سوريا في مذكرات وزير الخارجية الأميركي جون كيري

2020.02.13 | 23:00 دمشق

960x0.jpg
+A
حجم الخط
-A

صدرت حديثاً مذكرات جون كيري وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية بعنوان "كل يوم هو إضافة" عن شركة المطبوعات في بيروت. يخصص جون كيري في أكثر من موضع في المذكرات الحديث عن ملف سوريا، ففي عام 2009 تولى كيري مسؤولية رئاسة لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ، وأصبح رئيسا للجنة نفسها التي أدلى فيها بشهادته عن فيتنام عام 1971، وهي اللجنة التي شارك فيها من أصبحوا رؤساء فيما بعد، من جاك كينيدي إلى باراك أوباما، ومن أصبحوا نواب رؤساء من هيوبرت همفري إلى جو بايدن.

في أثناء توليه هذا المنصب شارك في النقاشات من بغداد إلى كابول، لكنه يأتي على ذكر الأسد عند حديثه عن زيارته لسوريا للقاء به أثناء توليه منصبه، ففي سنوات إدارة جورج بوش الابن أمدت سوريا العراق بالمقاتلين، لذلك اعتبرتها إدارة بوش من الدول الراعية للإرهاب. وفي بداية عهد أوباما أراد كيري أن تكون الزيارة محاولة لمعرفة نوايا سوريا فيما يخص قضية السلام مع إسرائيل. رأى كيري سوريا عبارة عن "برميل بارود ديموغرافي سيصعب جداً إعادة تجميع أجزائه إذا انفجر"، لذلك شجع أوباما جون كيري على التعرف على نوايا الأسد. كان جون كيري قد التقى بحافظ الأسد قبل ذلك لكنه كان اللقاء الأول مع بشار الأسد باستثناء وقفة قصيرة في دمشق عام 2005. لم يثق أحد ببشار في البيت الأبيض، حتى كيري، لكنه أراد المحاولة، وكان الهدف الرئيسي سحب سوريا من زواج المصلحة مع إيران والبدء في مفاوضات مع إسرائيل.

في عام 2009  تم لقاء كيري مع بشار، وتمت فيه مناقشة مسألة محطة الطاقة النووية السورية التي قامت إسرائيل بقصفها، وطلب كيري من بشار أن يتم تفقد المحطة النووية من قبل الوكالة الدولية للطاقة الذرية. نظر الأسد في عين كيري وقال "إنها ليست منشأة نووية"، واعتبر كيري كلام الأسد عبارة عن كذب تافه، في الزيارة الثانية كان البيت الأبيض قد أطلع كيري على مسألة تهريب السلاح عبر الحدود إلى حزب الله. ذهب كيري وأطلع الأسد على هذا الموضوع، وكانت الإجابة هي الإنكار. لذلك طلب كيري من المساعدين الخروج للجلوس مع الأسد بمفرده، ثم بدأ كيري بالقول "هذا ليس جدالاً، لقد رأيت الأدلة، الأمر يحدث ونعلم أنه يحدث"، فأجاب الأسد: "كل شيء قابل للتفاوض"، وأشاح بوجهه عن كيري. ثم يكمل كيري وصف شخصية بشار "إن حركة التناقض في الكلام تصدر عن حاكم مستبد يفتقر إلى النضج، وهو يتفوه بكذبة واضحة، وكانت لحظة كاشفة أفادتني بعد سنوات في المعضلة السورية، فالرجل الذي يكذب في وجهك مباشرة وهو على بعد أقدام منك، لن يصعب عليه أن يكذب على العالم بعد أن قتل شعبه بالغاز المسموم".

في اليوم التالي سافر جون كيري إلى إسرائيل والتقى مع بنيامين نتنياهو وأطلعه على رسالة الأسد، فوجئ نتنياهو من الرسالة ومن استعداد الأسد للذهاب إلى ذلك الحد!

سأل الأسد كيري عن إمكانية الدخول في مفاوضات لاستعادة الجولان، ونصحه كيري أنه لو كان جاداً فعليه أن يقدم اقتراحاً خاصاً على هيئة رسالة من الأسد إلى أوباما يطلب فيها الدعم الأمريكي لمحادثات السلام مع إسرائيل. في اليوم التالي سافر جون كيري إلى إسرائيل والتقي مع بنيامين نتنياهو وأطلعه على رسالة الأسد، فوجئ نتنياهو من الرسالة ومن استعداد الأسد للذهاب إلى ذلك الحد، نقل كيري الرسالة إلى وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون.

بعد ذلك قامت الولايات المتحدة باختبار تصرفات الأسد من خلال توجيه عدة طلبات إليه، بعضها بسيط يمكن تنفيذه، مثل طلب فتح مركز ثقافي أمريكي أو تعيين سفير في لبنان لإرسال رسالة عن عدم نية سوريا التدخل في الانتخابات اللبنانية، وبعضها كان متابعة لتصرفات الأسد على الحدود، وكانت النتيجة أنه لم يكف عن التعاون مع حزب الله. ثم يحكي كيري عن نقاشات خاضها مع الأسد وعد فيها بتنفيذ الطلبات الأمريكية، وعن شعوره بالضغط بسبب مئات الآلآف من الخريجين الذين لا يجد لهم وظائف، وأوضح لكيري أن البديل سيكون الحركات الإسلامية، ثم تحدث معه عن الحنين لعصر علماني أكثر، وأطلع بشار كيري على صورة لوالدته في المسجد الأموي مرتدية تنورة متوسطة الطول وشعرها من دون حجاب، ثم علق وزير الخارجية السوري: "إذا لم نجد سبيلاً لتأمين المزيد من الوظائف لشعبنا، فسوف تعود بعد عشر سنوات وتجده الملا أسد"، وضحك الأسد وقال "سأكون بشار الملتحي". التلويح بخطر الحركات الإسلامية كان ورقة الأسد مع الأمريكان، لكن المضحك هو أنه يلوح أنه يستعين بإيران من أجل الوظائف للشعب لكنه فعلا استعان بإيران لتأتي بالميليشيات لتحصد أرواح شعبه وليس لجلب الوظائف!

سوريا الجرح المفتوح

يأتي جون كيري للحديث عن سوريا التي يسميها "الجرح المفتوح" بعد أن أصبح وزير خارجية، وبعد قتل الأسد أكثر من مئه ألف في تلك الفترة، وفي 2011 قال باراك أوباما إن على الأسد التنازل عن السلطة. بعد ذلك رسم خطاً أحمر شهيراً وهو استخدام الأسلحة الكيميائية، لكن الأسد تجاوز ذلك الخط الأحمر. ويصف كيري في المذكرات مشهد أطفال سوريين تعرضوا للغازات السامة وقال إن بعض هؤلاء الأطفال من عمر أحفاده، ومع وصول الأخبار إلى كيري شعر بالغثيان والحنق من الأسد.

برغم أن كيري توجه إلى روسيا للقاء بوتين قبل ذلك عندما وصلت معلومات إلى الحكومة الأمريكية عن نية الأسد استخدام غاز السارين في بعض المناطق، قابل كيري بوتين، ويهمنا أن نرى وجهة نظر بوتين التي حكاها لكيري، والتي عبر فيها بوتين عن أسفه عن تخلي أمريكا عن الحكام في مصر وليبيا يقصد مبارك والقذافي، فهؤلاء برأي بوتين يمكن التعويل عليهم، وهناك موجة تطرف ظهرت في ليبيا بعد سقوط القذافي هكذا أخبر بوتين وزير الخارجية الأمريكي وأوضح له هذا ما يحدث عندما يسقط الحكام الأقوياء دون إعداد بديل، ثم يوضح كيري أنه "وجد بوتين متلوناً ويتهرب من النقاش حول مسألة انتقال السلطة في سوريا بحجة أن هذا ليس وقت إجراء هندسة اجتماعية في البلدان ذات السيادة وأنه يخشى من انهيار سوريا وسوء تصرفات الأسد".

كان كيري يرى أن توجيه ضربات عسكرية للنظام رد مناسب وضروري على إطلاق الأسلحة الكيمياوية، وقد تفاءل كيري بتخيل أن هذه الضربات قد تفتح مساراً للتفاوض مع النظام، وتتشكل حكومة انتقالية تتكون من عناصر النظام الأكثر قبولاً مع جانب ممثلي المعارضة العلمانية. نقل كيري هذه الأفكار للبيت الأبيض في ثلاث ساعات ونصف في أحد الاجتماعات، واتفق الحضور على أن الرد بضربات عسكرية ضروري على تجاوزات الأسد، وقد دعم مارتن ديمبسي رئيس هيئة الأركان لمشتركة وتشاك هاغل وزير الدفاع هذه المقترحات. كانت هناك حجج لبعض المعترضين منها أن تكرار نموذج ليبيا لم يكن نتيجته مرضية أو أن هناك قلقاً من تدفق اللاجئين للبلدان المجاورة.

لم يتوقع كيري ردة فعل أوباما، ويشرح كيف أن أوباما كان يطلب تحليلات شاملة للعواقب المحتملة على أي قرار سياسي، ثم يذكر كيري كيف انزعج أحد الموظفين في البيت الأبيض عندما قال كيري في أحد الاجتماعات إن إعلاننا دعم المعارضة وضرورة رحيل الأسد مع عدم تقديم دعم حقيقي لهذه المعارضة هو عبارة عن عجز. لكن العبارة لم تنجح في جعل الأدارة الأمريكية أكثر حماسة في ملف سوريا، وذلك بسبب أن الأمريكان تدخلوا كثيراً دولياً لكي لا يظهروا بمظهر العاجز والضعيف، وأتت إدارة أوباما وهي تشعر أن هذه الحجة لا يجوز أن تشكل ضغطاً على أي من قراراتها.

في الاجتماعات التالية اقترح مارتن ديمبسي إطلاق صواريخ توماهوك من المدمرات المنتشرة في البحر المتوسط على أهداف للنظام، علماً بأن البنتاغون كان قد جمع بالفعل قائمة بالأهداف المحتملة قبل أسابيع

في الاجتماعات التالية اقترح مارتن ديمبسي إطلاق صواريخ توماهوك من المدمرات المنتشرة في البحر المتوسط على أهداف للنظام، علماً بأن البنتاغون كان قد جمع بالفعل قائمة بالأهداف المحتملة قبل أسابيع تضمنت منشآت عسكرية. وكان الاجتماع التالي بحضور أوباما وتعثرت المناقاشات في هذا الاجتماع بسبب الذريعة القانونية للتدخل العسكري، كان الاستدلال بتجربة تدخل كلينتون في كوسوفو سابقة يمكن الاعتماد عليها، فأمريكا التي تعلم أن روسيا ستمارس حق الفيتو للاعتراض على أي قرار من مجلس الأمن، قد وجدت في مشروعية العمل الإنساني مهرباً من سؤال مجلس الأمن.

بدأ أوباما باقتراح إشراك الكونغرس في قضية سوريا، وأوضح كيري أنه لا يطلب تدخلا عسكريا وقصفا مستمرا لشهور بل فقط ردا سريعا ومباغتا يجعل الأسد يدرك عاقبة فعلته. ومما يذكره كيري أنه عندما تواصل مع الحكومات لحشد قرار بالضرب فقد دعم الأردن قرار التدخل وكذلك السعودية. ثم كانت محادثة روسيا التي يصفها كيري بالمحادثة العجيبة إذ اعترض سيرغي لافروف وزير الخارجية الروسي، وادعى أن الثوار هم من قاموا بتجميع المواد الكيميائية واستخدامها لحشد التعاطف الدولي، ورد كيري بطلب السماح بلجنة دولية للتفتيش في تلك المناطق التي تعرضت للقصف، ورد الروس بالرفض.

كانت المكالمات مستمرة بين كيري ووزير الخارجية البريطاني وليام هيغ الذي وعد أن ديفيد كاميرون رئيس الوزراء ملتزم بالخطوات الأمريكية، لكن المفأجاة كانت طلب كاميرون من البرلمان البريطاني الموافقة على عمل عسكري، والذي توقع أن يحصل على الموافقة بسهولة لكن أحداث التدخل البريطاني في العراق كانت ماثلة في أذهان البرلمان وتم رفض المقترح بسبب تعاون بلير السابق مع بوش إبان حرب العراق والذي ألقى بظلاله على قرارات البرلمان، وأبلغ كاميرون الامريكان عن التزامة بقرار البرلمان.

مرت ثمانية أيام بعد الهجمات الكيماوية التي شنها النظام دون رد من المجتمع الدولي. شعر كيري بالقلق من تضييع الروس الوقت، وطلب الأفصاح عن تقرير سري يتعلق بدور النظام في الهجوم ليطلع الرأي العام على ما قام به النظام السوري، لكن خطاب كولن باول القديم الذي يصفه كيري بالمخزي في مجلس الأمن بشأن وجود أسلحة دمار شامل في العراق كان ماثلاً في الأذهان واستخدمت الدعاية الروسية هذه الأحداث للقول إن معلومات الأمريكان خاطئة مثلما كانت خاطئة في العراق.

أجرى أوباما اتصالا مع كيري ليخبره عن نيته طلب قرار من الكونجرس، لم يكن كيري يتوقع ذلك وعندها شعر بشخصية أوباما المترددة في الملف السوري وعن تغييره قناعاته فيها، توقعت سوزان ريس مستشارة الأمن القومي أن الكونجرس لن يوافق، ولن يمنح الجمهوريون أوباما أي تفويض للقيام بأي شيء، وكانت أحداث التدخل العسكري الأمريكي في العراق ماثلة في الأذهان وجعلت الكونجرس يخاف من التصويت على التدخل العسكري، وهناك بعض الأعضاء تبلدت أحاسيسهم تجاه ما يحدث في سوريا كما يقول كيري.

العجيب أن بعض المتظاهرين من منظمة كود بينك المناهضة للحرب كانوا يرفعون لافتات في جلسات الاستماع تحمل شعار "لا تقصفوا سوريا" و"لا تلطخوا أيديكم بالدماء" ويعلق كيري أن هذا ذكره بسنوات قضاها كناشط سياسي لكنه تساءل أين اللافتات التي تحمل صور الأطفال الذين ماتوا بسبب أسلحة الأسد؟ ألا يشعرون بالغضب من الأسد.

تزامن ذلك مع وجود أوباما في سان بطرسبرج لحضور قمة مجموعة العشرين مع بوتين، قام الأخير بإقناع أوباما بأنه يمكن ضمان تأمين مخزون الأسلحة الكيماوية الموجودة لدى النظام ونقلها للخارج

تزامن ذلك مع وجود أوباما في سان بطرسبرج لحضور قمة مجموعة العشرين مع بوتين، قام الأخير بإقناع أوباما بأنه يمكن ضمان تأمين مخزون الأسلحة الكيماوية الموجودة لدى النظام ونقلها للخارج، توصل كيري مع لافروف لمناقشة التفاصيل التقنية بخصوص إخراج الأسلحة الكمياوية ونجد في الكتاب وصفا لشخصية وزير الخارجية الروسي فهو يتمتع بالذكاء والحذر واستخدام الحيل الذهنية او أساليب يحصل بها على نقاط على طاولة المفاوضات، من ضمن هذه التصرفات التي اعتبرها كيري فظة هو تجهيز الوفد الروسي الشنط عند باب الفندق للإيهام أنهم يتجهزون للرحيل دون الوصول إلى اتفاق، ورد كيري هل نضيع وقتنا هنا يا سيرغي؟ أم نحن بصدد اتفاق، وفشلت لعبة لافروف وأشعل سيجارته واستكملوا النقاش.

ومن المضحك أن النظام حاول أن يطلب بعض المعدات العسكرية بحجة استخدامها في نقل الأسلحة الكمياوية مثل مركبات لنقل الدبابات، وكانت المشكلة هي الحصول على دولة للقيام فيها بتدمير الأسلحة رفضت تركيا والأردن المشاركة في العملية، وافقت ألبانيا، ثم مع ضغط المتظاهرين تراجعت، ورفضت روسيا أن يتم ذلك على أرضها، وكان الحل هو التخلص منها في البحر عن طريق خبراء الأسلحة الكمياوية وهكذا تم التخلص من 1300 طن من الأسلحة الكيميائية. لم ينجح كيري في إقناع أوباما بتوجيه ضربات للنظام السوري. ويستكمل الكتاب الحديث عن ظهور داعش وبرغم قول كيري "أن الأسد هو مغناطيس جاذب للإرهاب"، قامت الإدارة الأمريكية بملاحقة داعش دون التوجه لسبب ظهور داعش نفسها، ذلك بعد حادثة مقتل الصحفي الأمريكي جيمس فولي والتي قام بعدها أوباما بتوجيه ضربات لداعش، وقام كيري بالتنسيق مع الحكومات العربية للمشاركة في تحالف لضرب داعش.

ثم ينتهي حديث كيري بذكر اجتماع جنيف الذي تضمن مناقشة إخلاء حلب ويقول "لم أشعر يوماً بالعبثة قدر شعوري ذلك اليوم".

ويذكر غضب السعودية من عدم توجيه أوباما ضربات لنظام الأسد، لكنها شاركت مع الدول العربية الآخرى في التحالف الدولي ضد داعش. يشرح كيري كل محاولاته التوصل إلى اتفاق مع روسيا للهدنة، وتواصله المستمر مع سيرغي لافروف ومدى كذبه هو وبوتين، ويذكر رده على لافروف في اجتماعات الأمم المتحدة بالقول "كيف يمكن للناس أن يجلسوا إلى طاولة المفاوضات مع النظام الذي يقصف المستشفيات ويلقي بغاز الكلورين مرارا وتكرارا ومرارا وتكرارا، و يتصرف وكأنه سيفلت من العقاب؟".

ثم ينتهي حديث كيري بذكر اجتماع جنيف الذي تضمن مناقشة إخلاء حلب ويقول "لم أشعر يوماً بالعبثية قدر شعوري ذلك اليوم". تنتهي شهادة كيري بأن الجهود الدبلوماسية الأمريكية لإنقاذ سوريا قد ماتت وأن الجرح مازال مفتوحاً.

أخيراً نحتاج إلى قراءة كل شهادات من شارك في تلك الفترة من زعماء أو مسؤليين دوليين للوقوف على كواليس المجتمع الدولي وعن عدم تحمله مسؤلية الوضع في سوريا بشكل جاد.