سوريا والمصير الأفغاني

2019.05.15 | 00:05 دمشق

+A
حجم الخط
-A

قد يكون العنوان سوداوياً، لكنّه ليس أكثر سوداويّة من الواقع السوري. ينطلق التحليل في هذا المقال من الفرضيّة التي ترى أن سوريا باتت وستبقى لفترة طويلة ساحةً للصراع الخفي بين القوى الإقليمية ذات الفاعلية في هذا الملف، وبين الدول الكبرى ذات القرار النهائي بطبيعة الأمر.

سيسمح الأمريكيون للروس باستعادة كافة الأراضي التي خرجت عن سيطرة قوات النظام السوري، بما فيها المناطق التي يسيطرون هم عليها بالذات أو بالواسطة عبر قوات قسد، وتلك الواقعة تحت سيطرة تركيا عبر حلفائها من قوات المعارضة السورية، وسيتم الأمر بالتدريج وعلى المدى المتوسط الذي قد يستغرق خمسة أعوام أو أكثر.

سيتعامل الأمريكيون مع الروس على مبدأ من يكسر المزهرية يتحمل عبء إصلاحها، ولهذا سيعملون على تلزيم الملف السوري للروس بطريقة تزيد من تورطهم في هذا المستنقع. سيكون على الروس تحمّل أعباء كثيرة في هذا الشأن، فمسألة مكافحة الإرهاب التي رفعوها كشعار منذ اليوم الأول لوقوفهم مع نظام الأسد ستنتهي قريباً، وسيجد الروس أنفسهم في مواجهة مباشرة مع استحقاقات ما بعد الحرب.

في سعيهم الحثيث لهزيمة الثورة السورية التي أرّقتهم منذ يومها الأول، سيهزمون المجتمع السوري، لأن الطريقة التي يفهمها الروس هي طريقة التدمير الشامل والحرق لكل ما هو معارض أو مخالف أو حتى مختلف. سينتبهون إلى أنفسهم بعد لأي وجهد كبيرين وإذ بهم غارقون في بحر من الظلمات، في مجتمع محطّم مفكك لا يربط بين أجزائه سوى سلطة أمنية عسكرية قمعية، ولا يوحّد فئاته سوى الخوف والرعب، مع تسيّد فئة متغوّلة كانت وما زالت تحكم البلد منذ خمسين عاماً بالحديد والنار.

ما يعجز عن فهمه الروس الآن أنّهم يدمرون جميع أسس وجود سوريا من خلال تدمير بناها التحتية وبناها المجتمعية. والأمريكيون لا يهمهم هذا الأمر، بل يبدو أحياناً أنهم يدفعون إليه لعدّة أسباب، أهمها إغراق روسيا أكثر فأكثر في هذه الرمال المتحركة كما كان وضع السوفييت في أفغانستان قبل نصف قرن وكما هو وضعهم

سيترك الأمريكيون الروس تحت حاجة إعادة الإعمار الملحّة التي تلهث شركات بوتين وحاشيته وراءها، كما سيضعونهم تحت مطالبات المجتمع الدولي والإقليمي بضرورة ضبط الأمن ومكافحة الجماعات المتطرفة

الآن هناك، والسبب الثاني أن تدمير بنية المجتمع السوري سيعطي بالضرورة عمراً مديداً لإسرائيل، التي لم يكن في الساحة من شعب مستعد لمواجهتها بعد توقيع معاهدة كامب ديفيد وبعد احتلال العراق سوى الشعب السوري. فكل تدمير لبنية هذا الشعب ولبنية دولته ستعود بالفائدة المطلقة على إسرائيل بالضرورة.

سيترك الأمريكيون الروس تحت حاجة إعادة الإعمار الملحّة التي تلهث شركات بوتين وحاشيته وراءها، كما سيضعونهم تحت مطالبات المجتمع الدولي والإقليمي بضرورة ضبط الأمن ومكافحة الجماعات المتطرفة، وسيكونون بطبيعة الحال في مواجهة متواصلة ومباشرة مع ما تبقّى من قوى وطنية سورية ستسعى إلى التحرر من ربقة الاستبداد والاستعمار الروسي بنفس الوقت.

لن يكون صراعهم مع الإيرانيين على الاستفراد بالغنيمة المفترضة سهلاً، فإيران لديها مشروع استراتيجي ينطلق من اعتبار دول الجوار العربي تحديداً حديقة خلفية لها أو جزءًا هاماً من مجالها الحيوي. سيكون على الروس بالدرجة الأولى أن يحافظوا على مصالحهم السياسية والاقتصادية التي يسعون إليها، وعلى مصالح إسرائيل التي فيها ما يقارب من مليون يهودي روسي يشكلون أكبر صلة وصل بين الطرفين، وفي هذا السياق عليهم أن يكافحوا الوجود الإيراني المنافس لهم وللمشروع الإسرائيلي في المنطقة أيضاً. لن يكون الأمر سهلاً على الإطلاق، فالإيرانيون خبراء في صناعة ارتباطات محليّة مُطلقة التبعية باعتبارها مبنيّة على ولاءات عَقَديّة، كتلك التي بنتها في لبنان والعراق واليمن وأينما حلّت قواها ووجدت فرقها المذهبية والطائفية. ومن هذا المنطلق كانت أغلب عمليات التهجير القسري للسكان المحليين من الغوطتين ومن ريف دمشق وحمص وحلب، بهدف إحلال سكّان آخرين من انتماءات طائفية محددة تدين بالولاء وبالتبعية المطلقة لإيران، وهذا ما سيعني صراع الروس مع السكان الجدد الذين سيكون من مصلحتهم القصوى الدفاع عن مكتسباتهم التي حصلوا عليها مجاناً.

سيكون على الروس أيضاً أن يعيدوا بناء مؤسسة الجيش السوري المتهالك من الداخل والفاقد للعقيدة القتالية التي تميّز كل جيوش العالم، وبهذا الشأن عليهم أن يعيدوا تشكيله على أسس احترافية ليصبح جيشاً لكل الشعب السوري. لقد باتت الكثير من قطع هذا الجيش ومؤسساته تابعة لإيران وهذه عقبة إضافية في وجه الاستفراد الروسي في سوريا. عليهم أيضاً إعادة هيكلة أجهزة المخابرات المتعددة التي ستكون أكبر عائق أمام إعادة بناء مؤسسات الدولة، بعد أن ابتلعتها ولم تبق منها سوى القشور، وسيكون هذا البناء طبعاً بالحد الأدنى الممكن والذي يتقنه الروس، أي الحد الأقرب إلى الديكتاتورية مع الحفاظ على بعض الاستقلال الإداري والبنى التنظيمية في هذه المؤسسات، أي تقليص السيطرة الأمنية على هذه المؤسسات إلى حد بعيد.

سيكون الروس مجبرين بشكل أو بآخر على إجراء بعض الإصلاحات الضرورية لعودة اللاجئين ولاستجرار رؤوس الأموال الساعية للاستثمار في إعادة الإعمار، وهذا بحد ذاته تحدّ كبير لما سيلقاه من عقبات هائلة في طريقه، لعلّ أهمها عدم وجود بنية مؤسساتية للدولة السورية، خاصّة إذا أضفنا إليها إدراك الروس العميق بأنّ مؤسسات النظام الأمنية العميقة المتضررة من هذا النهج الروسي قد ابتلعت فعلاً مؤسسات الدولة، فالنظام غير قابل للإصلاح أو التعديل، لأنه منظومة شاملة ذات نهج متكامل من الفساد والقهر والعبودية، وهذا ما سيجعل منه عقبة كأداء أمام أية محاولة للتغيير.

السؤال الذي يجب على الروس الإجابة عليه قبل غيرهم هو ذاك المتعلق بقدرتهم على إدارة كل هذه الخلطة العجيبة؟

الحقيقة أنّ الإجابة على هذا السؤال مرهونة ليس بالروس وحدهم، بل بالأمريكيين بالدرجة الأولى وببقية حلفائهم من العرب والأوروبيين بالدرجة الثانية. فهل سيقبل هؤلاء إعادة تعويم النظام السوري مع بقاء بشار الأسد والزمرة المقرّبة منه، وهل يمكنهم أن يتحملوا أمام شعوبهم ومجتمعاتهم عار التعامل مجدداً مع مجرم حرب لم يتورّع عن قتل مئات الألوف من المدنيين ناهيك عن تدمير مدن وقرى سوريا، وهل سيكون من مصلحتهم تقوية موقف الروس في المنطقة وإعطائهم جائزة إعادة الإعمار فوق ذلك، وهل يمكن لأميركا أن تتراجع عن العقوبات التي فرضتها على الروس نتيجة أعمالها العدوانية تجاه أوكرانيا وبعد ضمّها القرم، وبأي ثمن، وبأية اشتراطات سستم كل هذه الأمور إن كان لها مجال أساساً؟

إنّ شراء المطارات والموانئ السورية أو بالأصح الاستيلاء عليها من قبل الشركات الروسية لن يعود عليها بالنفع مالم تكن هناك حركة

إن كلمة السر التي تسعى إلى امتلاكها روسيا هي تدفّق أموال إعادة الإعمار، وهذه لن تتم بدون انتقال سياسي

تجارية، وكذلك الاستيلاء على الفوسفات السوري وفي فترة لاحقة على ما تبقى من النفط لن يكون كذلك ذا قيمة إنتاجية مرتفعة، والسوق السوري ميتٌ بالمعنى الحقيقي للكلمة، فلا الناتج القومي ولا الدخل الفردي يسمح بأية استثمارات في سوريا، ناهيكم عن الحصار الأمريكي المفروض فعلياً حتى قبل توقيع الرئيس الأمريكي لقانون سيزر. إن كلمة السر التي تسعى إلى امتلاكها روسيا هي تدفّق أموال إعادة الإعمار، وهذه لن تتم بدون انتقال سياسي، على الأقل حسب تصريحات أميركا وحلفائها الأوروبيين، والانتقال السياسي سيعني الاستغناء عن بشار الأسد، وهذا لن يتم لأن بقاءه في السلطة يعطي الشرعية للوجود الروسي في سوريا باعتباره من استدعاهم من جهة، وباعتبار أن الروس لن يجدوا من يستأمنوه على بقائهم فيها أكثر من هذا الخائب الذي باع البلد كلها من أجل كرسي فارغ من المعنى والقيمة والسلطة حتى.

إنّ المتتبع للسياسة الأمريكية تجاه إيران وتدرّج العقوبات عليها وتصريحات ترمب بين كل موجة من هذه العقوبات، يدرك أن الهدف من هذا كله الجلوس مجدداً إلى طاولة المفاوضات للحصول على اتفاق جديد حول أنشطتها النووية وحول نفوذها في المنطقة المحيطة. لم يفهم نظام الملالي أن دوره الوظيفي في المنطقة مجرّد عامل زعزعة لاستقرار أنظمة الحكم في المنطقة وفزّاعة لإدامة ابتزازها بحجّة حمايتها من الغول الإيراني، لهذا نراه قد تمدد أكثر من الحد المسموح له به مما بات يشكل تهديداً على المصالح الأمريكية والإسرائيلية، وهذا يستدعي إعادة تقليم أظافره في المنطقة وتحجيمه إلى داخل حدود قمقمه.

هذا كله يحتاج إلى الوقت ولن يتم بين ليلة وضحاها، وسيكون ميدان التصادم الأكبر على الأرض السورية، لهذا سيجد الروس أنفسهم بطريقة أو بأخرى مضطرون لمساعدة الأمريكيين والإسرائيليين في هذه العملية، وهذا سيعني من حيث النتيجة استدامة الصراع في سوريا واستدامة استنزاف الروس والإيرانيين بينما سيكون السوريون كبش الفداء ووقود المحرقة.

مضى حتى الآن ثمانية عشر عاماً على بدء حرب الأمريكيين المعلنة على تنظيم القاعدة وطالبان في أفغانستان، ومازالت تلك البلاد تعوم في الفوضى وتسبح في الدمار وتغلي بالتطرف والإرهاب. كذلك مضى ثمانية أعوام على وأد حلم السوريين بالتحرر من العبودية وباتت أرضهم مسرحاً للصراع بين الدول وحبلاً يشدّ به كلُّ طرفٍ الطرف الآخر إلى ساحته ومجالاً للتنافس والصراع وإبراز العضلات وعقد الصفقات والمقايضات. لقد أصبحت سوريا عملياً على الدرب الأفغاني إن لم يكن على درب أشدّ منه وعورة وطولاً، وعلينا نحن السوريين في الأرض أن نشدّ الأحزمة على البطون وأن نقتصد بالدموع وبالدماء، فما زال المشوار في أوّله.