icon
التغطية الحية

سوريا كما يراها سفير الهند السابق إلى دمشق

2020.12.24 | 04:13 دمشق

maxresdefault.jpg
ذا واير- ترجمة: ربى خدام الجامع
+A
حجم الخط
-A

قراءة في كتاب ألفه السفير الهندي السابق إلى سوريا:

دخلت الحرب في سوريا اليوم عامها العاشر تقريباً، وحصدت أرواح نصف مليون إنسان وشردت أكثر من 11 مليوناً، نصفهم تقريباً تحول إلى لاجئين في دول الجوار، حيث يعيش هؤلاء حياة تعيسة في مخيمات ويعتمدون على مساعدات الدول المانحة. والمأساة الأكبر تتلخص في عدم وجود أي أفق لنهاية النزاع، وغياب عملية سلام يمكن الاعتماد عليها يطلقها أحد الأطراف أو المصادر. ما يعني أنه من غير المرجح لمأساة الشعب السوري أن تنتهي خلال فترة قريبة.

إنه لأمر محير أن تقوم دولة صغيرة تقع على أطراف غرب آسيا بتوليد كل هذا العنف وخلق كل هذه المنافسات الشديدة بين عدد كبير من العناصر الفاعلة سواء المحلية أو الأجنبية، ولا يوليها الإعلام العالمي سوى اهتماماً محدوداً. ولهذا يقدم لنا أحد كبار الباحثين والدبلوماسيين وهو سفير الهند السابق إلى سوريا وأمين مكتب الخارجية المختص بأمور غرب آسيا وشمال أفريقيا، السيد راجيندرا آبهايانكار في كتابه: سوريا: مأساة دولة محورية، رواية شاملة وواضحة بشكل مميز حول التاريخ والسياسة السورية، شرح فيه مصادر ومسار المنافسات القائمة حالياً.

منابع الحرب

رسمت حدود دولة سوريا الموجودة حالياً في عام 1924 عندما كانت تحت الانتداب الفرنسي، وسوريا لوحة فسيفسائية تشتمل على تنوع في الأديان والطوائف والعرقيات، إذ فيها السنة والشيعة المسلمون، والأقلية العلوية والدرزية، وطوائف مسيحية مختلفة، ومجموعات عرقية مثل الكرد والتركمان والأرمن.

وخلال الخمسين سنة الماضية، حكمها ثنائي الأسد (الأب والابن)، حيث حكم حافظ الأسد من 1970-2000، ثم أتى ابنه بشار، وينتمي كل منهما للطائفة العلوية الشيعية، لكنهما أقاما نظاماً علمانياً تحت مظلة حزب البعث، الذي تزاوج أيديولوجيته بين القومية العربية والاشتراكية. وقد حافظ كلاهما على حكم استبدادي قائم على استمالة طوائف الشعب المختلفة. ويصف السفير سوريا بأنها: دولة تعددية، ويشير إلى الأسد بأنه يتمتع بدعم من العناصر الأساسية في المجتمع السوري.

ويرى المؤلف بأن الثقافة السياسية في سوريا تقوم على عداء عميق للغرب، ورغبة بالحفاظ على التجانس الوطني القائم على أساس الدعوة للقومية وتغذية الإحساس بوجود أزمة بشكل مستمر، وهكذا تم فرض حالة الطوارئ في البلاد منذ عام 1963 وحتى 2011، مما لم يترك للمعارضين سوى فسحة صغيرة جداً. إذ في عام 1982، دمر حافظ الأسد مدينة حماة وقتل عدة آلاف من السكان فيها عندما حاول القضاء على تهديد حركة الإخوان المسلمين.

ويقدم المؤلف شرحاً مهماً لمصادر السخط الشعبي اليوم، فيأتي على رأسها الطائفية القائمة على المناطقية، إذ يرى بأن هذه الظاهرة: "تشرح العلاقة بين العنف الطائفي والضغوطات المناطقية في مجتمعات مقسمة وغير متكافئة بوجود إحساس ضعيف بالوعي الوطني والمشاريع المترنحة لبناء الدولة".

ويشير السفير إلى أن سوريا أسرفت خلال سنوات طويلة في الاستعانة بمواردها المائية، حيث أسهمت مشاريع الري الواسعة باستنزاف المياه الجوفية. وهكذا تسببت موجة الجفاف التي ضربت البلاد بين عامي 2006-2010 بكارثة إنسانية، حيث أجبرت آلاف الفلاحين، ومعظمهم من السنة، على الهجرة إلى المدن فتحولوا إلى لاجئين أو نازحين بسبب ظروف بيئية.

كما أن المعالجة الضعيفة لتلك الأزمة أحدثت نقمة كبيرة، كونها خلقت إحساساً بتحول تلك الفئات الفقيرة من السنة إلى ضحايا، وهنا يقول الكاتب: "من الواضح بأن ظروف البيئة السيئة وعدم قيام الحكومة السورية بإدارة الوضع خلفا أثراً سلبياً على انسجام المجتمع وتجانسه"، وهكذا ولد النزاع الحالي من مرجل تلك النقمة الشديدة.

وفي آذار من عام 2011، انتشرت ثورات الربيع العربي في شمال أفريقيا وغرب آسيا، حيث قام بعض الفتيان الصغار بكتابة عبارات مناهضة للأسد على جدران مدرسة في درعا، فتم حبسهم إثر ذلك وتعرضوا للتعذيب طيلة أسابيع، ما دفع لقيام ثورة شعبية انتشرت في العديد من المحافظات والمدن السورية.

أي أن النزاع السوري قام بسبب تلك الأمور البريئة، إلا أن البلد أصبحت اليوم مسرحاً تسعى فيه العديد من العناصر الفاعلة وراء مصالحها في خضم هذا المستنقع الوحشي.

العناصر الفاعلة في النزاع

يربط السفير بين حديثه عن سوريا المعاصرة ووضعها لكونها دولة محورية، وبين ضرورة أن تحكمها قوى خارجية عند سعي تلك القوى للسيطرة على المنطقة. كما أن موقع سوريا على أطراف آسيا حيث تعتبر جسراً لأفريقيا يمنحها أهمية جيوستراتيجية خاصة. ويخبرنا المؤلف بأن السيطرة على سوريا: "تساعد على تأمين ميزة سياسية وذلك من خلال التحكم بحركة البضائع والأشخاص والأنشطة بين العديد من القارات وشبه القارات".

أي بشكل خاص، وضمن سياق المنافسات الغرب آسيوية، تشترك سوريا بحدود مع خمس دول، ولهذا غاصت عميقاً في القضية الفلسطينية وفي طموحات الكرد بإقامة وطن مستقل لهم، وما صاحب ذلك من نزاعات عبر الحدود مع إيران والعراق وتركيا حيث يتوزع الأكراد. ثم إن فسيفساء التنوع الطائفي والعرقي في سوريا جعل شعبها وقوداً للانقسام الطائفي العميق بين السعودية وإيران وما ترتب على ذلك من تداعيات وتجلى في المواجهات التي قامت في لبنان واليمن والعراق.

كما أن الشخصية المحورية لسوريا جلبت المزيد من العناصر الفاعلة من خارج المنطقة، وهي روسيا والولايات المتحدة، حيث حولت المنافسة بين الولايات المتحدة التي تسعى للحفاظ على موقعها المترأس للعالم وبين روسيا التي تسعى لقلب النظام العالمي القائم هذه الدولة إلى ساحة لمعركة أكبر.

وقد هيأ النزاع في سوريا وانهيار نظام الدولة مساحة ملائمة للعناصر المتطرفة حتى تقوم بمد نفوذها وتوسيع هيمنتها في المنطقة. إذ قام تنظيم الدولة في العراق بإرسال مفرزة إلى سوريا التي أنهكتها الحرب في مطلع عام 2012، فتحولت إلى أفضل قوة تحارب إلى صف الثوار في البلد بنهاية ذلك العام.

ثم أعلن فرع تنظيم الدولة في سوريا ارتباطه بتنظيم القاعدة، في الوقت الذي قام فيه تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وسوريا الذي ظهر في عام 2013، ومسح الحدود بين الدولتين، بالإعلان عن دولته التي تعبر عن نموذج عابر للأمم والتي تعادل مساحتها مساحة المملكة المتحدة، ويبلغ عدد سكانها حوالي تسعة ملايين، إلى جانب تشكيلها لجيش عداده 100 ألف مقاتل، وكان الدخل الشهري لهذه الدولة يعادل بضعة ملايين من الدولارات.

مصالح متضاربة

تحول مشروع تغيير النظام إلى حرب على تنظيم الدولة في سوريا، حيث قادت الولايات المتحدة تحالفاً دولياً ضد هذا التنظيم، كما دعمت الكرد في سوريا الطامحين إلى رسم حدود دولتهم روجافا (أي الوطن الغربي) على الحدود السورية-التركية. وهكذا خلقت الولايات المتحدة من الكرد قوة مقاتلة متماسكة، عرفت باسم قوات سوريا الديمقراطية تمكنت من دك دولة الخلافة في سوريا في كانون الأول من عام 2018، ثم قتل زعيمها أبي بكر البغدادي في سوريا في تشرين الأول من عام 2019.

ومنذ بداية الأمر، حظي نظام الأسد بدعم من الحليف الاستراتيجي القديم، إيران، التي حشدت مقاتليها وأسلحتها وقدمت له التمويل، بالرغم من العقوبات الخانقة التي تعيشها على المستوى الداخلي.

ثم دخلت روسيا لتدعم الأسد وذلك لأسباب استراتيجية وسياسية، أولها: أنها تعارض وبشكل كامل تغيير النظام بتمويل ورعاية خارجية، كما تأمل إلى الاحتفاظ بقواعد عسكرية لها في سوريا على ساحل المتوسط وذلك ضمن مصالحها الأوسع والتي تشمل الاحتفاظ بتواجد لها هناك، وتدخلها بالقرار فيما يتصل بالنزاعات والمنافسات العالمية الكبرى. وقد ضمن الدعم الروسي والإيراني تغيير قواعد المعركة، فأصبح الأسد يسيطر على معظم المناطق في سوريا، ولم تعد مسألة تنحيه واردة في أي أجندة.

بيد أن النجاحات التي حققها الكرد في مناطقهم خلقت خطراً وجودياً على تركيا. وفي تغير واضح لمسار الأمور، تخلت عن التحالف الإسلامي ومشروع تغيير النظام وانضمت لروسيا وإيران في عملية السلام بأستانا. وقد نتج عن ذلك وقف لإطلاق النار على معظم الجبهات، باستثناء إدلب الواقعة في الشمال، حيث تسعى تركيا لاستمالة المقاتلين الإسلاميين إلى صفها والاستعانة بهم في المواجهة مع الكرد في شمال شرق البلاد. ولاتزال إدلب التي يبلغ تعداد سكانها ثلاثة ملايين إلى جانب 50 ألف مقاتل موجودين فيها، نقطة خطر تدفع سوريا وروسيا إلى حشد العدة والعتاد لشن هجوم عليها بغية تحرير هذه المنطقة التي تعتبر المعقل الأخير للثوار.

أما بالنسبة للموقف الأميركي، فقد شهد هذا الموقف عدة تبدلات وتحولات وحير الجميع، إذ بعد هزيمة تنظيم الدولة، كان ترامب متلهفاً لإعادة جنوده إلى ديارهم، وكان على استعداد للتضحية بحلفائه الكرد عبر دعوة القوات التركية للقدوم إلى شمال شرق سوريا مع تقليل التواجد الأميركي هناك. وبالمقابل، أعرب المسؤولون لديه عن رغبتهم بإبقاء تواجد عسكري أميركي لأسباب استراتيجية، يأتي على رأسها مجابهة روسيا وإيران. وأخيراً اتفق ترامب والمسؤولون لديه على إبقاء 500 جندي أميركي هناك لحراسة حقول النفط، إلا أن هذا الوضع لا يعتبر مرضياً لأي طرف من الأطراف.

أما التغير الآخر الذي حدث فكان من قبل الدول الخليجية، التي عادت الأسد في بداية الأمر والتزمت بأجندة تغيير النظام، إلا أن هذه الدول أصبحت اليوم تسعى لإعادة العلاقات مع النظام بغية التصدي لإيران التي أصبحت الحكم الوحيد في الشأن السوري.

المستقبل

بعد مرور عشر سنوات تقريباً وصل النزاع السوري إلى نهاية اللعبة، ولكن بالرغم من توقف القتال، لم يتم التوصل إلى حل بشأن الكثير من القضايا، ومنها مصير إدلب ومستقبل طموحات الكرد. كما أن تركيا ترغب بأن تبقى لأمد طويل في الشمال السوري وهذا يناقض مصلحة الأسد وإيران وروسيا في تحقيق وحدة سوريا وسيادتها على أراضيها. وهنالك أيضاً أمور عاجلة تتصل بإعادة الإعمار وعودة النازحين، إذ إن عملية إعادة الإعمار تكلف مئات المليارات من الدولارات في الوقت الذي بقيت فيه المنافسات الجيوسياسية بلا حل.

وبالإضافة إلى كل ذلك، هنالك القضية المتنازع عليها حول تفعيل عملية سياسية يمكنها أن تقرر شكل وملامح مستقبل النظام السياسي السوري، إذ لابد لها من صياغة دستور جديد يدعم وحدة الأراضي السورية، ويناسب كل المجتمعات المتنوعة والمؤسسات الديمقراطية والفيدرالية، كل ذلك ضمن مشهد لم يعرف إلا الحكم الاستبدادي لخمسين سنة ناهيك عن النزاع المدمر الذي استمر خلال العقد الماضي.

وبناء على خبرته الدبلوماسية الغنية، يعرض السفير المؤلف عدداً من المقاربات التي يمكنها أن تدفع بالعملية السياسية نحو الأمام، إذ هذا يتطلب مشاركة فعالة من قبل الأمم المتحدة مع دعم الدول المتعددة التي لم تقم حتى الآن إلا بالتشجيع على النزاع في هذه الدولة المحورية خدمة لمصالحها. إذ لم تبد أي من تلك الدول ما يدل على اهتمامها بالسلام، وعليه لابد وأن تستمر المنافسات في سوريا وقد تصل إلى مستويات فتاكة بين الفينة والأخرى.

إن الرواية التي يسردها هذا الكتاب تتجاوز خبرة المؤلف الدبلوماسية لتشمل العديد من زياراته الأخيرة إلى سوريا خلال المواجهات التي امتدت لعقد من الزمان، إلى جانب مقابلات مع لاجئين سوريين يقيمون في دول الجوار. ويأتي البحث الأكاديمي الأساسي ليدعم تلك المشاركات الشخصية، وهذا ما يجعل الكتاب مساهمة كبيرة في الحوار الذي يدور في الدول حول سوريا وشؤون غرب آسيا عامة، كما يجعل منه مرجعاً قيماً خلال القادم من السنوات.

المصدر: ذا واير