سوريا 2022 أربع دويلات، عواصم، احتلالات، مناهج دراسية، حكومات

2022.03.19 | 05:14 دمشق

99-21.jpg
+A
حجم الخط
-A

كان الهدف الرئيس لثورة 2011 في سوريا هو الحرية والديمقراطية، غير أنَّ تمسّك النظام المستبد بالحكم، وعدم استجابته لمطالب الثائرين، والتداخلات الإقليمية والدولية، وتشتت أهداف الثائرين كذلك، أدى إلى عدم تحقيق الثورة لأهدافها في وقت جذوتها، فتحوَّلت سوريا 2011 بمرور السنوات إلى أربع سوريات. وغدت سيناريوهات الحل السوري أكثر تعقيداً، نظراً لأنها تتشابك، حدثاً إثر حدث، مع ملفات إقليمية ودولية، وبالتالي فإن الانفراج غدا أصعب، وأبعد من تلك اللحظة المفصلية التي حسبناها قريبة جداً!

ويبدو أن الوضع السوري اليوم لم يعدْ بحاجة إلى احتفال بذكرى بداية الثورة فحسب، مع الاعتزاز بلحظة الثورة -في كل الحالات- التي تعدُّ من أهم اللحظات المفصلية في الحياة السورية، بل بحاجة كذلك إلى التفكر بآفاق حلّ للمآل السوري في ظل تناسي المجتمع الدولي، قراراته التي اتخذها، لتكون مساراً للحل، مثل القرار 2254 الصادر عن مجلس الأمن الدولي.

ويبدو أنَّ استعمال مصطلح "الثورة السورية" لم يعد كافياً لتوصيف الحالة، ولا يعبر عن المآلات، خاصة أن كلَّ سوريا من السوريات الأربع لها أهدافها الخاصة بها، ومراماتها من سوريا التي كانت! وقد تكون أفضل بداية للبحث عن أيّ حل في سوريا من خلال توصيف المآل الداخلي السوري، من دون أن  نغفِل ملفات اللاجئين وإعادة الإعمار، والقطيعة والتناحر بين أصحاب الهدف الواحد من جمهور الثورة، وتحقيق العدالة الانتقالية!

باتت سوريا اليوم بأربع عواصم/مدن رئيسية: دمشق، عاصمة النظام حيث سطوة الوجود الإيراني الروسي، وإدلب عاصمة هيئة تحرير الشام وسطوة الوجود الجهادي، واعزاز عاصمة الشمال "المحرر" حيث النفوذ التركي، وعين عيسى والقامشلي حيث قسد وسطوة الوجود الأميركي والتحالف الدولي. وكل واحدة من هذه الـ (سوريات) لا تعترف بوجود الأخرى، أو تقره، وتأمل وجود لحظة مناسبة للتخلص من الأخرى، أو السيطرة عليها، خاصة أنَّ كلاً منها تحكمها "سلطات أمر واقع محلية" لم يؤخذ رأي السوريين، الذين يعيشون في كل منها بهم، إنهم سوريون يحكمون سوريين، عبر الولاء لجيوش أجنبية تسرح وتمرح على تلك الجغرافيا السورية المقطَّعة.

ويبدو أنَّ استعمال مصطلح "الثورة السورية" لم يعد كافياً لتوصيف الحالة، ولا يعبر عن المآلات، خاصة أن كلَّ سوريا من السوريات الأربع لها أهدافها الخاصة بها

كل بقعة جغرافية من هذه السوريات الأربع لها إيديولوجيتها وطريقة الحكم وجيشها ومفاهيمها، إضافة إلى طرائق إدارة مختلفة، وموارد اقتصادية وعِملات متعددة، وكذلك لكل منها حدود خارجية ومعابر مع الدول الأخرى. أما الأوراق الرسمية فتركت للقسم الذي عاصمته دمشق، حيث ما تزال أوراق تلك العاصمة معترفاً بها دولياً، وتمثل سوريا في الأمم المتحدة وعدد من الدول الأخرى، وبالتالي فإن مواطني "الدويلات السورية الأربع" مضطرون للحصول عليها، وتوثيق الكثير من حوادثهم القانونية من زواج  وطلاق وولادة وجواز سفر من خلالها.

ويحاول كل جزء من هذه الـ سوريات الأربع أن يأخذ بشكليات الدولة: وزراء، عاصمة، مناهج دراسية، إعلام، أعلام، خدمات، تواصل دولي من نوع ما، حواجز. لكنها كلها تشترك، بنسب متفاوتة بأخذ الفاسد من بقايا النظام السوري: رشاوى، وفساد، وجوع، وعدم تأمين الحدود الدنيا لمعيشة مواطنيها، ونستذكر في هذا السياق أن الأكثر جوعاً هي مناطق النظام، مع أنها ترث دولة عمرها نحو مئة عام! وأن مناطق كل من إدلب والجيش الحر لم تستطع أن تلبي حاجة سكانها من البيوت أو الخيم التي تقي مطر الشتاء، مع إدراكنا أن الكثيرين ممن يعيشون فيها قد هربوا من بيوتهم الأساسية نتيجة بطش النظام، ولتغدو تلك البقعة هي ملاذهم، لكونها الأقرب لأحلامهم أو شعاراتهم، أو أكثر قدرة على تأمين لقمة عيشهم، ذلك أن الهجرة إلى المناطق القسدية مثلاً تعني التخلي عن عدد من القناعات أو الوقوع في الإكراهات، أما اللجوء إلى منطقة إدلب فيعني استبدال إكراه بإكراه، الإكراه الأساسي قمعي/طائفي والإكراه الجديد الذي لا يطيقونه لباسه ديني، أخلاقي!

كلٌّ من هذه الأقاليم السورية/الدويلات عيناها موجهة إلى ثروات الآخر وجغرافيته وسلطاته، ولئن اشتهرت المناطق التي تحكمها قسد بأنها استولت على نفط البلاد؛ فإن الدويلة الأسدية لديها الموانئ وقسم كبير من النفط والغاز ودعم كبير من إيران وروسيا. وفي المجمل يتسم اقتصاد كل منها بسمات اقتصاد الحروب وما بعدها عبر المساعدات والإتاوات والضرائب والأشياء الممنوعة والمهربة، كلٌّ منها لديها سمعتها الدولية: الكبتاغون في مناطق النظام، وتهريب البشر في المناطق المحررة بحيث يتطوع العديد في فصائل من الجيش الحر ثم يذهبون مباشرة في إجازة إلى تركيا بقيمة 5000 دولار محاولين الوصول إلى أوروبا، والحشيش في مناطق قسد، والمعابر والإتاوات في مناطق هيئة تحرير الشام. وأبرز ما يجمع سلطات الأمر الواقع كونها ابنة ظروف الحرب والقتال، لذلك تلبست إلى حد كبير بلبوس الميليشات والعصابات والتشبيح على الرغم من محاولات التسلفن بظواهر الدولة المعاصرة.

وكل من هذه الأقاليم/ الدويلات السورية تعترف بها دولة أو عدد من الدول، لعل النصيب الأكبر لـ سوريا التي يحكمها بشار الأسد، لكونها ورثت اسم سوريا 2011 وانتصرت عسكرياً بنسبة ما، أما سوريا التي عاصمتها "اعزاز" فتعترف بها كل من تركيا وقطر وهيئات دولية عدة، وتتلقى دعماً بصورة أو بأخرى مما يدعى بمجموعة أصدقاء سوريا لكونها هي الوجه الرسمي للمعارضة وللثورة السورية، أما سوريا قسد فيعترف بها التحالف الدولي بصفتها أداة حربه على داعش وحارسة مساجينه/مواطنيه الداعشيين، وفي الوقت نفسه يضع جزءاً من فصيلها العسكري (متمثلة في حزب العمال الكردستاني)على قائمة الإرهاب، وتستثمر فيها دول خليجية تبعاً لعلاقتها مع تركيا، أما سوريا إدلب فلا يوجد أي اعتراف دولي بها لكون قادتها وُضِعوا على قوائم الإرهاب، وعدد من كتائبها مصنفة في الحقل ذاته.

بالتأكيد بقي قسم من المواطنين الذين يعيشون في "مناطق الجيش الحر" الأقرب إلى التمسك بقيم الثورة أو رموزها، لكن ذلك لا يعني أن الفصائل الحاكمة على الأرض تتمثل قيم الثورة ذاتها، بل إننا نجد كثيرا من الفصائل أبعد ما تكون عن أخلاقيات الثائرين السوريين عام 2011 وما طالبوا به. وفي الوقت نفسه تنكر السلطات في مناطق قسد أي علاقة لها بمنطلقات الثورة بل تجافيها وتحاربها، والأمر عينه ينطبق على السلطات الحاكمة في إدلب، ومن الطبيعي أن تكون السلطات في الجغرافيا التي عاصمتها دمشق العدو اللدود للثورة.

من المهم الإشارة إلى أنَّ الكثير من أنصار الثورة والمؤمنين بها والمنظرين لها والمتحمسين باتوا خارج سوريا، وقد دخلوا في رحلة خلاص فردي، بعد أن فقدوا الأمل من الانتصار السريع الذي حلموا به يوماً!

تشير المساحة الجغرافية اليوم إلى أنَّ نحو 60 في المئة من سوريا 2011 صارت بيدي سوريا/ دمشق، حيث يعيش نحو 11 مليون مواطن ويرأسها بشار الأسد ويرأس حكومتها حسين عرنوس. فيما تشكل مساحة سوريا/ قسد نحو  25 في المئة، حيث يعيش أكثر من مليوني مواطن، ويرأسها مظلوم عبدي عسكرياً، والإدارة المدنية يرأسها عبد المهباش وبيريفان خالد فيما يرأس "مسد" رياض درار وأمينة عمر والهيئة التنفيذية إلهام أحمد، ونحو 5 في المئة من الجغرافية السورية بيدي سوريا/ هيئة تحرير الشام،  إذ يسكن نحو 2 مليون برئاسة أبو محمد الجولاني فيما يرأس حكومته المسماة بالإنقاذ علي كدة وفيها 10 حقائب وزارية، فيما تشكل مساحة سوريا/ الجيش الوطني (المحرر)نحو 7 في المئة، التي يسكنها نحو 3 ملايين، ويرأس حكومتها "المؤقتة" عبد الرحمن مصطفى وتتكون من سبع وزارات، يمثلها خارجياً الائتلاف برئاسة سالم المسلط.

أكثرُ المتشائمين عام 2011 لم يتخيل أن يكون مآل سوريا هذا المآل، فلماذا حدث ذلك بعد 11 عاماً من التضحيات؟ أهي العوامل الداخلية أو الإقليمية أو الدولية، أم فشلنا؟ أم تمسك النظام المجرم بالسلطة؟ أم الطموحات القومية لسوريين؟ أم الأحلام الجهادية والطائفية؟ أم كل ذلك؟

السؤال الرئيس: لو تخلت الدول الداعمة لهذه الدويلات/ الكيانات/الأقاليم الموجودة اليوم على الجغرافيا السورية عنها، فما الذي سيبقى منها؟ وإلى متى ستخدمها التحالفات الدولية واللعب على الوقت وما مستقبلها؟

ما دورنا نحن السوريين المهتمين بالشأن العام أو العاملين به في الحل؟ ألسنا بحاجة لتغيير استراتيجياتنا وطرائقنا وتجديدها؟

أحسبُ أن الوضع السوري اليوم بات أكثر ألماً من الاحتفال بذكرى ثورة 2011، وهل كانت بدايتها في هذا المكان أو التاريخ أو ذاك؟ وبتنا بحاجة إلى البحث عن حلول لواقع سوريا الحالي ومستقبلها، وكيف يمكن أن نخرِجه من عنق الزجاجة إلى مرحلة جديدة.

لا بدّ للسوريين الذين يحبون سوريا _ ومن لا يحبها؟_ من البحث عن مخرج كي لا تختنق أكثر، أو نختنق معها، فنخنق كل ذلك التاريخ، واللحظات الجميلة، التي حلمنا بها أو عشناها، أو آمنّا بأنها ستأتي!