سوريا ما بعد قوات حماية الشعب..

2019.10.22 | 19:49 دمشق

20191017_2_38791107_48555386.jpg
+A
حجم الخط
-A

قررت تركيا القيام بعمليتها العسكرية الثالثة داخل الأراضي السورية، لكن هذه المرة ترافقت مع توتر أميركي – تركي غير مسبوق وصل إلى حد فرض الولايات المتحدة عقوبات على ثلاثة من الوزراء الأتراك من بينهم وزير الدفاع، فضلا عن أن الكونغرس الآن يناقش فرض عقوبات على تركيا بشكل أوسع قد تشمل عقوبات اقتصادية ستؤذي الاقتصاد التركي المنهك بكل تأكيد.

سبقت عملية "نبع السلام" كما سمتها السلطات التركية عمليتا "درع الفرات" و"غصن الزيتون" وإن كانت الأولى موجهة بشكل رئيسي ضد داعش فإن المعركة الثانية والتي أطلقت عليها تركيا اسم (غصن الزيتون) كانت تستهدف بشكل رئيسي قوات حماية الشعب

اليوم تستهدف العملية العسكرية التركية الثالثة الشريط الحدودي السوري – التركي بأكمله مع تركيز أكبر على مدينتي رأس العين وتل أبيض

في مدينة عفرين السورية ذات الغالبية الكردية، حيث تمكنت القوات التركية مدعومة من فصائل المعارضة السورية بالسيطرة على المدينة بشكل كامل.

اليوم تستهدف العملية العسكرية التركية الثالثة الشريط الحدودي السوري – التركي بأكمله مع تركيز أكبر على مدينتي رأس العين وتل أبيض اللتين كان يقطنهما سكان عرب بالكامل قبل سيطرة قوات الحماية عليهما والعبث بالديمغرافيا الخاصة بالمدينة بما يمكنها من وصل الكانتونات الثلاثة التي أعلنتها قوات الحماية بوصفها جزءاً مما تدعوه "روجافا".

تبدو الكلفة العسكرية والسياسية بالنسبة لتركيا مرتفعة، فعملية "نبع السلام" تبدو عسكرياً أصعب من العمليات العسكرية السابقة التي قامت بها تركيا داخل الأراضي السورية مثل معركة السيطرة على جرابلس أو عملية درع الفرات التي سيطرت من خلالها على مدينة الباب والتي اعتمدت فيهما القوات التركية على مساندة التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة جواً وعلى قوات الجيش السوري الحر براً لطرد تنظيم "الدولة" من تلك المناطق.

لكن عملية نبع السلام هنا مختلفة إذ تقف الولايات المتحدة موقف المعارض للعملية وسبقها سحب للقوات الأميركية من هذه المدن، ووجه الرئيس ترمب انتقاداً عنيفاً وتهديداً بفرض عقوبات اقتصادية على تركيا، لكن الموقف الأكثر شدة أتى من الكونغرس بجناحيه الديمقراطي والجمهوري وربما يتصاعد هذا الضغط في ظل انتقاد قادة الحزب الجمهوري قرار الرئيس ترمب سحب القوات ألأميركية من سوريا.

تعكس عملية "نبع السلام" عملياً اتخاذ قرار نهائي وحاسم على مستوى الحكومة التركية بإنهاء وجود قوات حماية الشعب على الحدود التركية الجنوبية مع سوريا والقيام بذلك عسكرياً ومهما كلف الأمر سياسياً، فتركيا لم تعد تثق بالوعود الأميركية وأصبح لديها شكوك كبيرة في صدقية الإدارة الأميركية وحقيقة ما ترغب القيام به في سوريا، وبالتالي تكون تركيا قد حسمت ترددها على مدى الأعوام الخمسة الماضية مستندة إلى وعود أميركية بسحب السلاح من هذه الميليشيات بمجرد انتهاء العمليات ضد داعش أو تزويد الحكومة التركية بمعلومات تفصيلية عن شحنات الأسلحة أو القيام بدوريات مراقبة مشتركة وغير ذلك مما كان قادراً على تخدير الحكومة التركية على مدى السنوات الماضية، لكن يبدو أن أزمة الثقة بين الطرفين انتهت وأن العلاقات التركية – الأميركية مرشحة للتوتر بشكل أكبر مع التهديد بفرض عقوبات اقتصادية قاسية من قبل الكونغرس.

تجد تركيا نفسها مجدداً في موقف صعب للغاية، فترددها على مدى السنوات السبع الماضية قلب المعادلات والحقائق على الأرض لغير صالحها تماماً، فقوات وحدات الحماية التي تعتبرها تركيا منظمة إرهابية أصبحت شريكاً رئيسياً وحصرياً للولايات المتحدة

تركيا تدرك بنفس الوقت أن معركتها ضد قوات حماية الشعب لن تكون سهلة لأنها تصطدم سياسياً مع الولايات المتحدة

في حربها ضد داعش ورفضت أميركا كل الدعوات التركية لوقف تسليح هذه المنظمة كما رفضت الولايات المتحدة دعوات أكثر سخاء بكثير بتدخل الجيش التركي من أجل محاربة داعش في سوريا، فقد أصرت الولايات المتحدة سواء تحت إدارة الرئيس الأسبق أوباما أو الرئيس الحالي ترمب – الذي تفاءلت تركيا به خيراً – على الاعتماد على قوات حماية الشعب بدل اللجوء إلى حليفها في الناتو مما خلق توتراً كبيراً في العلاقات التركية الأميركية على مدى السنوات الخمس الماضية.

ولذلك أدركت تركيا أن أي تردد هذه المرة سوف يقلب الأمور رأساً على عقب في حدودها الجنوبية مع سوريا، ولذلك قررت وحشدت قواتها بسرعة من أجل البدء بعملية عسكرية حدودية داخل الأراضي السورية كما فعلت سابقا.

لكن، تركيا تدرك بنفس الوقت أن معركتها ضد قوات حماية الشعب لن تكون سهلة لأنها تصطدم سياسيا مع الولايات المتحدة وليس فقط مع الإدارة الأميركية وإنما الكونغرس وأن هناك تحالفاً كبيراً من قبل الحزبين في دعم قوات الحماية، وربما تتطلب الكثير من الموارد العسكرية واللوجستية لا سيما أنها من غير المتوقع أن تحصل على تغطية جوية من أي طرف كما حصل سابقا عندما حصل على الدعم الجوي من قبل أميركا أو روسيا.

إن المشهد السوري يزداد تعقيداً بسبب حسابات الأطراف المتصارعة مما يمكن أن تجنيه من "تركة داعش" اليوم، ولذلك بدأت تتسابق وتزيد من وجودها العسكري بهدف قضم أكبر حجم من الأراضي التي تنتزعها من داعش اليوم، فقد تضاءل حجم الأراضي التي تسيطر عليها داعش في سوريا من 55% إلى الصفر، وازداد حجم الأراضي التي تسيطر عليها قوات حماية الشعب التي خلفت داعش لكنها الآن في طريقها للاختفاء بسبب انسحاب القوات الأميركية فهل تتمكن القوات التركية من ملء الفراغ الذي سيخلفه هذا الانسحاب أم يتمكن نظام الأسد مع روسيا من السيطرة على بعض هذه المناطق مثل منبج والطبقة وغيرها؟ وعليه يبدو الخاسر الأكبر هنا المعارضة السورية المسلحة ومن خلفها تركيا والدول الإقليمية العربية التي دعمت الثورة السورية من عامها الأول.

لكن، علينا أن نوقن أن هذه السناريوهات لن تكون سوى مؤقتة، فالحرب السورية علمتنا أن لا شيء ثابت وما دام ليس هناك حل سياسي يرضي الأطراف وخاصة الشعب السوري من خلال انتخابات حرة ونزيهة فإن المعادلات على الأرض ستتغير بسرعة كبيرة، فعلى سبيل المثال لن تسمح القبائل والعشائر السورية المحلية بسيطرة قوات كردية على أراضيها في الرقة وبالتالي علينا مراقبة هذا النزاع المحلي المحتمل بعد انسحاب القوات الأميركية من الرقة، وبنفس الوقت كان للمعارضة السورية المسلحة قوة وتأثير كبيرين في دير الزور منذ عام 2012 وبالتالي لا شيء يمنع من إعادة تجميع نفسها بمساعدة تركية ربما وبدأها لعملية عسكرية لطرد قوات النظام من دير الزور بعد طرد داعش منها.

وبالتالي يمكن القول إن سياسة الرمال المتحركة ما زالت تحكم الأزمة السورية، إذ لا شيء ثابت طالما أن لا شيء متفق عليه، وهو ما يدفعنا إلى القول أن خريطة سوريا بعد قوات حماية الشعب اليوم وداعش قبلها ربما تكون أكثر تعقيداً بعد زوال اللون الأسود من خريطتها بعد أربع أعوام من ظهوره فيها والآن زوال اللون الأصفر من الخريطة قريبا.