سوريا و نظريّة الأسد

2019.07.17 | 00:07 دمشق

+A
حجم الخط
-A

حسب العميد المنشق مناف طلاس في لقائه مع الصحفي الأمريكي سام داغر قبل إصدار كتابه المشهور "الأسد أو نحرق البلد" الصادر باللغة الإنكليزية عن دار هاجت للنشر في نيويورك عام ٢٠١٩، أنّ بشار الأسد كان يردد ضمن دائرته المقربة أن الشعب السوري لا يحكم إلا بالصرماية، والصرماية باللهجة السورية تعبير غير مؤدب عن الحذاء، يردده السوريون عندما يشعرون بالغضب أو القرف ويستبطن الكثير من العداء نحو الشخص أو المجموعات الموجهة نحوها هذه الأداة. هذا يضع بالاعتبار ليس نفسية الأسد فقط بل نهجاً كاملاً تربى عليه في بيت والديه الراحلين حافظ الأسد وأنيسة مخلوف، و يعبّر عن إحساس عميق بعدم شرعية نظامهم واعتماده الرئيس على القمع كأداة للسيطرة وإدارة سوريا. يدرك السوريون تجليات الصرماية الأسديّة - التي سنسمّيها لضرورات الذائقة الأدبيّة بنظريّة الأسد -  فهي بالتعريف الأجهزة الأمنية والقوات العسكرية الغير مصنفة تحت الجيش الوطني مثل الحرس الجمهوري ووحدات الدفاع الوطني ومن قبلها سرايا الدفاع والوحدات الخاصة ومنظمات حزب البعث المسلحة.

 تقدم خطابات الأسد الأب و تصريحات بعض أركان نظامه أمثلة عديدة على القوّة العارية كمنهج للحكم وإدارة المجتمع

تقدم خطابات الأسد الأب و تصريحات بعض أركان نظامه أمثلة عديدة على القوّة العارية كمنهج للحكم وإدارة المجتمع. لم يتردد الأسد الأب مثلا باتهام السوريين أنهم عملاء و يجب سحقهم ليس فقط سياسياً بل جسدياً في الكثير من خطاباته أثناء صراعه ضد الطليعة المقاتلة بين عامي ١٩٧٨-١٩٨٢، وحتى أن وزير دفاعه وأهم أركان نظامه الراحل مصطفى طلاس كان قد صرّح "نحن حصلنا على السلطة بالقوة وإن كانوا رجالاً ليأخذوها منا بالقوة".

تعتبرُ القوّة العارية أنّ كل ما قد يشكل أداة ضبط لها مثل حرية التعبير والمعتقد وسيادة القانون والانتخابات الحرة والتمثيل البرلماني وفصل السلطات ومنظمات المجتمع المدني أعداءً لا يمكن السماح لهم بالوجود مستقلين عن السلطة الأسديّة.

لم يُخفِ أقطابُ النظام احتقارهم وعداءهم لأدوات ضبط السيطرة المطلقة. مثلا طالب ابراهيم طبيب الأسنان الذي تحول إلى محلل سياسي يدافع فقط عن نظام الأسد، صرح علنا أن "منظمات المجتمع المدني هي وسائل تجسس أمريكية". خطورة هذا التصريح أنه يمهد لعملية سحق منظمات المجتمع المدني تنظيمياً وإزالة أعضائها جسدياً تماماً كما حدث مع حركة الإخوان المسلمين في سوريا بين عامي ١٩٧٨ و ١٩٨٢. لا أعرف كيف يتخيل طالب ابراهيم مجتمعاً بلا منظمات مدنية تنظّم الناس حول تحقيق مصالحهم من أصغر مهمة مثل تنظيف شوارعهم والحفاظ على أشجارهم مثلا إلى مشاكل أكبر مثل إعادة الأمان والمشي بعجلة الاقتصاد وتنظيم البحث العلمي وغيره من وظائف المجتمع المدني الأوسع نطاقاً من وظائف الأحزاب السياسية وحتى الدولة.

النظريّة الأسديّة لم تكن إلّا وسيلة لأسلوب حكم اعتمد منهج العنف والاستثناء من الحياة العامة أو الحياة البيولوجية مثل الاعتقال التعسفي والاختفاء القسري والتعذيب الممنهج والإعدام ضد المعارضة السياسية و المسلحة على السواء.

حسب سلوى إسماعيل في دراستها عن دور العنف والإذلال والذاكرة المنشورة في كتاب لها باللغة الإنكليزية منشور عن كامبردج عام ٢٠١٨، فهي أي الكاتبة أمضت عدة سنوات في دراسة المجتمع السوري تحت حكم الأسد وتوصلت إلى أنّ العنف أي الطريقة الأسديّة لا تكون وسيلة قمع فقط بل وسيلةً لتشكيل المواطنين حسب رغبة السلطة، أذلّاء ومستعدين للهوان بسهولة، أي أن العنف حدد علاقة المواطنين بالسلطة. بهذا المعنى حتى و لو أنكر الأسد أنه صاحب تصريح "الصرماية" أعلاه فإن سلوكه تجاه مواطنين السوريين سواءٌ أكانوا معارضين أم موالين يؤكد اتساقه مع مفهومه للحكم بالحديد والنّار. و توصلت سلوى إسماعيل إلى أن الاستزلام والتوريط في أعمال غير قانونية مثل التهريب في ظل غياب القانون شكلت أدواتٍ لزرع الخوف في المجتمع و تقسيم السوريين إلى موالين مستفيدين و مضبوطين عبر الاستزلام والتورط في أعمال غير قانونية، وغير موالين لكن أيضا مضبوطين عبر منظومة الخوف والشك والحذر من كل خطاب انتقادي.

أصبحت "النظريّة الأسدية" عنوان حياتنا منذ ولادتنا كمشروع معتقل أو مصفق إلى مشروع مشنوق أو لاجئ أو منفي، حلّ القهر محلّ أوكسجين الحياة في سوريا. السوري إما مقهور ومحايد أو مقهور ومستزلم لأحد أعلى منه في دولة الحرب المستمرة ضد كل ما يهدد عصابة النهب الأسدي. نظم الأسد عبر منظمات الشبيبة والفصائل البعثيّة المقاتلة الشعب السوري في منظومة الفساد، فالفقراء ضمن السلطة مثل جند المخابرات والحرس الجمهوري، والقاطنين في أحياء البؤس في مساكن الديماس وجديدة والقابون تحولوا إلى حلقات صغيرة في سلسلة الفساد الاقتصادي والحماية الاستزلامية، والفقراء خارج منظومة المليشيات الأسدية تحولوا إلى مشروع جهاديين بعد أن سحق الأسد منظمات المجتمع المدني وكل الأحزاب السياسية التي كان لها أن تقدم لهؤلاء بديلاً عن المشاريع الجهادية الإسلاموية.

لم يقدم سام داغر أو سلوى إسماعيل أي تحليل حول أسباب نشوب الثورة السورية في آذار ٢٠١١، لكنهما قدما صورة عما سبب عدم سقوط نظام الأسد رغم بسالة السوريين وتضحياتهم الثمينة. فالعنف المطلق و المعمم منذ عهد الأسد الأب وتقسيم المجتمع وتقاعس المجتمع الدولي والتدخل الكارثي لدول الخليج وغيرها من دول الجوار عوامل ساعدت بشار الأسد على تجنب السقوط إلى حين.

أصبحت "النظريّة الأسدية" عنوان حياتنا منذ ولادتنا كمشروع معتقل أو مصفق إلى مشروع مشنوق أو لاجئ أو منفي

أقول إلى حين لأن سوريا لن تعود إلى سابق عهدها فقد دفعت الثورة السورية بشار الأسد نحو أقسى وأقصى خيارته وكشفت أن النظريّة الأسدية في الحكم لم تستطع أن تبقي سوريا مملكةً للصمت. حتى يستطيع نظام الأسد أن يعود بسوريا إلى ما قبل ٢٠١١ فلا بد من وسائل سيطرة مختلفة عما انتهجه سابقاً ولا بد من إعادة إعمار سوريا التي دمرها بغبائه المستعصي على الوصف.

من تبعات الإيمان المطلق بنظريّته المذكورة، أنّ الأمن والاستقرار حسب التعريف الأسدي لن يعود إلى سوريا، لأن الدولة الأسدية لم تستخلص من السنوات الثمان السابقة أي درس يساعدها على إخراج البلاد من أزمتها الاقتصادية والأمنية والسياسية. لتصريح طالب إبراهيم السابق دلالات أعمق مما تفوّه به، فهو بالدرجة الأولى تعبيرٌ مصفّى عن إيمان مطلق بالدولة الأمنية فقط، و ملخص لقناعة بشار الأسد والدولة الأسدية "أنّ الشعب السوري لا يحكم إلا بالصرماية".

هذا يضع الشعب السوري المؤيد والمعارض على حدّ سواء وكافة أشكال المعارضة السياسية أمام تحديات تفكيك السلطة الأمنية. التدخل الروسي والإيراني ساعدا الأسد على الانتصار على الثورة عسكريّاً، لكن مهمات الحكم وإعادة الإعمار وحلّ الأزمات الاقتصادية والاجتماعية أكثر تعقيداً من النصر العسكري على الشعب السوري الأعزل منه والمسلح. أصبح الروس الذين ساعدوا بشار الأسد على تحطيم سوريا أمام معضلة حقيقية، فسوريا دُمّرت ليس بسبب الثورة أو الحركات الجهادية بل بسبب السلطة الأمنيّة نفسها التي ساعدت نظام الأسد على البقاء في الحكم منذ عام ١٩٧٠، والآن أصبح الإيرانيون والروس مسؤولين عن إنهاء المعضلة السورية التي نتج عنها دولة فاشلة في العمق وإن كانت تبدو متماسكة ظاهرياً.

 حل المعضلة السورية يتطلب تفكيك السلطة الأمنيّة و تحديث وسائل السيطرة. لكن الأسد غير قادر على سلوك طريقة أخرى لإدارة البلد غير "العصا" أي الدولة المخابراتية نفسها. فكيف لروسيا وإيران بمشروعين غير متسقين أن تعيدا بناء البلد وإعادة تأهيل نظامٍ ليس بقادرٍ أن يزيل الحذاء من رأسه، و بنفس الوقت فإنّ هذا الأسلوب لن يستطيع أن يخرج الأسد من السلطة ولا البلد من أزمته، لأن الداء لا يصبح دواءً مهما حاول الديكتاتور ليّ عنق الزمن.