شارع النصر السوري

2022.12.03 | 05:59 دمشق

شارع النصر السوري
+A
حجم الخط
-A

أقبلت عشرات النسوة على الرجل "الملتحي"، ذي الثياب الرثّة والروائح الحادّة، الخارج من كهف سجن مظلم ينتهي في شارع النصر، قبل مدخل سوق الحميدية.
حين صرْن في مرمى صوته، رفعْن أيديهنّ بصور لوجوه غائبة، يحملن سؤالاً يتيماً: هل تعرفه؟ هل رأيته؟ هل مرّ معك؟

نسي أبجدية، عذّب أهله ومعلّميه كثيراً حتى أتقنها. مالت رقبته يميناً ويساراً، تحدّق عيناه في وجوه مفجوعة، تمنّى لو منحه الإله ذاكرة أسطورية تستطيع أن تزرع الفرح في قلوب النسوةِ، الأمهات.

رجل أربعيني، كان يراقب المشهد من بعيد، تقدم إليه، دسّ في جيبه نقوداً، ثم مضى بسرعة خاطفة. قادت الأربعيني قدماه إلى مقهى زهرة دمشق في المرجة، قصّ ما رآه على الحضور، وقبل أن ينهي حكايته، تجمع حوله رجال كثيرون تحمل وجوههم تقاسيم الجغرافية السورية، يخرجون صوراً من جيوبهم، وموبايلاتهم لمفقودين سوريين آخرين، يسألونه سؤالاً واحداً: هل يشبه "بطل شارع النصر" أيّ صورة من هذه الصور؟

شمال اللجوء/ جنوب الحروب

مرت سفينة ضخمة جداً، قرب مركب، التفّت فيه وجوه تحمل طفولتها هرباً من الحرب، ارتفعت الأمواج كثيراً، يكاد المركب أن يقع. تذكرَ الأطفال تعليمات أمهاتهم، فأشعلوا أَضواء يحملونها، لعل منقذاً يراهم.

فرح كابتن السفينة المحملة بالنفط القادم من الشرق، بتلك الأضواء القادمة من المركب، معتقداً أنه أضخم قنديل بحر يراه. يحبُّ أطفاله قنديل البحر، اقترب منه ليلتقط صوراً واضحة، وارتفعت الأمواج إلى أن اختفت الأضواء في أعماق البحر، وغاب المركب.

حين جلسوا في بطون الأسماك، أطلوا على عالم البحار، أعجبهم كثيراً، تمنوا لو يستقرون به، لكن لا بد من الخروج إلى عالم اليابسة ليقدموا "لمّ شمل" لأُسَرٍ تأكلها الحرب.

التفّتْ الأسماك حول وجوه الأطفال، ففرحوا كثيراً بها، يبدو أن أمانيهم في اليابسة ستنجز في البحر، وقبل أن يطلبوا من الأسماك التي التفت حولهم أن تأخذهم في جولة نحو بحار العالم، تذكروا أُسَراً، كأنهم يعرفونها، هناك في الجنوب باعت كل ما تملك ليقدموا لجوءا لها، في إحدى دول الشمال.

التلفزيونات والصحف في الشرق والغرب تتحدث عن رحلة للأطفال غرقت في البحر الأبيض المتوسط، تحول أطفالها إلى وجبة مفضلة للسمك، الأطفال لم يصدقوا ذلك، يحلمون وهم نائمون في بطون السمك بأن يقدموا "لم شمل" لآباء وأمهات؛ أعطت كل ما تملك لمهرِّب وعدهم بإيصال أولادهم إلى الشمال الجميل.

إذا الأحجارُ تحدّثتْ

تبادلتْ الأحجارُ المتناثرةُ النظراتِ قائلة: ما أكثرنا! يمكنُ أنْ نبنيْ الكثيرَ من البيوت المتهدّمة، فالأشجارُ، التي قطعوها ليستْ أفضلَ منا، ها هي تتبرعمُ ثانيةً. بدأتْ الأحجار ببناء بيوت كثيرة آوتْ مُشَرّدي الحرب.

نظرَ الديكتاتور، عبرَ الأقمار الصناعية، إلى خريطةِ بلادٍ يجلسُ على عرشها، قارنَ بين البيوت المهدّمة الكثيرة، والبيوت المسكونة القليلة، فهزّ رأسَه نشوةً.

أفسدَ مُعاونوه فرحَه حينَ أخبروه أنَّ عدداً كبيراً من الأحجارِ تمشي نحو أخواتها، فأعطى الأوامرَ بسحقِها مرة أخرى، حتى تصبحَ غُباراً.

تحوَّلتْ الأحجارُ المقصوفةُ بالبراميل إلى ذرّات رمال، تطيرُ في الفضاء، وتهمسُ: ما أحلانا حينَ نعودُ أحجاراً، ها هو العشبُ الذي حَرَقوه يَخْضرّ مرَّةً أخرى!

أشباح

في بلدٍ اسمه سوريا، الموتى أكثر من الأحياء، جاع رجلُ الحاجز، فتذكَّر تحذيراتِ قائده (لا تقبلوا أيَّ طعام من عابري الطريق الذين سيقفون على الحواجز، ربما يثأرُ أحدُهم لمن قتلتموهم بِطعام مُسَمّم).

ألفةُ وجهِها، ولطفُها، وطريقة التهامها للسندويشة، وجوعُه دفعتْه  لقبول أن يأخذ بقية سندويشتها من يدها، قبلَ أنْ تعبرَ الحاجز.

انهمكَ في التهام بقية سندويشتها، لكن وجهها كان يلحُّ على ذاكرته، فصرخَ: نعم، تذكرتها، كانت بجانبه يوم قتلتُ ذلك الإرهابي، ربما يكونُ أخوها، أو زوجها!

أُسْعِفَ رجل الحاجز الواقف على الحاجز بسبب مَغْصٍ شديد في بطنه، وكان يتقيَّأ، ويصرخ: سَمَّمتني، سممتني، أنا متأكد أنها سممتني انتقاماً لأخيها.

في المشفى بيَّنتْ التحليلات، وأكَّد الأطباء أنْ لا سُمَّ في بطنه أو دمه.

لكن الألم كان يعتصر بطن رجل الحاجز، وهو يصرخُ بثقة، وأشباح ضحاياه تحومُ أمامه: سَمَّموني، سَمَّموني، سأموت بعد قليل!

شباكُه وشباكُها

صَارا وجهاً لوجه، بعدَ أنْ أزالتْ الحربُ البيوتَ التي كانتْ تقف بين الشبَّاكين، وتمنعُ العاشقيْن من رؤية بعضهما.

شباكُه وشباكُها، اليومَ كذلكَ ناما وحِيْدَيْن، وَجهاً لوجه، بعدَ أن انتظرا، طويلاً، خروجَ الحبيبين من تحت ركام البناء الذي قصفته البراميل المتفجرة.

إعادة إعمار

انفض الاجتماع، بسرعة غير متوقعة، بعد أن هدد رجل الأعمال (الكبير) بتخفيض نسبة القائد العسكري من إعادة إعمار جنوب العاصمة إذا تأخر بإخلاء المنطقة وطرد من بقي فيها.

انعقد اجتماع آخر برئاسة القائد العسكري تعهد فيه القادة الميدانيون بتنفيذ أوامره بعد أن أطلق أيديهم بغنائم الحرب.

انفض الاجتماع الإعلامي بسرعة بعد أن أخذ المديرون تعليمات خاصة بالتركيز على الأهمية الكبيرة لإعادة الإعمار في تنمية المنطقة.

انفض الاجتماع بين مسؤول الرعاية الاجتماعية والقائد العسكري ورجل الأعمال الكبير حول آلية توزيع المساعدات القادمة من الخارج وتقرر أن توكل المهمة لرجل الأعمال بحماية القائد العسكري.

قدم ممثل المانحين الشكر لمسؤول الرعاية الاجتماعية بعد أن تأكد من دقة البيانات ومهارة التوزيع.

وقف الرجل يبكي أمام بيته حين جرفت الجرافات كل ما بقي من ذكرياته مع أنهم وعدوه بتعويض مجز. ولايزال الرجل، منذ شهور، واقفاً أمام بقايا بيته ينتظر.