شخصيات قلقة وشخصيات مقلقة في الإسلام

2020.04.10 | 00:07 دمشق

23523685_1.jpg
+A
حجم الخط
-A

كتب عبد الرحمن بدوي في الأربعينيات من القرن الماضي كتاب (شخصيات قلقة في الإسلام)، ودرس فيه الصحابي سلمان الفارسي والبواكير الروحية للإسلام، وترجم دراستين لماسنيون الأولى حول حياة الحلاج الشهيد الصوفي في الإسلام، والثانية حول حادثة المباهلة النبوية مع وفد نصارى نجران، وأردفهما بترجمة دراسة هنري كوربان المعنونة بـ السهروردي الحلبي مؤسس المذهب الإشراقي، إضافة إلى إيراده رسالة (أصوات أجنحة جبريل) بنصها العربي، وترجم الشروحات الفارسية التي وضعها عليها المستشرقان كراوس وكوربان.

وعلى غرار هذا العنوان كتب هادي العلوي: (شخصيات غير قلقة في الإسلام)، تناول فيه خمس عشرة شخصية هم: سلمان الفارسي، وعامر العنبري، والفرزدق، والحسين، وشبيب الخارجي، وزيد، والحارث بن سريج، وصاحب الزنج، ويزيد الناقص، وأبو حنيفة، وبشار بن برد، والنظّام، والرازي، وصلاح الدين الأيوبي، وعمر بن عبد العزيز. غير أننا لا نجد في هذه الأسماء خيطاً مشتركاً بينها، سوى أنّ المؤلف درسها وتحدث عنها لسبب من الأسباب، ثم ارتأى أن يجمعها في كتاب، وأن يختار له عنواناً يناكف فيه عنوان كتاب سابق مشهور مميّز جذّاب.

ولكن هذا العنوان بحد ذاته يثير فينا التفكير في سمات الشخصيات المؤثرة في تاريخنا الإسلامي، وفي كيفية فهمنا إياها، وتلقينا لها، وتعاملنا معها، واستفادتنا منها. وقد قرأت مرةً عبارة تقول: "قد يكون مستقبل الماضي أكثر أهمية من مستقبل الحاضر". وهذا يعني أن دراستنا لشخصياتنا التاريخية الماضية لها أهمية كبيرة وفاعلية عظيمة ونحن نتلمس خطانا نحو الحاضر ومستقبله! وقد يكون في هذا الكلام شيء من التكرار القريب من الابتذال، ولكنه التكرار الذي يفرض نفسه فتضطر لإيراده والارتكاز عليه.

وبالعودة إلى العنوان المثير (شخصيات قلقة في الإسلام) أرى أن من المجدي أيضاً أن ندرس ونتناول (شخصيات مقلقة في الإسلام)، فكلا هذين النوعين من الشخصيات يقدمان إثارات وتحفيزات وأفكاراً وتجارب وخبرات تشكل خزّاناً هائلاً يمكن أن ننهل منه ونحن ننشد التطور والارتقاء والاغتناء، وكأن مولانا جلال الدين الرومي كان يعنيهم حين قال: "وحدهم التائهون من يدلوننا". والتائهون هم القلقون المقلقون. ومما لا شك فيه أنّ مكتبتنا العربية تزخر بهذه الكتب والمؤلفات التي تتناول مثل هذه الشخصيات سواء مما أُلف بها مباشرة، أو ما تُرجم إليها من نتاج المستشرقين والباحثين والأكاديميين الغربيين، ولكن ما زال في القوس منزع وفي الاكتشاف مطمع، ويمكنني هنا أن أشير مجرد إشارة إلى كتاب دومينيك أوروفوا (المفكرون الأحرار في الإسلام) بترجمته السلسة المريحة للدكتور جمال شحيّد، الذي درس فيه: ابن المقفع، وحنين ابن إسحاق وأبو بكر الرازي وأبو العلاء المعري.

هل في تراثنا شخصيات لم يسمع بها حتى كبار مثقفينا تنتظر من يكشف عنها؟ شخصيات لم تسكت حين صمت الآخرون

وعلى خلاف تصنيف علم النفس الشهير لأنماط الشخصية يمكننا هنا أن نتحدث عن شخصيات تراثنا الإسلامي المتنوعة: الشخصية الصراطية، والشخصية المستقلة، والشخصية المتمردة، والشخصية الانعتاقية، والشخصية الملتبسة، وهذه الشخصيات بمجموعها تكشف عن الطاقات الخاصة بالثقافة الإسلامية التي قد تكون أكثر غنىً مما نظن ونتصور.

وأود أن أشير، على سبيل الاستئناس، إلى تجربة أديب اللغة الألمانية شتيفان زفايغ، أحد أبرز كتّاب السيّر الذاتية على الإطلاق في كتابه (عنف الديكتاتورية) الذي درس فيه حياة سبستيان كاستيلو ذلك المناضل الذي أدان الطغيان، وعارض وناضل ضد حكم إعدام الطبيب واللاهوتي ميغيل سيرفيت (مايكل سيرفيتوس) الذي أطلقه بحقه زعيم الطائفة الكالفينية ومؤسسها كالفن الحاكم الفعلي لمدينة جنيف، وكان "ميغيل سيرفيت طالب بإلغاء النظرية الخاطئة بشأن الثالوث الأقدس في الكنيسة الإنجيلية، وأعلن أنّ مجمّع نيقيا ملغىً، وأنّ نظرية الأقانيم الثلاثة تتناقض مع وحدة الذات الإلهية"، فحوكم بناءً على هذه الآراء وأُعدم حرقاً. وهنا وقف سبستيان كاستيلو وحيداً ضد كالفن، و"استلّ ريشته كرمح، وخاض بها النزاع الخطير"، وأدان طغيان كالفن، و"كان كالبرغشة ضد الفيل".

عاش كاستيلو في ظل الفقر، وفي ضيق دائم، ولكن في حرية دائمة أيضاً، كونه لم يرتبط بحزب، ولا تواطأ مع فكر متعصب، غير أنّه خرج من حياته الوادعة إثر إعدام سيرفيت، ولبّى نداء ضميره الملحّ بقوة، واتهم أعظم رجل في دولته، باسم حقوق الإنسان المنتهكة، بأنه قاتل تتقاطر يده بالدماء، وكتب كتابه (هل يجب اضطهاد الزنادقة)؟ واستشهد بكلام القديسين وآباء الكنيسة بدءاً من القديس أوغسطين، وانتهاءً بكلام كالفن نفسه الذي كان يقدّمه في الدفاع عن نفسه حين كانت الكنيسة الكاثوليكية تتهمه بالهرطقة والزندقة، وبيّن بكل اقتدار أنّ مصطلح (زنديق) نسبيٌ بل مشحون بالنسبية، وجادل وخاصم وأثبت أنّه لا يحق لأحد أن يوجّه أو يسيطر على فكر شخص آخر، وأنّه يجب على السلطات ألا تهتم وألا تتدخل في شؤون الرأي. لقد وقف ضد العنف الذي لا يتراجع أمام أي شيء، والذي يستهزئ بالإنسانية بوصفها

ضعفاً، ولكنّ هذا الدفاع خلق له الأعداء الذين تربصوا للفتك به، فهرب وتخفى، ولما لم يتمكنوا منه نبشوا قبره بعد وفاته وأحرقوا جثته ونثروا رمادها. كان كاستيلو استثناءً في عالم الإنسانيين، الذين "حتى عندما يدركون الحقيقة لا يتجاسرون على الكفاح من أجلها، كأنما قرّر القدر دائماً هكذا: العارفون ليسوا فاعلين، والفاعلون ليسوا عارفين". ويحدثنا تزفايغ أنّ مدينة جنيف بعد قرنين كاملين من الزمان بعد ديكتاتورية كالفن لم تعد تفرز رسّاماً واحداً، أو موسيقياً واحداً، أو فنّاناً واحداً، ذا صيت عالمي، وفي النهاية حين وُلد في هذه المدينة أديب غدت حياته كلها ثورة فريدة ضد اغتصاب الشخصية، ولم تتحرّر جنيف من كالفن تماماً إلا بظهور مواطنها الأكثر استقلالية بين الرجال: جان جاك روسو.

ما يهمني من هذا المثال الطويل هو الشكر الذي قدمه روائي ألمانيا وأحد كبار مثقفيها توماس مان لتزفايغ بعد قراءته كتاب (عنف الديكتاتورية)، حيث قال له: إنّك عرّفتنا على شخصية (يقصد كاستيلو) كنّا نجهلها، ونجهل فكرها وسموّها ونضالها. لقد استطاع تزفايغ بمشرطه الرهيف أن يكشط الطبقات التي احتجبت تحتها صورة كاستيلو، فضاعت في غياهب النسيان، ونجح في أن يعيدها إلى الحياة بوصفها أنموذجاً لمستقبل الماضي وهو يناجز الديكتاتورية ويقارعها بالكلمة والفكر والجرأة والمضاء والعناد مبرهناً أن البرغشة يمكن أن تدمي مقلة الأسد، وقدّم ذلك في أعز اللحظات حرجاً، لحظات مشبعة بغاز الديكتاتورية الثقيل الذي كان يخنق كل شيء.

ونتساءل الآن: هل في تراثنا شخصيات لم يسمع بها حتى كبار مثقفينا تنتظر من يكشف عنها؟ شخصيات لم تسكت حين صمت الآخرون، بل تكلمت وتقدّمت وكافحت ونافحت؟ شخصيات قلقة؟ ومقلقة؟ تضطرم سرائرها وأفكارها؟ وتستعصي على التصنيف!

لن أقدّم كشّافاً بأسماء شخصيات تراثية أقترحها، ولكنني أدعو لإعادة التفتيش والغوص في هذا التاريخ، ومن حسن حظنا أننا نمتلك مكتبة في الحوليات وفي طبقات الرجال هي من أغنى مكتبات العالم. مكتبة سوف نجد فيها شخصيات تمتلك كل مقومات الإلهام ما زالت مندثرة مجهولة غير معروفة، شخصيات قلقت وأقلقت، شخصيات لا تنتظر سوى البحث المتقصي ومشرط رهيف يكشط عنها الطبقات، ثم يهصرها ويعجنها، من دون أن يقدّم تنازلات لصالح تقنيات الأسطرة، ويقدّمها في النهاية نافذةً نتنسم منها عبق الدعم وشذى الفهم، ونرى من خلالها فتنة الإبداء وبهجة الاكتشاف.