سوريّو الداخل وسوريّو الخارج

2021.04.12 | 06:47 دمشق

photo_2020-09-15_12-29-15.jpg
+A
حجم الخط
-A

من بين مناطق السيطرة الثلاث التي تتقاسم أراضي البلاد اليوم يكاد سكان تلك التي يحكمها النظام أن يستأثروا بوصف سوريّي «الداخل». يحدث أحياناً أن يطلق فاعلون سياسيون وناشطون إعلاميون وإغاثيون وطبيون، يترددون إلى الشمال، كلمة الداخل على هذه المنطقة المحررة، نتيجة عملهم معها وتمييزاً لها عن مكاتبهم في الخارج التركي، لكنهم لم يستطيعوا أن ينفردوا لها بهذا الوصف. أما مناطق سيطرة الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا فلا تحظى عموماً بلقب الداخل الحميم، الذي تبدو صلاحيته لائقة أساساً بالجغرافيا التي تضم المدن الكبرى؛ دمشق وحلب وحمص وحماة، والساحل، والخرائب التي ضمها الأسد إلى حكمه إثر الحملات الحربية المدعومة روسياً قبل سنوات، وأصبح بها يسيطر على الرقعة الكبرى من أرض البلد مقارنة مع منافسيه، ويهيمن على حياة ما يقرب من عشرة ملايين من سكانها، بما يتجاوز مجموع المقيمين في الكتلتين الأخريين معاً؛ المنطقة المحررة بسلطتيها؛ هيئة تحرير الشام والجيش الوطني، ومناطق نفوذ حزب الاتحاد الديمقراطي PYD.

نشأ فالق جديد بين السوريين أضيف إلى ما كان قد نشب واستعر بينهم من انشقاقات. وهو الانقسام بين أهل الداخل ولاجئي الخارج

فضلاً عن الفوارق في المساحة وعدد السكان والطبيعة، تحتل مناطق سيطرة النظام موقع «بيت العيلة» بسبب محافظتها على سمت سوريا القديمة، حتى لو صارت بناءً متهالكاً وتلفزيون سيرونيكس عجوزاً يُعيد بثّ المسلسلات المعروفة التي تقطعها بعض الأكاذيب الإخبارية، المألوفة أيضاً. وإذا أضيف إلى ذلك ارتفاع نسبة ذوي الأعمار المتقدمة وغلبة النساء فيها؛ يصير من السهل تطويب هذه المناطق بوصفها الجذع العتيق العريض الذي تفرعت عنه أغصان هجرة الشبان، فارين من الجحيم اليومي وباحثين عن حياة أفضل في أوروبا.

وبين هاتين الجغرافيتين؛ سوريا «الأم» بعاصمتها دمشق، ودول اللجوء الذي تركز في ألمانيا، نشأ فالق جديد بين السوريين أضيف إلى ما كان قد نشب واستعر بينهم من انشقاقات. وهو الانقسام بين أهل الداخل ولاجئي الخارج، مع التحفظ الواجب عند استخدام كلمتي داخل وخارج والتشديد على أنهما مجازيتان وتقريبيتان.

لا يستند هذا الشرخ، الذي تعمّقه الأزمة الاقتصادية والخدمية المتصاعدة في مناطق سيطرة النظام، إلى الصدوع الطائفية والقومية الكبرى الفاعلة في سوريا، ولا يتطابق مع المواقف السياسية المتباعدة لجماعاتها وأفرادها وإن تداخلَ معها. صحيح أن مناطق سيطرة الأسد تضم أكثر أعداد مؤيديه، لأسباب طائفية أو سواها، إلا أنها تحوي أيضاً كتلاً مدينية مليونية من كارهيه ورافضي التغيير، أو اليائسين منه، في آن معاً، وفيها كذلك بعض بقايا الثائرين عليه أو المعارضين له ممن تقطعت بهم السبل. وصحيح أن معظم الثوار نزحوا داخلياً أو لجؤوا خارجياً، لكنك ستجد بين اللاجئين والنازحين من يصرّح بولائه للنظام ورئيسه رغم كل شيء.

ما يرسم الحدود بين جماعتَي «الداخل» و«الخارج» هو لحظة مبكرة سابقة قدّر كل منهما فيها مستقبل النظام؛ واختلفا بين من رأى أنه منتصر وأن حكمه مستمر، سواء أحبّ ذلك أم كرهه، فقرر البقاء في البلد نتيجة ذلك، وبين من رجّح أن الأسد سيُهزَم في نهاية حرب مدمرة، فاختار السفر قافزاً من المركب، وسواء أحبّ ذلك بالأصل أم كرهه أيضاً.

يُختزَل الأمر أحياناً بالقول بأن سكان مناطق النظام «شبّيحة» أو مؤيدون له، مما ليس دقيقاً بشموله. لكنه يقف على أرضية المحاسبة على ذلك التقدير القديم، أو العتب عليه، والتلكؤ عن الثورة استناداً إليه. وهو ما بان، في الحقيقة، عندما أوحت الانتصارات العسكرية للنظام بقرب انتهاء «الأزمة» لصالحه، وأوهمت بعض التحليلات بإمكانية تعويمه سياسياً واستعادة موقعه. وعندئذ صرّح أحد رموزه، العميد عصام زهر الدين، مخاطباً المعارضين اللاجئين: «نصيحة من هالذقن لا حدا يرجع منكن». بينما عملت قنوات أخرى أقل تشدداً على نصح المغتربين بأن يجدوا طريقاً للمصالحة و«تسوية الوضع» بعدما فشل الرهان على التغيير وانفضّ الداعم. ولم يكن كل الناصحين هؤلاء موالين للنظام، بل كان منهم متأقلمون قسراً مع بقائه الأبدي، راغبون في لمّ شمل العوائل والبلد، واستعادة الأبناء المغامرين من براثن الهجرة الإجبارية.

لكن الصورة مختلفة الآن. توقف التقدم العسكري المزهو بعد الهدنة الروسية التركية في آذار 2020، وتبين أن سياسة الأرض المحروقة عملة غير قابلة للتصريف في سوق المكاسب السياسية. بانت معالم الأزمة المالية على جسم النظام فالتفت إلى رجال أعماله يعتصر خزائنهم كي يدفعوا الفواتير الباهظة لبقائه. عاد مقاتلوه من «الحرب»، بعدما بحّت أصواتهم المطالبة بالتسريح، فلم تكن حصتهم من «النصر» أكثر من تعيين الآلاف منهم فقط في وظائف حكومية بسيطة، قصم التضخم رواتبها فصارت أقرب إلى مزحة. حاصر قانون قيصر الأميركي المحاولات الروسية الركيكة لتسويق ملف إعادة الإعمار، وثبت أن تعويم الأسد مجرد وهم. وفيما هو يستعد لإجراء انتخاباته الرئاسية الظافرة قريباً، تدل المؤشرات الاقتصادية إلى أن نظامه يدخل في سُبات احتضاره العسير.

يراقب الأولاد، التائهون في فيافي البرودة، ذويهم في البيت الكبير داخل السور الذي تنهار أجزاء منه يومياً؛ بتقنين فادح في الكهرباء، وأزمة في المحروقات والنقل، وغلاء خيالي

يندم كثيرون، الآن، لأنهم لم يغادروا السفينة الكثيرة الثقوب قبل أن يصعب ذلك بعدما أُتخمت الدول وأُغلقت الحدود وتقلصت المدخرات. في حين يراقب الأولاد التائهون في فيافي البرودة ذويهم في البيت الكبير داخل السور الذي تنهار أجزاء منه يومياً؛ بتقنين فادح في الكهرباء، وأزمة في المحروقات والنقل، وغلاء خيالي. وبين ترقب الأبناء تداعي البناء الآيل للسقوط وقلقِهم من وقوعه فوق رؤوس أحبائهم فيه؛ يتأرجحون بين الأمل بانتهاء هذه الولادة الطويلة أخيراً وبين الخوف من اختناق عنق الزجاجة، فيهدّئون ضمائرهم بعَدّ ما استطاعوا توفيره من دخولهم المحدودة والسير به نحو مكاتب الحوالات المتوجهة إلى الوطن.