سوريا بين تهافت النظام ورداءة المعارضة

2020.09.19 | 00:03 دمشق

thumbs_b_c_4ca9de2481f11ed5e740f2c4447ccfcd.jpg
+A
حجم الخط
-A

لم يخفِ معظم السوريين خيبتهم من اجتماعات اللجنة الدستورية قبل أن تبدأ جولتها الثالثة، والتي لم تنجح تصريحات رئيس وفد المعارضة السيد هادي البحرة المتفائلة بخصوص الجلسة الأولى منها، في تغير شيء من خيبتنا، ودون أن يكون لأعراض الكورونا المعطِلة، والتي ظهرت على بعض من أعضاء الوفد القادمين من سوريا سبب في ذلك.

إشكالية اللجنة الدستورية التي جاءت بمرجعية القرار الأممي 2254، وضمن حزمة سلال الحل السياسي من أجل تحقيق مرحلة انتقال سياسي، تطلبت جمع طرفي الصراع داخل سوريا، أي النظام والمعارضة، ولا بأس من توليد طرف ثالث منهما أو بينهما يتكون من ممثلي المجتمع المدني، للقيام بالمهمة المستحيلة لتربيع الدائرة.

هي مهمة مستحيلة حقاً، لأن النظام لا يعترف أساساً بوجود معارضة من خارجه، فالأسد الأب بُعيد انقلابه في تشرين الثاني 1970 رتب سلطته المطلقة عبر استفتاء شعبي بداية عام 1971، ليصبح رئيسا لسوريا وقائدا للجيش والقوات المسلحة وأمينا عاما للقيادة القطرية لحزب البعث، ولم يتأخر في العام التالي من إعادة ترتيب معارضة سياسية باسم "الجبهة الوطنية التقدمية" التي يقودها حزب البعث، وجاءت الخطوة الثالثة في آذار 1973، التي فَصّلتْ دستورا لسوريا يشرعن هيمنة الحزب القائد على كل مفاصلها، واحتكار الفضاء العام للسياسة والاقتصاد والمجتمع.

حيث ابتلعت السلطة السياسية بالنتيجة الدولة والمجتمع، ولم يعد الفصل بين هذه السلطة وبين مؤسسات الدولة المملوكة للسلطة ممكنا، إذ غدت تلك المؤسسات عطاء ومنة من النظام لشعب جاحد لا يشكر، مما منح النظام حق تدميرها خلال العشرية الأخيرة من عمر الثورة، فيما بات على السوريين مهمة الحفاظ عليها.

لذلك نجد أن إشكالية اللجنة الدستورية، هي إشكالية غياب الدولة الوطنية بالأساس، لصالح دولة الاستبداد الكليانية، وهي إشكالية تبدو غير مفهومة بالنسبة لأغلب الدول والقوى الغربية، قياسا على منظوماتها الفكرية والسياسة، بينما هي تشكّل المنطق الوحيد الذي يحرك دولة الاستبداد المتخلّفة، التي لا يحكمها أي عقد اجتماعي سوى العلاقة بين الرعية والراعي، وفي هذه العلاقة لا حقوق للرعية حتى لو كتبت في الدستور المعطل مسبقا بقانون الطوارئ!

فالكارثة التي يعيشها السوريون منذ عشر سنوات، لا يبدو أنها تأخذ حيزاً في سياق اهتمامات هذا النظام، على اعتبار أنها جزء من المؤامرة التي جاءت بقانون قيصر كأحد نتائجها، مع أن الجميع يعرف أن أزمة هذا النظام الاجتماعية والاقتصادية هي قبل قانون قيصر، والذي جاء نتيجة لتلك الأزمات التي صنعتها حرب النظام ضد شعبه، وسياسة التدمير الشامل والأرض المحروقة.

مع أن النظام ينكر تلك الحقائق أو يكذب ببساطة، فهو "يكذب حتى في أخبار النشرة الجوية" كما قال الكاتب الراحل ممدوح عدوان، بداية ثمانينات القرن الماضي، لذلك هو ينكر مسؤوليته عن الخراب الحاصل في سوريا، كما ينكر مسؤوليته حول تدمير البنى التحتية ومؤسسات الدولة والمجتمع، كما كان ينكر وصول جائحة كورونا "كوفيد 19" التي غزت العالم أجمع، كما حاول تقليل أعداد الوفيات لديه تاليا، لكننا بات مؤخراً يُضخم الأمر بالتنسيق مع إيقاع الإعلام الروسي الذي أراد تحميل الأزمة الاجتماعية والاقتصادية في سوريا لقانون قيصر والسياسة الأميركية فقط.

ولمن لا يصدق أن النظام يكذب، يمكن للمستشارة السياسية لدى النظام بثينة شعبان أن تعيد على مسامعهم ادعاءها السابق بداية هذا العام بأن: "الاقتصاد السوري تحسّن خمسين مرة عما كان عليه قبل 2011"، رغم أن قيمة الدولار الواحد في ذلك التاريخ كانت تساوي 48 ليرة سورية فقط، بينما هي الآن تساوي 2230 ليرة سورية! ليس مهما أن تصدق ذلك أو لا تصدق، ليس مهما أن ملايين السوريين لا يجدون قوت يومهم الآن، ليس مهما أن الملايين منهم فقدوا المأوى والأمان حيث بات 60% منهم خارج بيوتهم بين نازح ولاجئ، ليس مهما أن قرابة 100 ألف مواطن سوري مختفٍ قسريا منذ آذار 2011، ليس مهما أيضا أن 70% من البنى التحتية للاقتصاد والصحة والتعليم تم تدميرها بشكل كامل أو جزئي، كل ذلك غير مهم لأن الأسد الصغير ومستشارته السياسية فقط يعرفان بأن هناك "عملاً قوياً" في مجالات الزراعة والصناعة والمنشآت!

ولمن لا يصدق أن النظام يكذب، يمكن للمستشارة السياسية لدى النظام بثينة شعبان أن تعيد على مسامعهم ادعاءها السابق بداية هذا العام بأن: "الاقتصاد السوري تحسّن خمسين مرة عما كان عليه قبل 2011"

النظام في سوريا أضحى كله كذبة، وكذلك الإصلاح كذبة كبيرة، والدستور أيضا مجرد كذبة في هذه السردية، ليس لأننا لا نحتاج دستورا، بل لأننا نحتاج أكثر إلى آلية تمنع الحمار من التهام الدستور، كما عبر الراحل محمد الماغوط، وتمنع نظام الفساد والاستبداد من التغول على النصوص الدستورية وشرعة حقوق الإنسان والحريات العامة والخاصة، لذلك نحن نحتاج إلى عقد اجتماعي جديد يضمن حقوق كل السوريين بصفتهم مواطنين في دولة المساواة والحرية وليسوا مجرد رعية، في حظيرة الأب القائد. بانتظار هذا العقد الاجتماعي يجب تغيير النظام المتهالك ليس في سوريا فقط، بل كل النظام العربي الذي ولد في سايكس بيكو، وما زال بطريقة أو أخرى يدافع عن شرعيته المفقودة، عقد اجتماعي لا يكون نتيجة توافق دولي وإقليمي على مصالحهم، بل يكون تعبيرا عن إرادة شعوب المنطقة ومصالحها، كما حصل في جنوب أفريقيا وغيرها.

فعندما انتخب "دو كليرك" لرئاسة جنوب أفريقيا، كان يُدرك سلفا أن نظام الأبارتايد أو الفصل العنصري لا يمكن أن يستمر للأبد، لكنه كان يحتاج بذات الوقت إلى طرف آخر لإنجاز التسوية التاريخية، تلك العملية التي استمرت لأربع سنوات بين حكومة دو كليرك وبين نيلسون مانديلا، الذي عارضه كثيرون من حزبه بمن فيهم زوجته، قبل أن يُصبح رئيسا لجنوب أفريقيا في انتخابات عام 1994.

المصيبة عندنا أن الأسد الصغير لا يرى في كل المقتلة السورية إلا أنه المنتصر على شعبه، وهو من راهن على إيران ثم روسيا للحفاظ على كرسيه، حتى أكلوا البلد من تحته وهو سعيد بانتصاره، لأنه لا يعترف أصلا بالشعب السوري الذي خرج مطالبا برحيله، فهذا الشعب هو جزء من المؤامرة الكونية ضده، ولا مجال بالتالي لهؤلاء في سوريا التي يراها وطنا لمن يدافع عن سلطته فقط.

في حين المعارضة السورية بلغت حدا من العجز أنها لم تستطع إلى الآن تطوير أيّا من أدواتها أو برامجها أو توحيد صفوفها، بل هي خسرت كل حروبها العسكرية والسياسية، ولم تتردد في رهن سياساتها ووجودها لهذا الطرف أو ذاك، ولم تتعلم من السياسة إلا اللعب على التناقضات الشخصية والمراهنات لدعم بقائها فقط، مهما قدمت من تنازلات لداعميها، حتى غدت بيدقا في حروبهم داخل سوريا وخارجها، مما أفقدها أي غطاء شعبي أو وطني، وربما لن نجد كذبة أكبر من تهافت النظام الممانع، إلا كذبة ورداءة تلك المعارضة غير الوطنية.

فكلاهما يتصارعان على مصالح داعميهم أكثر مما يتصارعون على مصالح سوريا والسوريين، وكلاهما بانتظار "غودو" الذي لن يأتي، لكننا ندرك بأن حركة التاريخ التي تسير بخط متعرج، هي في المحصلة تتقدم إلى الأمام باستمرار.