يعنون الكاتب الأميركي سام داغر كتابه بـ:(الأسد أو نحرق البلد) ليختصر بذلك مأساة سورية بعبارة إرهابية صريحة، ولكن كيف حدث ذلك؟ كيف امتلك أتباع السلطة الجرأة لرفع شعار القتل من أجل بقاء الحاكم؟ وكيف يصمت العالم في ظل إعلان القتل والتدمير؟
لقد صوَّر الكتاب نموذج الحكم السائد في سوريا، وهو نموذج ينطبق على كثير من البلدان العربية، هذه البلدان التي عرفت شكلها الجغرافي والسياسي بعد تقاسم الدول الأوروبية لها، كمناطق نفوذ وهيمنة، وما إن خرجت القوى الغربية حتى أصبح لها كيانها الجديد، بوصفها جزءاً من الوطن العربي، وقد وصل حكَّام هذه البلدان للحكم تحت اسم الثورة، فقد كانت ثورة من أجل طرد المحتل الأجنبي أو من أجل استكمال السيادة، وفي كلا الحالتين تحوَّل الأمر إلى انقلاب عسكري، إذ تشترك جميعها في استخدام الجيش كأداة في الوصول إلى السلطة، ثم وضع البلاد تحت قوانين الحرب على أنها في حالة طوارئ، مما يعني تعطيل الحياة السياسية لجميع الأحزاب والمنظمات التي تعارض حكمه، ثمَّ أسس حكَّام هذه الانقلابات أنظمة جمهورية قومية في ظاهرها وشعاراتها، أمَّا في باطنها فقد كانت أنظمة ديكتاتورية أساسها الجيش المنحاز للحاكم الطائفي، أو القبائلي أو الحزبي أو غيرها من أشكال الانتماءات الضيقة التي تميز بين السلطة والشعب بناءً على اعتبارات الطائفة والحزب والولاء للسلطة.
كما لجأت الأنظمة الدكتاتورية إلى إيقاف عجلة التاريخ للقبض على اللحظة التاريخية التي هيأت الفرصة لها للاستيلاء على السلطة، لذا اتبعت سلسلة إجراءات للتغيير الجذري في هيئات الدولة ودستورها ومؤسساتها العسكرية والأمنية والقضائية بكامل هيكليتها وطبيعة واجباتها بشكلٍ يجعلها غير قادرة على تحقيق الأهداف التي وجدت من أجلها، كما حرَّفت مهمتها بتعزيز قوة النظام القائم ومناعته ، فأصبحت أداة قمع وفساد تمارس عملها وفقاً لقوانين تمَّ تفصيلها على حجمها، وبذلك أُفرغت من مضمونها ومهمتها الحقيقية في الحفاظ على الحريات والإشراف على تحقيق العدالة الانتقالية وتداول السلطة، هنا تصبح الدولة أداة طيعة بيد الحاكم الدكتاتور الذي يحتكرها بتقريب عائلته وعشيرته وطائفته منه، ليصبح الجيش والمؤسسات الأمنية تحت أمره بشكل كامل، بالإضافة إلى اقتصاد الدولة، وبذلك يحتكر الحياة السياسية والميادين كافَّة، فيصبح السياسي الأول، والاقتصادي والفلاح والعامل والطالب والمفكِّر الأول الذي لا يسبقه أو يتفوق عليه أحد، هو الأخ والأب والقائد والزعيم الذي لا يخطئ، كل شيء في البلاد موجه لخدمته، يتحكم بكل شيء حتى في أذواق الناس وقيمهم الجمالية والفنية، وقد صور جورج أورويل في رواية (1984)، نموذجاً لحكم "الأخ الأكبر"، الدكتاتور، الذي يراقب شعبه في كل مكان، حتى داخل بيوتهم، ووجهه قابع دائماً على شاشة التلفاز، الجميع يهتف باسمه "الأخ الأكبر" وتُقرع الطبول لظهوره ويعلو التصفيق لكلامه مهما كان الكلام سخيفاً وفارغاً من أيِّ معنى، النشيد الوطني للبلد يُكتب من أجله ويُعزف له، ليمجِّده لا ليمجِّد الوطن؛ لأن تمجيد "الأخ الأكبر" تمجيد للوطن، ومحبة الأخ والدفاع عنه واجب وطني، بهذا الشكل تحول الحكم إلى حكم جمهوري بطابع ملكي (جملكي) يثبِّت الحاكم نفسه حاكماً للأبد، ويسمي من سيخلفه بالحكم، ليقرر مستقبل البلاد من بعده، كما أثبتت ذلك التجربة السورية التي كانت الأوضح في توريث الحكم، في حين أن الربيع العربي حال دون اكتمال تجارب أخرى مشابهة لتجربة سوريا (مصر، ليبيا، اليمن)، فتصبح الدكتاتورية مترسخة في مؤسسات الدولة وهيئاتها بعد أن أسَّس لها الحرس الانقلابي القديم، وأشرف على نقلها للوريث.
لجأت الأنظمة الدكتاتورية إلى إيقاف عجلة التاريخ للقبض على اللحظة التاريخية التي هيأت الفرصة لها للاستيلاء على السلطة
لقد تماهى الحاكم الديكتاتور في سوريا مع الدولة، فأضحى اسمه مقروناً بها (سورية الأسد)، إذ أصبحت إرادة الديكتاتور الأسد أقوى من أيِّ إرادة ممَّا زاد في بطشه واستبداده الذي وصل إلى حالة إلغاء الآخر، فلم يسمح بظهور المتفوقين أو تكوين النخب؛ لأنه يخشى الآخر فلا يوجد اسم يعلو على اسمه بوصفه شخصية ثورية، فهو في حالة ثورة دائمة، مما يجعله معرضاً للخطر الذي يستهدفه، وبالتالي يستهدف دولته، فكانت مقاومة إسرائيل شماعة بطولاته الوهمية، ووسيلة لاستمرار حكم البلاد بشكلٍ طارئ، وبدستور يضعه على مزاجه، يسمح له بقمع أي معارضة بحجة إنها مدعومة من أعداء الخارج، في حين أن وجوده مرهون بالدول ذاتها التي يدّعي محاربتها، فهي التي دعمته ليبقى ممسكاً بكلّ سلطات الدولة، وعملت على استمرار هيمنته على شعبه وقمع ثورتهم معتمداً في ذلك على البنية الاجتماعية التي يحكم بموجبها؛ فتصبح الدولة مفرغة من معناها الحقيقي كدولة بعد أن تحولت إلى مُلْكٍ للحاكم، مفرغة من مؤسساتها ومن هيئاتها.
إنَّ شهوة السلطة لا تتوقف عند حدِّ التدمير؛ لأنَّ الديكتاتور يعدّ الدولة ملكه الشخصي وعليه أن يتمسك بكرسي الحكم حتى بعد موته، إنَّ هذا التماهي بين الديكتاتور والدولة جعل من العسير الفصل بينهما، لذلك فإنه عند قيام الثورة لإسقاط النظام الديكتاتور سقطت معه الدولة المتماهية معه، وذلك كله هيَّأ لظهور بنى اجتماعية تقليدية كانت مختبئة تحت رماد الدولة المنهارة.
ختاماً، يلخص شعار (سورية الأسد) معنى الهيمنة الدكتاتورية على الدولة، والسيطرة المطلقة عليها وعلى المجتمع، يتدرج هذا الشعار من الدولة الحزبية إلى الطائفية إلى العائلية، حوَّل فيها الديكتاتور أجهزة الدولة ومؤسساتها إلى أداة لحمايته، وسخر موارد البلد وثرواته من أجل تعزيز قوة سيطرته، متجاهلاً مصالح الشعب وحقوقه، هذا ما يترجم القمع الذي اتبعه في قمع الثورة الشعبية بشكلٍ سبَّبَ أكبرَ موجة هجرة في التاريخ الحديث، ليذكّرنا بمقولة ابن خلدون: "الظلم مُؤْذِنٌ بخراب العمران".