذ الحرب العالمية الثانية، خاصّة وأنّ حرب تفكك يوغسلافيا السابقة بدايات التسعينيّات من القرن الماضي، كانت في جزء منها ذات أبعاد مختلطة، قوميّة ودينية، شابها بعض الغموض باعتبار مسلمي البوسنة والهرسك وكوسفو جزءاً أساسياً منها، ما منع بالتالي وجود مثل هذا التعاطف الكبير الذي نشهده الآن.

هي ليست جينات بيولوجية يتوارثها الأفرادُ من ذويهم - وإن كان هناك من يطرح فرضيات توارث الصفات الأخلاقية بين الأجيال- لكنّها بالتأكيد مورّوثات اجتماعية يكتسبها الأفراد من الأسرة والجماعات ومن المجتمع عموماً. ولا يشترط فيمن يحوزها الثراء على الصعيد الفردي، لكن لا بدّ من أن يكون المرء مكتفياً بالحد الأساسي من متطلباته مع الشعور بالقدرة على مواصلة الحياة مستقبلاً، أي الشعور بالأمان والضمان الاجتماعي والصحي على الأقل. فأغلب المتضامنين من الأفراد مع اللاجئين مثلاً هم من الأفراد ذوي الدخول المتوسطة، وقلّة هم الأثرياء الذين يشاركون بفاعلية في هذه المجالات، فليس الجميع مثل الممثلة أنجلينا جولي.

بالمقابل، نجد التعامل الرسمي والشعبي في البلدان العربية وفي تركيا مع أزمة اللاجئين قد أخذ أبعاداً خطيرة اختلفت من دولة إلى أخرى. فعلى سبيل المثال حاز السوريون الفارّون من جيش الأسد ومخابراته إلى لبنان تعاطفاً واضحاً من أهالي طرابلس، بينما كان التعامل الرسمي على صعيد الحكومة المركزية وعلى صعيد البلديات في أغلب مناطق لبنان الأخرى، سلبياً متّصفاً بكثير من العنصرية والتمييز العقابي. وفي تركيا بدأت الأجواء الشعبيّة تتغيّر من حالة التعاطف الكبيرة إلى حالة الريبة ثمّ الانزعاج وحتى في بعض الأحيان العداء، تجاوباً مع حالات الاستثمار السياسي من قبل الأحزاب الحاكمة وأحزاب المعارضة على حدّ سواء. بينما كانت البيئة الشعبيّة والرسمية نوعاً ما أكثر إيجابيّة في كلٍّ من المملكة الأردنية الهاشمية وجمهورية مصر العربية. وفي هذا المقام، لا يمكن بالطّبع إغفال الوضع في دول الخليج العربي، فباستثناء قطر، التي سنّت تشريعات خاصّة بقضايا اللجوء قبل عامين تقريباً، والتي عاملت السوريين معاملة متميّزة، وصلت حدّ تسليم المعارضين منهم سفارة سوريا في الدوحة، لا نجد أيّة دولة أخرى تميّز تعاملها مع أزمة اللاجئين العرب والأفغان بما يتوافق وقواعد القانون الدولي وقواعد الشرعة الدولية لحقوق الإنسان، بل على العكس نجد الكثير منها تشددت مع المقيمين على أراضيها، بحيث منعت عليهم استقدام عائلاتهم أو بعض أفرادها مثل الزوجة والأولاد، وهي حالات تضييق لا يمكن مقاربتها في هذه العجالة للوقوف على أسبابها الحقيقية بشكل مُنصف.

تثور هذه الأسئلة كلّ يومٍ باحثة عن إجابات شافية، فحرق مخيم اللاجئين السوريين في عكّار بلبنان قبل أيام، وما يتعرّضون له في تركيا من ضغوطات متزايدة، طالت العديد من الأجانب تحت ذريعة الاشتباه بأنهم سوريون، مثل الصحفي الإسباني لويس ميغيل هورتادو، وغيرها الكثير من الأفعال وردودها تعطي مؤشرات عن أسباب الاختلاف الواجب أخذها بالحسبان عند المقارنة.

العامل الحاسم برأينا هو البنية القانونية والسياسية المتطورة في أوروبا، وخاصّة في القسم الغربي منها، بالمقارنة مع البنية الهشّة في بلدان الشرق الأوسط، وهي التي لعبت دوراً حاسماً في الضبط المجتمعي والتعامل الشعبي مع هذه القضايا. ما كانت البنية القانونية والسياسية لتسمح هنا بتحوّل الخطاب السياسي إلى خطاب عنصري، رغم التنافس الحزبي الشديد الذي أفرز نموّاً ملحوظاً لليمين المتطرّف في عموم أوروبا. ولعلّ الحرب الروسية على أوكرانيا قد ساهمت بشكل مباشر في كسر هذا التصاعد اليميني المتطرّف، وهي مقاربة أخرى بحاجة لمقال آخر يتناسب والمقام المذكور. وبكلّ الأحوال، يبقى العامل الإنساني المشترك في كلتا الساحتين، الأوروبية والشرق أوسطية، عاملاً مشتركاً يحدد ويقيس ما لا يخضع لمثل هذه الموازين، ألا وهو شرف التضامن مع المظلومين.