سوريا... جيلٌ منزوع الهويَّة

2022.01.10 | 05:05 دمشق

un0277718.jpg
+A
حجم الخط
-A

عشر سنواتٍ من الحرب في سوريا كانت كفيلةً بإنهاك جيلٍ بأكمله، وُلِد وعاش في ظروفٍ غير طبيعيَّة، وبقي رازحاً تحت حكم النَّظام الدَّكتاتوريّ واستبداده، فكانت النَّتيجة كارثيَّةً بشكلٍ لا يمكن تصديقه، إذ آلت هذه الأوضاع إلى وجود عددٍ كبيرٍ من الأطفال الذين تشرَّدوا وامتهنوا التَّسول وانحرفوا نحو السُّلوك الإجراميِّ ليتسمروا على قيد بقايا وطنٍ منهوبٍ من سلطةٍ مجرمةٍ عملت على  تدمير سوريا حجراً حجراً، وحوَّلتها إلى رمادٍ، رافعةً شعار (الأسد أو نحرق البلد)، رافضةً الاستجابة لمطالب الشَّعب الذي خرج يصدح في السَّاحات مطالباً بالحريَّة.

إنَّ التَّفكك الأسريَّ هو واحدٌ من أخطر المشكلات التي أفرزتها التَّغيرات الاجتماعيَّة الحاصلة في سوريا، ولم تقتصر الآثار السَّلبية على خلخلة تركيب الأسرة وبنيتها، إنَّما شملت المجال الاجتماعيَّ

ويتحمَّل النِّظام الأسريُّ جزءاً كبيراً من مسؤوليَّة ضياع مستقبل هذا الجيل، وذك لما أصابه من هشاشةٍ وتفككٍ ترك خلفه جيلاً فاقداً لهويَّته، ولأبسط مقوِّمات الحياة، فكان إمَّا ضحيَّة أسرةٍ مواليةٍ للنِّظام قبلت بالعيش تحت نير المستبد، أو أنَّ الفقر وضَنَك العيش منعها من مغادرة سوريا أو على الأقل مغادرة مناطق سيطرة السُّلطة الدِّيكتاتوريَّة، كلُّ ذلك أوجد جيلاً يكاد لا يأويهم بيتٌ أو بعض جدار بيتٍ متهاوٍ، فقد استطاعت الحرب أنَّ تدمِّر ذكرياتهم كما دمَّرت بيوتهم، فوجدوا أنفسهم يعتاشون على فتات وطنٍ ضائع.

إنَّ التَّفكك الأسريَّ هو واحدٌ من أخطر المشكلات التي أفرزتها التَّغيرات الاجتماعيَّة الحاصلة في سوريا، ولم تقتصر الآثار السَّلبية على خلخلة تركيب الأسرة وبنيتها، إنَّما شملت المجال الاجتماعيَّ، فكثُرَت المشكلات الاجتماعيَّة التي من شأنها تشويش انتماء هذا الجيل كشيوع الطَّلاق، وتعدُّد الزَّوجات، وانتشار زواج القاصرات المتزامن مع ظاهرة العزوف عن الزَّواج، وارتفاع نسبة الأطفال الأيتام، والأطفال مجهولي النَّسب، وغيرها من المشكلات التي أوجدت جيلاً بلا هويةٍ أسريَّةٍ، وبالتَّالي بلا انتماءٍ وطنيٍّ، ممَّا أظهر خللاً في وظيفة الأسرة، وتراجع دورها في نقل العادات والتَّقاليد والثَّقافة والقيم المجتمعيَّة لأبنائها، كما أفقدهم روح الانتماء الأسريِّ، فتسبَّب ذلك بهشاشة بنية الأسرة وعدم قدرتها على الحفاظ على تماسكها الدَّاخليِّ والخارجيِّ، إضافةً إلى جملةٍ من المشكلات الصحيَّة والنَّفسيَّة النَّاتجة عن تهشُّم بنية الأسرة الاجتماعيَّة وضعفها والتي قادت إلى وجود جيلٍ بلا شعورٍ هوياتيِّ يربطه بأسرته بوصفها وطنه الصَّغير الذي يتوجَّب عليه الإيمان به والانتماء إليه لينتقل إلى ولائه لوطنه الكبير.

كما كان للنِّظام التَّعليميِّ وضعفه دورٌ كبيرٌ في صناعة هذا الجيل الممسوح الذَّاكرة، فهو نظامٌ تعليميٌّ يجسِّد منظومةً تلقينيَّةً مؤدلجةً غير تمكينيَّةٍ، فهو لا يشجِّع على التَّفكير النَّقدي، بل يمنع أيَّ تفكيرٍ خارج هذه المنظومة الأيديولوجيَّة التي تسهم في تنميط الأفراد وقولبتهم بقوالب معدَّةٍ مسبقاً تجسَّدت فيها قيم الطَّاعة والولاء، ثمَّ كان انقطاع عشرات الآلاف من الطُّلاب عن التَّعليم وذلك لاستخدم السُّلطة السُّوريَّة عدداً من المدارس كمراكز اعتقالٍ وثكناتٍ أمنيَّةٍ وعسكريَّةٍ سبباً في إحداث خللٍ في المنظومة التَّعليميَّة لم يستطع النِّظام التَّعليميُّ بعد عودته بفضل الدَّعم السِّياسيِّ الدُّوليِّ والرُّوسيِّ والإيرانيِّ وبقيَّة الميليشيات الطَّائفيَّة العسكريَّة رَدْم الهوَّة الحاصلة عند هذا الجيل، لقد عاد التَّعليم في سوريا مفكَّكاً متداعياً نتيجة مغادرة جلِّ خبراتها وكفاءاتها البلاد، إضافةً إلى الخسائر البشريَّة والدَّمار الهائل في البنية التَّحتيَّة، فكانت هذه العودة عودةً فارغةً من كلِّ شيءٍ إلَّا من شعارات الأبديَّة والخلود وترسيخ العبوديَّة وقيم الرُّضوخ للمستبدِّ التي بتنا نشاهد نماذجها المدجَّنة كلَّ يومٍ عبر المواقع الإلكترونيَّة.

لقد اعتبرت السُّلطة أنَّ المناهج الدِّراسيَّة وسيلةً رئيسةً لصناعة هويَّةٍ جديدةٍ لسورية المتجانسة وفقاً لرؤيتها الخاصَّة، فاستمرَّت بفرض مادَّة التَّربية القوميَّة التي عمل النِّظام من خلالها على ترسيخ مفاهيم قيم البعث والمنجزات الهدَّامة للأسرة الحاكمة، كما غيَّرت مادة التَّاريخ لتُحكم السَّيطرة على عقول الطُّلاب وتوجُّهاتهم، فجعلت قادة الميليشيات رموزًا تاريخيَّةً ليُقتدى بها، ممَّا يشكِّل خطراً كبيراً على رسم ملامح هويَّةٍ مختلفةٍ للجيل الجديد، لا سيَّما بعد استخدام إيران المدارس والمساجد لنشر التَّشيُّع مستغلَّةً انتشار الجهل والأميَّة وفقر النَّاس وحاجتهم كلُّ ذلك خدمةً لأجندتها، كما تمَّ اعتماد اللُّغة الفارسيَّة إلى جانب اللُّغة الرُّوسيَّة بوصفها لغةً جديدةً في التَّعليم، وراحوا يفتتحون المراكز والمعاهد لتعليمها وترسيخها في ذهنيَّة هذا الجيل.

لقد تحوَّلت أحلام هذا الجيل البريئة التي لم تكن تتجاوز الحصول على لعبةٍ أو الخروج في نزهةٍ إلى السَّعي المرير وراء تأمين مصدر عيشهم

إنَّ النُّزوح الدَّاخليَّ وعدم الاستقرار الذي عاشه جيل سوريا في فترة الصِّراع أفقده ميِّزة التَّعلق الفطريِّ بالمكان ممَّا أدَّى إلى نسف مفهوم الوطن برمَّته، فقد غدا هذا الجيل غير قادرٍ على بناء علاقاتٍ اجتماعيَّةٍ صحيَّةٍ على مستوى البيئة المؤقَّتة التي عاش بها وعلى مستوى المدرسة التي لم تستطع أن تبني مفاهيم المواطنة وحبِّ الوطن داخله، ممَّا ترك أثراً نفسيَّاً عميقاً في شخصيَّة هذا الجيل حيال مسألة الانتماء للوطن أو الدِّفاع عن هويَّته، فالهويَّة حقيقةٌ إدراكيَّةٌ، يُدرِكُ بها الفرد ذاته ويعيها، كما يُدرِكُ الآخر الذي يُشعره بتميُّزه وفاعليَّته داخل وطنه، لقد تحوَّلت أحلام هذا الجيل البريئة التي لم تكن تتجاوز الحصول على لعبةٍ أو الخروج في نزهةٍ إلى السَّعي المرير وراء تأمين مصدر عيشهم، فلم يعد للوطن حيزٌ من ذاكرتهم التي ملأتها الحرب بصور الدَّمار والخراب والفَقْد. إنَّ كلَّ ذلك كان كفيلاً بتخلُّف سوريا عن ركب الإنسانيَّة وحقوقها، ممَّا جعل منظَّمة فريدوم هاوس (Freedom house) تصنِّف سوريا في التَّقرير الصَّادر عام 2021م، على أنَّها تقع في قاع التَّرتيب العالميِّ للدُّول من حيث انعدام الحريَّات المدنيَّة والحقوق السِّياسيَّة.

ختاماً: يقول المؤرِّخ الاجتماعيُّ آرثر مارويك (Arthur Marwick) في كتابه (الطَبيعة الجديدة للتَّاريخ)، بأنَّه: "من خلال الإحساس بالتَّاريخ فقط، تؤسِّس المجتمعات هويَّتها، وتوجِّه نفسها، وتفهم علاقتها بالماضي وبالمجتمعات الأخرى"، ويبقى تساؤلنا كيف سيكون لجيلٍ عاش عقداً من عمره ضمن صراعاتٍ داميةٍ تهافتت فيها قوى الاحتلال الأجنبيِّ التي تعيش في أحقادٍ تاريخيَّةٍ على وطنه ألَّا تتشوَّه هويَّته، وألَّا يفقد أيَّ حسٍّ بالانتماء للوطن الذي غدا بالنسبة له موطن ذاكرةٍ مشوَّهةٍ.