"سوريا الشعب" أم "سوريا الأسد"

2018.11.19 | 00:11 دمشق

+A
حجم الخط
-A

"أكنُّ احتراماً كبيرا لسوريا وشعبها العظيم" تلك عبارة أطلقها مؤخراً الرئيس الأمريكي "دونالد ترمب"، في معرض إجابته عمّا يمكن أن تفعله أمريكا تجاه سوريا.

     ليكن موقفك وموقف العالم تجاه ترامب كيفما كان، إلا أن عبارة طيبة كهذه تجاه سوريا وشعبها من رئيس قوي لأقوى دولة في العالم لا بد أن تكون موضع تقدير، لأنها تعطي بعضاً من الأمل لبلد طالما أشاح الأقوياء الفاعلون الطرف عنه. وهنا، سيخرج على الفور مَن يقول: لقد سمعنا هذا الصنف من الكلام كثيرا؛ ولا زال صدى عبارة أوباما حول "الخط الأحمر"، وعبارات آخرين حول "أيام الأسد المعدودة"، وحتى عبارة ترامب ذاته في توصيف الأسد بـ "الحيوان"؛ في أذهان السوريين جعجعة بلا طحين؛ فكيف لعبارات ترامب الأخيرة هذه أن تكون مختلفة عمّا سمعناه سابقاً؟!

     لا يَكمن اختلاف هذه العبارة عمّا سبقها من عبارات بأن ما سَلَف كان خلبياً؛ وأن هذه العبارة ستكون على درجة من الصدق والقوة، بحيث نشهد ترجمة فورية لها. لا، ليس هذا هو المقصود؛ الفرق يكمن باختلافها الفعلي عن كل ما سبقها، لأنها فعلاً تلامس جوهر القضية السورية. ترامب يتحدث عن /سوريا البلد/، /سوريا الأمة/، /سوريا الشعب/، /سوريا الدولة بمعناها الحقيقي. لأول مرة هناك مَن يتحدث عن ذلك الجوهري. أما تلك السورية التي تتحدث عنها سلطة الاستبداد وأبواقها والمسؤولون الروس والإيرانيون فهي "سوريا السلطة" و"سوريا الحكم" و"سوريا الأسد". هذه فقط التي يشير إليها السيد بوتين بـ "السلطة الشرعية". هذه السوريا هي التي أعطت بوتين

لأول مرة مسؤول دولي فاعل يطلق عبارة تلامس جوهر القضية السورية: هناك بلد عظيم اسمه سوريا، وهناك شعب يستحق الاحترام اسمه الشعب السوري

الإذن بالاحتلال، وتجريب أسلحته وإبداعاته وقدراته التدميرية، وهي التي أعطت ميليشيات إيران الموافقة على القتل والتدمير والتغيير الديمغرافي في سوريا الشعب وسوريا البلد وسوريا الدولة الحقيقية.

     سوريا التي تحدّث ترامب عنها وعن احترامه لها واصفاً شعبها بالعظيم لم يأتِ بوتين على ذكرها يوماً. تلك سوريا العظيمة هي سوريا الشعب التي ثارت على منظومة الاستبداد. ومن هنا أتى القول بأنه لأول مرة مسؤول دولي فاعل يطلق عبارة تلامس جوهر القضية السورية: هناك بلد عظيم اسمه سوريا، وهناك شعب يستحق الاحترام اسمه الشعب السوري. هكذا لامس ترامب بعبارته هذه جوهر القضية التي فشلت القيادة الروسية ملامستها حتى الآن.

     عندما يتحدث مبعوث إدارة ترامب للملف السوري السيد "جيمس جفري" عن إحصاءات سورية يذكر مليون سوري قضوا بهذه الحرب، وعن مئات آلاف السوريين الذين مازالوا في معتقلات النظام، وعن آلاف قضوا تحت التعذيب، وعن ملايين المهجّرين داخلاً وخارجاَ، وعن آلاف المختطفين والمفقودين، وعن أمهات حزنهن بلا ضفاف ثكلن أحبة، وعن أرامل تقطعت بهن السبل وأيتام بلا مأوى وجيل بلا مدارس؛ أي عن لحم ودم وأرواح بشر. أما السيد بوتين وشويغو ولافروف فيتحدثون عن ستة آلاف طلعة للطائرات الحربية، وعن ستمئة صنف من الأسلحة المجرّبة، والمليارات التي تحتاجها الدولة السورية، وعدد القوات العسكرية الإيرانية والأسدية والروسية؛ أي عن قتل وتدمير وسلطة.

     هذا ليس للمفاضلة؛ فالكل آجر بالمأساة السورية. ويكفي أمريكا إدارة أوباما التي قتل صمتها وإدارة ظهرها والتغاضي عن الإجرام الإيراني والروسي. ولكن يشفع لها الآن أنها تنخرط بجدية بالقضية السورية، وعلى الأقل تتحدث عن شعب وعن بلد اسمه سوريا لا عن "الدولة السورية" بمفهومها الأسدي أوالبوتيني.

     غير واضح إن كان الفعل الروسي أو المقاربة الروسية للقضية السورية بهذه الطريقة مقصودا أم عن جهل وجهالة. فإن كانت روسيا لا ترى في سوريا إلا "سوريا الأسد" أو/ "سوريا السلطة" (والتي تسميها "الدولة السورية" أو "السلطة الشرعية") كي تبرر لنفسها التدخل العسكري؛ فإن فعلها في سوريا أو مقاربتها للقضية ككل ستكون مدانة تاريخياَ وقانونياَ وأخلاقياَ؛ وبالتأكيد ستتم ملاحقة روسيا قانونياً وجزائياَ وإنسانياً، حتى ولو كانت عضواً في مجلس الأمن، وبإمكانها عرقلة أي محاسبة قانونية على الإجرام؛ ولكن منابر العالم ومحاكمه لمحاسبة المجرمين كثيرة.

     كثيرة هي المرات التي قيل للروس بأنكم تاريخياً أصدقاء للشعب السوري؛ فلماذا تختارون العداء له والاصطفاف مع نظام يقتل هذا الشعب؟! ويكون الجواب عادة بالإنكار. وعندما يكون هناك

تلك القناعات والرؤى الخلبيّة والمزيّفة حرمت الروس من أي جنى سياسي حتى الآن

محاولات لمنطقة الأمور والمرافعة عن تلك السياسية منفصمة الرؤية، كان الروس يتحدثون عن "سلطة شرعية تواجه الإرهاب الذي يستهدف الدولة السورية". وغير معروف إذا كانوا يعلمون مَن وراء ذلك الإرهاب؛ أو إذا كان هذا الشعب السوري إرهابياً كما يقنعهم نظام الاستبداد. ومن هنا ربما لا يتحدثون عن شعب سوريا. تلك القناعات والرؤى الخلبيّة والمزيّفة حرمت الروس من أي جنى سياسي حتى الآن. لقد صرّح الروس أمام العالم بأنه خلال ثلاثة أشهر سينهون الوضع في سوريا. مضى على تدخلهم العسكري ثلاث سنوات ونيّف؛ ولم يتوصلوا إلى ما أعلنوه. والسبب واضح ويكمن بقناعات ورؤى خلبية ومزيفة تبتعد عن جوهر القضية السورية؛ وهذا الجوهر يقول إن الصراع في سوريا هو بين منظومة استبداد وشعب عظيم في بلد عظيم يريد الحرية؛ ولكنهم مصرّون ألا يروا ذلك.

     عبارة ترامب: "أكنُّ احتراماً كبيرا لسوريا وشعبها العظيم"- وما تبعها من عبارات تتحدث عن ضرورة إيجاد حل يعيد سوريا إلى الحياة- لامست جوهر القضية السورية مباشرة؛ وهنا تكمن أهميتها؛ ومن هنا يمكن أن تكون الهداية إلى حل حقيقي؛ وبوقت لن يكون ثلاث سنوات أو ثلاثين سنة إذا استمرت المقاربة الروسية هي السائدة. لا بد لروسيا أن ترى بسوريا بلداً عظيما، وبشعبها شعباً كريما يستحق الحرية؛ هذا إذا أرادت أن تخرج من سوريا ببعض ماء الوجه.