سياسة إسرائلية مختلفة فى سوريا

2019.01.25 | 23:01 دمشق

+A
حجم الخط
-A

بدت غارات الاحتلال الإسرائيلي ضد أهداف تابعة للاحتلال الإيراني الأحد الماضي في سوريا مختلفة في الشكل والمضمون. فقد شهدنا لأول مرة غارة في وضح النهار، ثم غارة أخرى ليلاً في سابقة لم تحدث من قبل، ما أثار أسئلة عديدة عن أسباب هذا التحول في السياسة الإسرائيلية وعلاقته بالمستجدات الأخيرة في إسرائيل نفسها، أو في سوريا تحديداً، إن فيما يتعلق بالانسحاب الأمريكي أو ما يوصف بالتموضع الإيراني –الاستراتيجي - والموقف الروسي المتناقض بين التأييد للضربات الإسرائيلية من جهة، والشعور بالإهانة من جهة أخرى، كونها تخدش وتنال من هيبة الاحتلال الروسي في سوريا.

غارة الأحد الماضي جاءت مختلفة تماماً، وغير مسبوقة، كون الاحتلال الإسرائيلي لم يستهدف من قبل أي أهداف أو منشآت تابعة للاحتلال الإيراني في وضح النهار. وهنا يمكن تقديم تفسيرات أو قراءات متعددة تتعلق بإلحاح الغارة لقصف أسلحة ومعدات إيرانية وصلت فعلاً لأرض مطار دمشق، تحديداً للجزء التابع للاحتلال الإيراني فيه، أو لمنع الطائرة الإيرانية التي كانت في الأجواء من الهبوط أو لتسليط الضوء على رحلات الشركة الإيرانية التي تهبط بشكل مستمر في دمشق، وأحياناً في بيروت، ويفترض أنها خاضعة للعقوبات، ناهيك عن قرارات الأمم المتحدة الخاصة بمنع طهران من إرسال السلاح إلى ميلشياتها أذرعها في المنطقة، وربما سعت تل أبيب للإيقاع بين طهران وبين موسكو، وتحميل الأولى مسؤولية الغارات وزعزعة الاستقرار الهش فى مناطق النظام الذى تتخيل الثانية أنه الإنجاز الأبرز لها، إضافة إلى انتهاك التفاهمات  الروسية مع تل أبيب الخاصة بإبعاد إيران وميليشياتها 100 كم عن الحدود مع فلسطين المحتلة.

إضافة لما سبق نفذت إسرائيل الغارة في وضح النهار لغايات سياسية تتعلق بالانتخابات القادمة ورغبة نتنياهو في إظهار قدراته كزعيم، وحتى كوزير دفاع لا يتورع عن القيام بما يراه مناسباً لأمن الاحتلال، ورغبة رئيس الأركان الجديد الجنرال أفيف كوخافي في فرض سطوته وحضوره، ويتعلق الأمر كذلك بتغيير الاستراتيجية الإسرائيلية بعدما تفاخر نتنياهو بغارات 11 من يناير الجاري، وإزالة سياسة الغموض التي تم اتباعها خلال الأعوام الماضية، رغم تنفيذ مئات الغارات، وحتى إلقاء 2000 قنبلة على الأهداف الإيرانية في عام 2018 وحده، كما قال رئيس الأركان المنصرف غادي إيزنغوت.

نفذت إسرائيل الغارة في وضح النهار لغايات سياسية تتعلق بالانتخابات القادمة ورغبة نتنياهو في إظهار قدراته كزعيم، وحتى كوزير دفاع لا يتورع عن القيام بما يراه مناسباً لأمن الاحتلال

الغارة العلنية كما ونقلت يديعوت أحرونوت الإثنين الماضى عن وزير الطاقة يوفال شتاينتس المقرب من نتنياهو تتعلق بالتأثير على الرأي العام الإيراني وتأجيج النقاش حول الاحتلال الإيراني في سوريا وتبعاته وكلفته الباهظة في ظل الأزمة الاقتصادية الخانقة التي يعاني منها الإيرانيون، واستمرار قاسم سليماني في تبذير المقدرات والأموال الإيرانية على مشروع فاشل أساساً وعرضة للضربات والتدمير المستمر من قبل الاحتلال الإسرائيلي.

هذا الأمر تحديداً أي البعد الإيراني الداخل، ربما كان على علاقة بالغارة الثانية فجر الإثنين التي كانت معدة سلفاً حسب التسريبات الإسرائيلية، وجاءت ردّاً على إطلاق الصاروخ الإيراني تجاه جبل الشيخ في الجولان المحتل ظهر اليوم نفسه وهو الأمر الذى كانت تل أبيب تتوقعه وتتحسب له.

أزالت إسرائيل سياسة الغموض التي اتبعتها في سوريا بشكل رسمي، وبعد أيام نفذت غارة في وضح النهار وكانت تعرف مسبقاً أن سليماني اتخذ قرار الرد، إما لردّ الإهانة أو للتدخل في الانتخابات، وتوهم القدرة على إسقاط نتنياهو فيها، واللافت أن الصحافة الإسرائيلية تحدثت عن فخ من تل أبيب التي كانت تعرف بالردّ الإيراني وطبيعته وحجمه وحتى نوع الصاروخ المستخدم وقدرته التدميرية. لذلك نشرت القبة الحديدية - ليست العصا السحرية المخصصة للصواريخ متوسطة المدى - ثم استغلت القصة برمتها لتوجيه سلسلة ضربات قاصمة لقواعد ومنشآت التموضع الإيراني وهي الضربة الموسعة الثانية بعد ضربة أيار الماضي المشابهة.

واضح من التعليقات الإسرائلية أن تل بيب تعرف بدقة ما يفعله الإيرانيون الذين لم ييأسوا من إقامة بنى تحتية استراتيجية لتكريس حضورهم ونفوذهم فى سوريا، ولذلك تلجأ كل فترة إلى ضربة بل ضربات مكثفة تعيد المشروع الإيرانى إلى نقطة الصفر.

في مجريات الأحد الكبير لا بد من الانتباه إلى مواقف النظام الذي بدا ضعيفاً عارياً خاضعاً للوصاية كما هي العادة والاحتلال الروسي غير الممانع لضرب الممانعين، كما موقف واشنطن بعد قرارها بسحب قواتها من سوريا.

في الغارة الأولى ظهراً ردّ النظام بمضادات أرضية عشوائية، كما هي العادة في الفترة الأخيرة، بدا المشهد سوريالياً في تحذير تل أبيب له من التدخل بينها وبين إيران، وعندما أطلق نفس المضادات العشوائية في غارات الليل استغلت تل أبيب الفرصة فقصفت بشكل مكثف مواقع الدفاع الجوي التي أطلقت المضادات منها وهي نفس الاستراتيجية المتبعة تجاه مواقع الاحتلال الإيراني والمتمثلة بتوجيه ضربات لمنصات الدفاع الجوي التي تستخدم لحمايتها.

في مجريات الأحد الكبير لا بد من الانتباه إلى مواقف النظام الذي بدا ضعيفاً عارياً خاضعاً للوصاية كما هى العادة

الاحتلال الإسرائلي هدد كذلك باستهداف النظام ومراكزه الرئيسية مباشرة وحتى إسقاطه إذا ما غيّر سياسته فى التصدي للغارات الإسرائيلية وفكر جدياً في الردّ، وحتى الآن تضع تل أبيب تصريحات بشار الجعفري العنترية والبلاغية، كما التصريحات الإيرانية في سياق تخدير وخداع الجمهور المؤيد للنظام.

أما الموقف الروسي فبدا خجولاً ومحرجاً، ورغم الضجيج والصخب حول نشر منظومات إس. إس. 300 وإس. إس. 400، إلا أن شيئا مختلفا لم يحدث هذه المرة أيضاً، وبعد حادثة إسقاط الطائرة الروسية فى أيلول سبتمبر تم التوصل إلى تفاهمات جديدة بل محدثة بالأحرى إثر زيارة وفد عسكري روسي لفلسطين المحتلة الأسبوع الماضي، القاعدة الحاكمة للعلاقة بين الجانبين ما زالت هي نفسها، إسرائيل لا تستهدف النظام ولا تسعى لإسقاطه بينما تغض موسكو النظر عن غاراتها ضد الأهداف والمنشآت الإيرانية، الجديد ربما يتمثل بعدم تنفيذ الغارات في المحيط المباشر لقواعد الاحتلال الروسي شمال سوريا مع تعهد بعدم استخدام طهران لهذا المحيط أيضاً.

لا شيء كثير يمكن قوله عن الموقف الأمريكي كون استهداف الوجود الإيراني كان دائماً مهمة إسرائيلية بضوء أخضر أو برتقالي روسي. أما إخراج إيران من سوريا وتقليص وتحجيم حضورها الإقليمي فقد كان مهمة أمريكية ضمن النقاش السياسى الأمريكي الروسي العام.

إلى ذلك فإن إزالة سياسة الغموض وتكثيف الغارات، بل التباهي بها يمكن فهمها في سياق السعي الإسرائيلي لتكريس فكرة أن الانسحاب الأمريكي لم يؤثر على الاستراتيجية الإسرائيلية التي ما زالت تتمتع بالدعم والمساندة من قوى الاحتلال الرئيسية الأكبر في سوريا أي واشنطن وموسكو.

إزالة سياسة الغموض وتكثيف الغارات، بل التباهي بها يمكن فهمها في سياق السعي الإسرائيلي لتكريس فكرة أن الانسحاب الأمريكي لم يؤثر على الاستراتيجية الإسرائيلية

في الأخير وباختصار ما شهدناه خلال الأسبوع الماضي، هو نفس ما شهدناه خلال أيار الماضي، إسرائيل مستمرة في تدمير المحاولات الإيرانية للتموضع الاستراتيجي في سوريا عبر غارات موضعية متفرقة ثم غارات مكثفة كل بضعة شهور لإزالته بالجملة والمفرق، وهنا لا يبدو النظام مفعولاً به فقط، وإنما إيران أيضاً بعد رفع الغطاء الدولي الأمريكي الروسي عنها الذي استمر لسنوات، وتكفلت خلاله طهران بتدمير حواضر المدن العربية الكبرى فى حلب والموصل ودمشق وبغداد، وتسهيل بل استجداء الاحتلال الأجنبي على اختلاف مسمياته وأشكاله لحماية سيطرتها أو هيمنتها الوهمية على الوقائع في سوريا والعراق على حد سواء.

لابد من التأكيد كما العادة أيضاً على أن ممارسات الاحتلال الإيراني لا تبيض بأي حال من الأحوال صفحة الاحتلال الإسرائيلي أو تلفت الانتباه عن احتلال الدولة العبرية لفلسطين وسوريا وجرائمها المستمرة بحق الشعوب والثروات والمقدرات العربية.