سياسة الإذلال.. منهجية عائلة الأسد في فرض سلطتها

2022.04.05 | 06:14 دمشق

bsam_ywsf.jpg
+A
حجم الخط
-A

ليس الإذلال فقط هو فعل يمارسه شخص يمتلك القوة بحق شخص آخر عاجز عن مقاومة فعل إذلاله، بل هو فعل قد تمارسه مجموعات بحق مجموعات أخرى، وقد تعتمده أنظمة بحق شعوبها بهدف إحكام سيطرتها على هذه الشعوب، وبهدف خلق شعور عام بالعار والهزيمة عند المذَلّين، الأمر الذي يزيد من خضوعهم، ويزيد من شعورهم بالعجز، فيستسلمون لمغتصب حقوقهم.

منذ أن أحكم حافظ الأسد قبضته على مراكز القوة العسكرية والأمنية في سوريا، توجه لإحكام سيطرته على المجتمع والدولة عبر سياسة إذلال ممنهجة، ومهّدَ لهذه السياسة بإفساد الدولة أولاً، ثم بتعميم الفساد ليصبح قانوناً رئيسياً في علاقة المواطن بالدولة، ثم في علاقة أفراد المجتمع فيما بينهم، وعبر تعميم الفساد، استطاع حافظ الأسد أن يذل الطبقة التي تحيط به، والتي راحت بدورها تذل من هم دونها، لتصبح سوريا بعد عقود من حكم آل الأسد هرماً من شبكات فساد، تمارس الإذلال بوحشية من رأس الهرم باتجاه قاعدته.

تتعدد أوجه الإذلال التي أنتجتها سلطة آل الأسد بحق الفرد السوري، وعبر سنوات طويلة تمدّدت أذرع ومجالات هذه السياسة، حتى شملت كل السوريين، فهي لم تعد تمارس بحق المختلف، أو بحق من يكسر المعايير التي وضعتها السلطة لعلاقتها بالشعب فقط، بل أصبحت تطول الجميع دون استثناء، وتطول مختلف أوجه نشاطاتهم وتفاصيل حياتهم، ويُمكن القول إن التفاصيل اليومية للمواطن السوري، غدت سلسلة من الإذلال اليومي المتواصل.

في جوهر أسباب الثورة التي قام بها السوريون ضد حكم عائلة الأسد، كان رفضهم لتفاصيل هذا الإذلال العلني اليومي البشع،  الذي فاض في كل تفاصيل حياتهم، ولم يكن هذا الرفض متجسّداً بمقولات سياسية ناجزة، أو بمفاهيم حول الدولة والحرية والمواطنة، ولهذا (ولأسباب أخرى طبعاً)، بدت الثورة بلا ملامح سياسية واضحة، وبلا برامج واضحة، فهي ثورة غضب عارم، تُعبّر عن رفضها العميق لهذا الإذلال، والذي أصبح وافراً كالهواء. 

ربما هذا يفسر إلى حد ما عدم رفض السوريين الذهاب إلى العنف في مواجهة السلطة. مع التأكيد أن عنف السلطة هو المولد الرئيسي للعنف المقابل، إلا أن منهجية الإذلال بتاريخها الطويل وحضورها العميق في ذاكرة ووجدان السوريين، دفعهم لقبول مبدأ الرد على العنف بالعنف بسهولة، إذ يكتسب الردُّ هنا وجهاً آخر، غير وجهه السياسي المتعارف عليه في علاقة المواطن بالدولة والسلطة، وهو الوجه المتعلق بإعادة الاعتبار للذات المذَلَّة، وإعادة علاقتها بقيمها، وثقافتها التي طالها الإذلال أيضاً.

قد يكون من الصعوبة قياس رد فعل المذَّل بالمقاييس التي تعتمد في الصراعات السياسية التقليدية، فالأمر هنا يكتسب أبعاداً أخرى، تجعل من قراءة الحدث على ضوء أدوات الصراع السياسي التقليدية قراءة قاصرة، ومتجنية، وربما تقود لاستنتاجات خاطئة أيضاً، لكن الأخطر في تفجّر الصراع الذي يحضر فيه الإذلال كسبب من أسبابه هو غياب ضوابطه، وغياب القدرة على تحديد أطرافه الأساسية، وهذا ما يجعل من معركته معركة بالغة القسوة ومتعددة الجبهات، وغالباً ما تفضي معركة كهذه إلى دمار شامل، يطول كل البنى الأساسية في المجتمع والدولة.

الوجه الأكثر حضوراً اليوم في مشهد الإذلال الأسدي للشعب السوري، يُرى بوضوح صفيق في علاقة هذه السلطة المستبدة بالمتبقي من الشعب السوري في مناطق سيطرته، إذلال شديد الحضور في كل التفاصيل اليومية لحياة هؤلاء السوريين.

ثمة أمر آخر أيضاً لا يقل أهمية، وهو أن ما تنتهي إليه المعارك التي تحضر فيها العوامل الذاتية، كالإذلال والمهانة والتحقير، قد لا يكون إيجابياً على صعيد بنية الدولة، وصيغتها، أو على صعيد الاستبداد، أو في حقوق الفرد والمواطنة وغير ذلك من أساسيات الدولة الحديثة، لا بل قد تفضي إلى استبداد أشد قسوة، وقد تنحفر عميقا في بنية المجتمع، وفي اتساع الصدوع الاجتماعية على تنوعها، وفي تشظي المجتمع إلى حالات تصبح فيها استعادة ما تمزق من النسيج الاجتماعي، أمراً بالغ الصعوبة.

بالتأكيد تختلف تفاصيل وأوجه هذه الصراعات التي -كما ذكرنا- تحضر فيها أوجه الإذلال والمهانة بين مجتمع وآخر، وهذا يتعلق إلى حد كبير بوجود الأحزاب السياسية ومدى قوتها وقدرتها على حصر الصراع في حقله الأساسي، ويتعلق أيضاً بتركيبة المجتمع، ومدى حضور تصنيفاته وهوياته الفرعية، وأخيراً بمدى اختزان الذاكرة الجمعية لسردية الإذلال، ومدى تراكب هذا الإذلال مع ما يُشكّل للأفراد مقدساتهم التي لا يجوز الاقتراب منها، مقدسات تتعلق بذات الفرد وطائفته، ودينه، وقوميته وعائلته.. إلخ.

غالباً ما يشكل البعد الشخصي، وسيرة الإذلال الشخصية العامل المستتر، أو الحاضر غير المعلن، لكن البالغ الفعالية، في معظم حوارات السوريين الذين يتحاورون في حقل السياسة العام، وغالبا ما يتم تحميله على الجهة التي قامت به مباشرة، دون ردّه إلى منبعه الأساسي، ودون تدقيق الوظيفة المراد له أن يقوم بها، الأمر الذي يخرج معظم هذه الحوارات عن مسارها الأساسي، ويحدّ من قدرتها على ترتيب أولويات الصراع، وكيفية خوضه، وبالتالي نتائجه، وغالبا ما يغيّب هذا الحوار طرفي المعادلة الجوهرية للصراع (شعب/استبداد)، ويستبدلها بمعادلات ثانوية، ومن المهم الإشارة هنا إلى أن البعد الشخصي يشمل الطائفة أو القومية أو الدين.. إلخ.  

الوجه الأكثر حضوراً اليوم في مشهد الإذلال الأسدي للشعب السوري، يُرى بوضوح صفيق في علاقة هذه السلطة المستبدة بالمتبقي من الشعب السوري في مناطق سيطرته، إذلال شديد الحضور في كل التفاصيل اليومية لحياة هؤلاء السوريين، وهو لا يقتصر على انعدام الحد الأدنى من متطلبات حياتهم، سواء الغذائية أو الصحية، أو الخدمية، بل يتجلى في سلسلة الإجراءات المذلّة التي تلجأ لها السلطة الأسدية، لنهب ماتبقى من ممتلكاتهم، وفي القوانين التي يصدرها رأس هذه السلطة حول بيع ممتلكاتهم، وفي القوانين التي تسمح بسجنهم لسنوات طويلة لمجرد إبداء الرأي، وفي إرغامهم على الدفاع عنه، وعن مصلحته كطاغية سواء في سوريا أو خارجها، وفي نهب القسم الأكبر من المساعدات التي تصلهم، سواء من أشخاص أو من جهات دولية.

إذا كان من ثاروا في وجه العائلة الأسدية قد ربحوا معركة رد الاعتبار لكرامتهم التي أهدرها آل الأسد طوال عقود، فهل تنفجر معركة الكرامة مجدداً في المناطق التي تذلّها السلطة الأسدية في كل أوجه حياتها؟