يسألني حين يفتح عينيه: أين هي؟
: ذهبتْ تملأ جرات روحها من نهر بكورة ودهشة، لا تستطيع العيش من دونه!
: أين يقع هذا النهر؟
: يقع هناك في أعماقها البعيدة، البعيدة المخبأة لنوبات الزمان وانكسارات سراب الظلال!
: وهل ستطول غيبتها؟
: قد تكون غيبتها طويلة، أو قصيرة، عسيرة أو موجعة، لكنها لا بدّ أن تغيب. تتعبُ من الحضور، كي لا تدهسها عجلات المكرر، وهي طفلة تحبّ دهشة المختلف.
تتجرع الوجع كاستمرار لحياتها، تعاني في غيبتها أكثر مما يعانيه من يشتاقها ممن حولها، ومن يستدفئون بظل حضورها.
لها حكمتها المنقوشة في جدران روحها بأشواك العمر: لا تمعن في الحضور كي لا تأكلك يوميات المألوف، لا يمكن للحياة أن تستمر من دون استطالات الوجع في أعماقنا!
: اشتقتُ إليها فهل ستستمع إلى وجع أشواقي؟
: تحب الطرب الأصيل، الأمر يعود إليك وحدك، في اللحظة التي تشعر فيها أن غناءك نابع من أعماق القلب؛ ستجد ظلها أقرب إليك منك!
: وهل في كل منا نهرٌ للبكورة والدهشة؟
: سألتها من قبل عن هذا، قالت لي: نعم في كل منا نهر بكورة ودهشة، لكن!
: ما قصتك مع لكن!
نعم، هي تعشق لكن، كي تترك الأبواب مفتوحة للأصيل في أنفس من حولها، ممن دهستهم عجلات الحياة فباتوا يدافعون عن أنفسهم بحركة أكثر مما تنشده الحياة.
قالت لي مرة: كثيرون منا ابتعدوا عن أنهار بكورتهم وضيعوا خرائطها، منهم من يستطيع العودة، ومنهم من لا يستطيع، ومنهم من لا يزال يحاول، ومنهم من جهود محاولاته لا تلائم أثر نهر البكورة.
ومنهم من نضب نهره، نضب من دون رجعة، لذلك كتبنا عليه أنه سيقضي سنوات عمره يبحث عنه، وغالباً لن يصل!
: هل من مدى زماني لعودتها؟
: الزمان عندها ليس بالدقائق، هذه أزمنة المنشغلين باللهاث، الزمان عندها بالإحساس، هي متلهفة للعودة إلى ظلال محبيها، فهي قُدَّت من نُبل ووفاء، لكن الأمر ليس عندها وحدها،
حين ترى إشارات البكورة عند من حولها قد أخذت تتبرعم، ستتدفق أنهار حبها نحوهم عائدة، بكل طمأنينتها.
قد تعبر ألف سنة مما يعدون بلحظات، وقد تطيل الوقوف عند دقائق من كلام سنوات مما يحسبون!
وكيف سيكون حضورها؟
هي لا تحضر إلا كـ فيض من حب، لا يقبل التفسير أو الحسابات لأن حادي حياتها هو فيضُ حبها؛ فإن حضرتْ سيدفئك حبها ويغنيك عما سواه.
وإن كنتَ ممن أصابهم جَزر موجاتها؛ سيجد نفسه مسكوناً بالفقد والغربة كأنه بلا وطن!
: يكفي! توقف! هذا هو تماماً ما أعنيه، ما أصابني بعد غيابها عني؛ أو غيابي عنها، أنني شعرت كأنني نهر جاف، حتى رماله تخلتْ عنه!
: قلتُ لك يا صديقي، فيض حضورها دافئ وجفاف غيابها موجع، عليك أن تهيئ نفسك لما تستطيعه، فإن أتعبك حضورها فاختر الغياب!
وإن سعيتَ لحضورها فتوضأ بنقاء وطهارة يليقان بها، قد تستطيع عليهما صبراً وقد لا تطيق!
: ألا تشتاقني بعد كل هذا النهر من التجارب المشتركة؟ هل نسيتني تماماً؟
: هي لا تنسى أبداً، يحضر ماضيها في حاضرها كأنه الآن أو غداً، لأن الزمان لديها زمن الإحساس وليس زمن الدقائق يا أهبل!
قلت لك: تغيب، تعالج الآلام التي يسببها من حولها لها؛ بالغياب،
وتعطيهم فرصة للعودة إلى سمو أرواحهم بالغياب كذلك، ترى أن مدّ مسافات الشعور مع الآخرين ضرورة كي يستفيقوا، لعلهم!
هي لا تنسى كي لا تملأ قلبها حقداً، تملأ جرار أيامها بالغياب لعله يعلم من حولها، وهي تتجرع غصاته أكثر منهم. وكلما وجدت روحها قد ابتعدت عن فيوضات حبها تهرع بعيداً عمن حولها؛ لتعيد ترميم تفاصيلها بطريقتها هي، وبمنهجها وعيون روحها وحدها، من دون آثارهم أو مؤثراتهم أو طرائقهم.
لا تحبُّ أسلحة الأذى ولا تجيد استعمالها، وإنْ حاولت بَشريتُها فعل ذلك أحياناً تميط أحجار الأذى عن طريقها بالبعد طوراً وبالعطف أحياناً.
ترى أن العمر أقصر من أن نضيع لحظاته بالحروب الخاسرة،
تؤمن أن الحروب كل الحروب خاسرة وفاشلة، وأن لا منتصر فيها أبداً!
حين رفعوا رايات النصر، كان نصراً ليس على خصومهم بل على أنفسهم، أولئك الذين ظنوا أنهم انتصروا على الخصم وما انتصروا إلا على أنفسهم فخسروها، من دون رجعة!
لا تبحث عن انتصارات، ولا تحبُّ حياة الانتصارات، أو أبطال الحروب، تنظر إليهم بعين الشفقة، وهي تدرك كم هو صعب أن يجدوا أنهار بكورتهم مرة أخرى. كم الطريق إلى تلك الأنهار شاقة وبعيدة ومؤلمة، وغالباً إنْ أفلتت من أيديهم علامات الطريق فإنهم لا يجدونها مرة أخرى!
ترى بعين يقينها مفاهيم مختلفة للربح والخسارة، وإنْ وجدتْ أن من حولها لا يفهمون أبجديتها، تختار الغياب لتحافظ على روحها ونقائها، فكيف ستقضي معظم عمرها بتعليمهم أبجدية لا تعنيهم حروفها؟
تقول قبل أن تنام: إنْ دفعهم شوقهم كي يعودوا؛ فمرحباً بحضورهم، وإلَّا مرحباً بغيابهم!