سوريا "الروسية": الكذب والنسيان

2018.07.22 | 00:07 دمشق

+A
حجم الخط
-A

يعتمد "الحل" الروسي للقضية السورية على اعتبار السوريين دون سوية البشر الذين يمتلكون كرامة وحقوقاً.. وذاكرة. يطالبهم أن ينسوا ببساطة كل ما حدث، أو على الأقل أن يتظاهروا بالنسيان ويقنعوا بما حل بهم من ويلات ونكبات كمصيبة طبيعية أو عقاباً إلهياً.

يشترط هذا الحل السياسي على السوريين أن يجهّلوا الفاعل، أن ينسبوا للقدر وحده مآسيهم، بل ومن الأفضل أن يلوموا أنفسهم، أن يخطّئوا أرواحهم، أن يؤنبوا ضمائرهم. وإن فعلوا ما هو مطلوب منهم، سيكرمهم بفتح أبواب التوبة والغفران. سيمنحهم الحق بالبقاء على قيد الحياة.

فحوى العقيدة السياسية الروسية أن أي تمرد أو عصيان على السلطة، مهما كانت هذه السلطة جائرة، هو "إرهاب"، أكان ذلك في البوسنة أو كوسوفو أو أوكرانيا أو الشيشان أو جورجيا.. أو سوريا. الدعس على رقاب ملايين المواطنين ليس إلا مكافحة للإرهاب. القتل الجماعي والتدمير الشامل "علاج" لا بد منه. كأن روسيا في مطلع القرن الواحد والعشرين تنتقم من روسيا مبتدأ القرن العشرين، التي شهدت واحدة من أكبر الثورات في التاريخ الحديث. كأن فلاديمير بوتين القيصري يثأر من فلاديمير لينين الثوري.

فحوى العقيدة السياسية الروسية أن أي تمرد أو عصيان على السلطة، مهما كانت هذه السلطة جائرة، هو "إرهاب"

وفق هذه العقيدة، سوريا الروسية تقوم على إلحاق الهزيمة بالسكان، المتمردين والثائرين منهم أو الموالين بلا تمييز. تعميم الانسحاق على الجميع بمن فيهم تلك العصابة الأسدية الحاكمة. فما يهم روسيا هو ترتيب "الدولة" وترسيخها ككائن "مقدس" متعالٍ وغامض، لا يتجسد إلا بوصفه قوة قاهرة غير مرئية. وفي صميم هذه العقيدة لا حساب للبشر ولا اعتبار لرغبات المواطنين إزاء أي معطى جيوسياسي أو أيديولوجي، أو إزاء "مصلحة الدولة" التي لا يفقهها إلا أهل السلطة حصراً.

لم تكن روسيا ضد "الثورة السورية" وحدها، بل هي ضد فعل الثورة في أي مكان. ويعود ذلك إلى التكوين السياسي والتجربة التاريخية والشخصية لفلاديمير بوتين، الذي عانى من "تروما" الفوضى المهينة والمخزية لروسيا ما بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، والتي عايشها عن كثب. لقد كان الفشل حينها في التحول الاقتصادي من الاشتراكية إلى الرأسمالية، ومن الشيوعية إلى الديموقراطية، عبارة عن مسلسل من الكوارث التي لحقت بروسيا وشعبها. كانت روسيا الواقع على النقيض من روسيا "الجبارة" التي يتخيلها. تلك هي اللحظة التي شكلت ضغينة بوتين للثورات، وميله العميق لتقديس الدولة والسلطة شبه المطلقة..

حفظ "النظام" (على الضد من "الفوضى") مهمة مقدسة ولو استوجبت إبادة أو تطهيراً طائفياً أو عرقياً

يؤمن بوتين بالدولة القومية ذات البعد الإيماني، الغيبي والصوفي، ويجدد على هذا النحو تلك العلاقة العضوية بين القيصرية والكنيسة الأرثوذكسية، بنسخة أكثر حداثة، هي أقرب إلى الصياغة الفرنكوية في إسبانيا أو على مثال جوزيبي ماتزيني في إيطاليا، حيث مفهوم الدولة والهوية خليط من الرومانسية والتعصب الديني و"الوطنية" والسياسة الواقعية، منصهرة كلها بالعنف والإكراه وبفائض من "قوة الإرادة". وهذا ما يتلاءم تماماً مع تربيته العسكريتارية والمخابراتية.

لقد كان استعداد بوتين الدائم لتجاهل كل الفظاعات التي ارتكبتها "الدولة السورية" بحق الملايين من مواطنيها، مرده تلك القناعة الراسخة أن صون "الدولة"، مهما أوغلت في الدم والجريمة، هو القانون الأول. حفظ "النظام" (على الضد من "الفوضى") مهمة مقدسة ولو استوجبت إبادة أو تطهيراً طائفياً أو عرقياً.

من هذه القناعات البوتينية يمكن تلمس نجاح "الحملة الروسية" في سوريا إلى حد كبير، فمن فحوى ما يسمى "مصالحات" موضعية ومناطقية، إلى فحوى الأفكار الرائجة حول مستقبل البلاد، تبدو السياسة الروسية هي المنتصرة حتى الآن. وما يمكن ملاحظته في الفضاء العام للبلاد، وفي لغة التداول والسجالات العمومية، هذا الميل للتسليم بـ"الحل الروسي"، وقوامه استسلام المواطنين للسلطة المتقمصة صفة الدولة من غير فصل أو تمييز.

في التصور الروسي لترجمة الانتصارات العسكرية إلى واقع سياسي مستقر، ليس المطلوب الاستسلام فقط، بل إعادة "تربية" السوريين وفق مبدأ محو الذاكرة والنسيان. وإن تعذر ذلك، فمن الأفضل تبني رواية رسمية يتم تأليفها الآن: انتصرت الدولة على شرورنا، طهرتنا من ذنوبنا، أنقذتنا من معاصينا. والعودة إلى حضنها والتوبة إليها هو الصواب الوحيد.

"سوريا الأسد" (الجديدة بنسختها الروسية) ستقوم على كيّ الوعي والبتر العنيف للذاكرة. لن "تسامح" الدولة إلا أصحاب الذاكرة المثقوبة، ولن تكافئ إلا الذين يغسلون دماغهم بالرواية الزائفة ويطمسون حقيقة ما حدث إلى حد المسح التام. انتصار رواية "النظام" شرط مفروض على السوريين الأحياء.

ما تطلبه هذه الدولة من السوريين ليس فقط إحلال الكذبة محل الوعي، الرواية الملفقة محل التاريخ، بل أيضاً محو الماضي من أجل ذلك، على السوريين مثلاً أن يتناسوا موتاهم وأن يجهِّلوا القاتل. العدالة الوحيدة المتاحة هي "نعمة" النسيان وما تجلبه من راحة للجميع. ليس للقابع في دهاليز التعذيب وزنزانات الرعب والإذلال سوى الغياب والصمت الأبدي. ليس للأموات إلا خجل وجود شواهد قبورهم، ليس للجرحى سوى إخفاء ندوب "عارهم... كل من ذاق الويل أو الهوان أو الإذلال أو فقدان الأحبة عليه أن يؤمن - بلا مواربة ولا شك – أن مصيبته مجرد ضريبة التمرد الأرعن الذي اقترفه هو وشعبه.

في التصور الروسي لترجمة الانتصارات العسكرية إلى واقع سياسي مستقر، ليس المطلوب الاستسلام فقط، بل إعادة "تربية" السوريين وفق مبدأ محو الذاكرة والنسيان

ليس أمراً عابراً ما يستشري اليوم في الفضاء العام السوري من ميول إلى طمس رواية الثورة، كشرط تفرضه غريزة ديمومة الحياة والعيش، وتعممه سياسة المنتصر الروسي، ويتبناه نظام الأسد. فالسوريون في الداخل خصوصاً، وكي يبقوا في الداخل، يتشربون تلك القناعة المسمومة: الرضوخ للشر الذي لا بد منه، السلطة القائمة بكل عسفها وجرائمها. الصمت والنسيان وحدهما يتيحان احتمال الحياة. الذين انخرطوا في الثورة قد لا يجدون القدرة على تحمل فداحة الهزيمة وثقل وطأتها إلا عبر خيانة الذاكرة والتقبل التدريجي للروايات المخاتلة من نوع "المؤامرة الكونية" و"الإرهاب" و"عسكرة الثورة" و"كنا عايشين".. إلخ، وصولاً إلى جلد الذات والشعور بالذنب إلى الأبد. أما الذين والوا النظام وأيدوه فلا يمكنهم احتمال حقائق ما اقترفوه إلا بالتناسي والتجاهل أوالكذب، أي باختراع ذاكرة زائفة وبديلة. هكذا، على أقل تقدير، سنكون أمام شعب من كوابيس.

إذاً، سوريا المستقبل وفق "الحل الروسي" (بتواطؤ عربي - إسرائيلي - دولي طبعاً) هي مجتمع الكذب والنسيان. ولنا أن نتصور حلاوة العيش في هكذا بلاد.