إعادة بناء الاقتصاد السوري يتطلب أكثر من مجرد إصلاحات ظاهرية أو دعوات للمصالحة مع الواقع القائم، إنه مشروع مصيري يتطلب مواجهة حقيقية مع منظومة الفساد التي أضعفت أسس الدولة وأفقرت شعبها، لا يمكن تحقيق هذا الهدف من خلال إعادة تدوير شخصيات ورموز ارتبطت بشكل وثيق بالفساد والاستغلال، كما هو الحال في حالة بعض رجال الأعمال المعروفين مثل محمد حمشو، الذي أثار استقباله في سوريا مؤخراً احتجاجات شعبية واسعة ودعوات للتصدي لمحاولات إعادة تأهيله سياسياً واقتصادياً.
يدرك الشارع السوري أن عودة شخصيات مثل محمد حمشو إلى الواجهة ليست سوى استمرار لنمط اقتصادي يعيد إنتاج الفقر وعدم المساواة، فالاحتجاجات التي اندلعت رفضاً لهذه العودة تعبّر عن وعي متزايد لدى الناس بخطورة هذا المسار، ورفضهم القاطع لاستمرار استخدام الدولة كأداة لخدمة مصالح نخبة ضيقة على حساب الأغلبية الساحقة.
هذه الاحتجاجات ليست مجرد رفض لشخص بعينه، بل هي تعبير عن رفض أوسع لمنظومة اقتصادية تقوم على المحسوبيات والاحتكارات.
سوريا بحاجة إلى سوق اقتصادي يستند إلى الشفافية، حيث يتم تطبيق القوانين على الجميع دون تمييز، وحيث تُمنح الفرص بناءً على الكفاءة وليس العلاقات السياسية..
من هنا، إن الاعتماد على هذه النخب الاقتصادية المأزومة يعيد إلى الأذهان مقولة الاقتصادي الحائز على جائزة نوبل، جوزيف ستيغليتز: "الاقتصادات التي تُبنى على الفساد والمحسوبية تظل دائماً عاجزة عن تحقيق التنمية الحقيقية، لأن الفساد يستهلك موارد البلاد ويقتل روح الابتكار والتنافسية"، وهذا تماماً ما يعاني منه الاقتصاد السوري اليوم، الفساد لا يقتصر على سرقة المال العام، بل يمتد ليقتل فرص النمو الحقيقي ويعزز الانقسامات الاجتماعية.
في المقابل، الاقتصاد الناجح هو الذي يعتمد على الكفاءات والابتكار وليس على الولاءات الشخصية، وكما قال الاقتصادي الشهير ميلتون فريدمان: "السوق الحر لا يعني غياب القواعد، بل يعني وجود قواعد عادلة تطبق على الجميع دون استثناء".
سوريا بحاجة إلى سوق اقتصادي يستند إلى الشفافية، حيث يتم تطبيق القوانين على الجميع دون تمييز، وحيث تُمنح الفرص بناءً على الكفاءة وليس العلاقات السياسية.
الاحتجاجات ضد "حمشو" وأمثاله يجب أن تكون نقطة انطلاق لإعادة التفكير في أولويات الاقتصاد السوري، يجب أن يتوقف التلاعب بمقدرات الوطن لصالح فئة صغيرة، ويجب أن تبدأ عملية إعادة بناء الاقتصاد عبر استقطاب الكفاءات السورية الموجودة في الخارج، الذين نجحوا في بيئات اقتصادية قائمة على الشفافية والعدالة، فهؤلاء المستثمرون يمتلكون الخبرات ورؤوس الأموال التي يمكن أن تعيد سوريا إلى خريطة الاقتصاد الإقليمي، لكنهم يحتاجون إلى ضمانات حقيقية وليس إلى وعود فارغة.
تجارب الدول التي خرجت من أزمات مشابهة تظهر بوضوح أن النجاح يبدأ من مواجهة الماضي بجرأة، رواندا، على سبيل المثال، نجحت في النهوض من أزمتها لأنها اعتمدت على محاسبة الفاسدين وخلق بيئة استثمارية شفافة، كما أكد الرئيس الرواندي بول كاغامي: "المصالحة الحقيقية تبدأ من المحاسبة وتحقيق العدالة، وليس من التجاهل أو النسيان".
الحل في سوريا ليس بإعادة شخصيات مثل "حمشو" إلى الواجهة، بل بفتح الأبواب أمام جيل جديد من رجال الأعمال والمستثمرين الذين يؤمنون بالعمل الشريف والابتكار.
الاقتصاد السوري بحاجة إلى من يبنيه على أسس جديدة تعيد الثقة بين الدولة والمواطن، وبين النظام الاقتصادي ورأس المال السوري في الداخل والخارج. كما قال الاقتصادي الكلاسيكي آدم سميث: "الثروة الحقيقية لأي أمة تكمن في قدرتها على تحقيق العدالة والإنصاف بين مواطنيها"، هذه العدالة يجب أن تكون جوهر أي إصلاح اقتصادي في سوريا.
العدالة والمحاسبة يجب أن تكونا حجر الأساس لأي عملية إصلاح اقتصادي أو سياسي حقيقي في سوريا، إنّ استمرار التعامل مع شخصيات اقتصادية تورّطت بشكل مباشر أو غير مباشر في إطالة عمر النظام ودعمه مادياً ولوجستياً، ليس مجرد خطأ، بل هو تعميق لجراح السوريين وإطالة لمعاناتهم.
هؤلاء الذين جمعوا ثرواتهم من خلال دعم الفساد واستغلال موارد البلاد كانوا جزءاً لا يتجزأ من المنظومة التي دفعت بالبلاد إلى حافة الانهيار، ويجب أن يخضعوا للمساءلة، لا أن يتم إعادة تأهيلهم تحت شعارات المصالحة أو الضرورات الاقتصادية.
لا يمكن بناء اقتصاد جديد على أنقاض اقتصاد قائم على الفساد والمحسوبية، محاسبة هؤلاء الفاعلين ليست مجرّد مطلب أخلاقي، بل هي شرط جوهري لإعادة الثقة بين الدولة والمواطن، ولإرسال رسالة واضحة بألا أحد فوق القانون.
وكما قال الاقتصادي الكبير توماس بيكيتي: "المجتمعات التي تفشل في معالجة جذور عدم المساواة تفقد استقرارها وتصبح عرضة للاضطرابات"، وهذا هو الحال في سوريا اليوم، حيث أصبح الفساد وعدم المحاسبة هو السمة المميزة للنظام الاقتصادي.
سوريا بحاجة إلى إعادة تعريف مفهوم العدالة، ليس فقط كقيمة إنسانية، ولكن كركيزة أساسية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، وإن تجاهل هذه الخطوة يعني الاستمرار في دوامة الفوضى وعدم الاستقرار..
إذا أرادت سوريا أن تنهض، فإنها بحاجة إلى بناء اقتصاد قائم على الكفاءة والابتكار، اقتصاد يفتح الأبواب أمام السوريين في الداخل والخارج للمساهمة في إعادة الإعمار، وهذا لن يتحقق من دون إنشاء منظومة عدالة حقيقية تكفل حقوق الجميع وتضمن محاسبة من تورطوا في إفقار الشعب السوري واستغلال موارده.
وإنّ إعادة بناء المؤسسات الاقتصادية يجب أن تكون مترافقة مع خطوات جادة لاستقطاب الكفاءات السورية المهاجرة، وتقديم ضمانات تحمي استثماراتهم من الاستغلال والفساد.
سوريا بحاجة إلى إعادة تعريف مفهوم العدالة، ليس فقط كقيمة إنسانية، ولكن كركيزة أساسية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، وإن تجاهل هذه الخطوة يعني الاستمرار في دوامة الفوضى وعدم الاستقرار.
العدالة ليست رفاهية أو خياراً، بل هي ضرورة لبناء مستقبل يليق بالسوريين، مستقبل يضع حداً للفقر والفساد، ويعيد للوطن صورته كدولة قادرة على تحقيق الإنصاف والتنمية، ومن دون هذا المسار، ستظل سوريا أسيرة الماضي ورموزه، ولن تكون هناك فرصة لبناء مستقبل حقيقي.